الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2905 (16) باب في وضع الجائحة

                                                                                              [ 1642 ] عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟

                                                                                              رواه مسلم (1554)، وأبو داود (3470)، والنسائي ( 7 \ 265 )، وابن ماجه (2119). [ 1643 ] وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح.

                                                                                              رواه أحمد ( 3 \ 309 )، ومسلم (1554) (17)، وأبو داود (3374)، والنسائي ( 7 \ 265 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (16) ومن باب: وضع الجوائح

                                                                                              (قوله: لو بعت من أخيك ثمرا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق ) دليل واضح على وجوب إسقاط ما أجيح من الثمرة عن المشتري. ولا يلتفت إلى قول من قال: إن ذلك لم يثبت مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ثبت من قول أنس ؛ لأن ذلك ليس بصحيح؛ بل الصحيح: رفع ذلك من حديث جابر وأنس . على ما ذكرناه في الأصل، واعتضد ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح.

                                                                                              [ ص: 424 ] وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:

                                                                                              أحدها: لا يوضع منها شيء عن المشتري؛ لأنها كلها في ضمانه بالشراء. وبه قال الشافعي في الجديد.

                                                                                              وثانيها: أنها توضع عنه، قليلها، وكثيرها. وبه قال أحمد بن حنبل ، وأبو عبيد القاسم بن سلام . وبه قال الشافعي في القديم.

                                                                                              وثالثها: الفرق بين أن تأتي الجائحة على الثلث فأكثر، فتوضع عن المشتري، أو على أقل من الثلث، فلا توضع، وتكون منه، وهو قول مالك وأصحابه.

                                                                                              حجة القول الأول: حديث أبي سعيد الخدري ؛ الذي قال فيه: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: (خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك). وهذا واضح في أنه أجيحت الثمرة، ولم يوضع منها شيء عن المشتري، ويعضد هذا: بأنه قد أقبضه؛ إذ قد خلى بينه وبينها. وذلك هو قبضها، فإن قبض كل شيء بحسبه. وقد انفصل أصحابنا عن هذا الحديث: بأن الأحاديث المتقدمة أولى لوجهين:

                                                                                              أحدهما: أنها ذكرت لبيان القاعدة وحكمها. وهذا الحديث واقعة معينة. فالأول أولى.

                                                                                              وثانيهما: أنه يحتمل أن يكون اشترى تلك الثمرة بعد تناهي طيبها، وإذ ذاك [ ص: 425 ] لا تحتاج إلى تبقية، ولا إلى سقي، فيكون ضمانها من المشتري على كل حال.

                                                                                              حجة القول الثاني: ما تقدم من الحديث. ويعضد ذلك: بأنها بقي فيها حق توفية. فكأنها لم تقبض. وذلك: أنها محتاجة إلى بقائها إلى تكامل طيبها على أصولها؛ إذ بقي على البائع سقيها إلى انتهائها، فكان ذلك كالتوفية بالكيل والوزن. فما بيع من ذلك فهلك قبل كيله ووزنه، فمصيبته من بائعه قولا واحدا.

                                                                                              وأما تفريق مالك بين القليل والكثير فوجهه: أن القليل معلوم الوقوع، بحكم العادة؛ إذ لا بد من سقوط شيء منه، وعفنه، وتتريبه. فكأن المشتري دخل عليه، ورضي به، وليس كذلك الكثير. فإنه لم يدخل عليه. فلما افترق الحال في العادة فينبغي أن يفترق في الحكم. وإذا لم يكن بد من فرق بينهما، فالقليل ما دون الثلث. والكثير: الثلث فما زاد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الثلث، والثلث كثير، أو كبير).

                                                                                              ثم هل يعتبر ثلث مكيله الثمرة، أو ثلث الثمن؟ قولان:

                                                                                              الأول لابن القاسم . والثاني لأشهب . وقد اعتذر لأبي حنيفة رحمه الله تعالى عن الأمر بوضع الجوائح: بأن ذلك إنما كان في حق من باع الثمرة قبل بدو الصلاح، كما كانوا يفعلون قبل النهي عن ذلك. وأجيب بأن ذلك تخصيص لا دليل عليه. فإن الأمر بوضع الجوائح عام. وأيضا: فقوله صلى الله عليه وسلم: ( لو بعت من أخيك ثمرا ...) يدل على البيع الشرعي، لا الممنوع. فكيف يذكر البيع الفاسد، ولا ينهى عنه، ولا يبين فساده، ثم يعدل عنه في إبطاله إلى أمر خارج عنه؛ فظاهر هذا الحديث: أن هذا البيع وقع صحيحا. وذلك لا يكون إلا بعد الزهو، ثم طرأت الجائحة. فعلل منع حلية المال بها. وحاصل ما ذكرنا: أن الأمر بوضع الجائحة يتضمن صحة بيع ما توضع فيه الجائحة لا إفساده. وهذا واضح لمن تأمله.




                                                                                              الخدمات العلمية