الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3022 (38) باب

                                                                                              إثم من غصب شيئا من الأرض

                                                                                              [ 1703 ] عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن أروى بنت أويس، ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شبرا بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أخذ شبرا من الأرض ظلما، طوقه إلى سبع أرضين"، فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا. فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها. قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينا هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت.

                                                                                              وفي رواية: فقال سعيد: دعوها وإياها. وفيها: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر، تقول: أصابتني دعوة سعيد.


                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 387 )، ومسلم (1610) (139). [ 1704 ] وعن أبي سلمة، وكان بينه وبين قومه خصومة في أرض، وأنه دخل على عائشة فذكر ذلك لها فقالت: يا أبا سلمة، اجتنب الأرض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم قيد شبر من الأرض، طوقه من سبع أرضين".

                                                                                              رواه البخاري (2453)، ومسلم (1612). [ 1705 ] ومن حديث أبي هريرة: "لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة".

                                                                                              رواه مسلم (1611). [ ص: 534 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 534 ] (38) ومن باب إثم من غصب شيئا من الأرض

                                                                                              (قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين ) هذا وعيد شديد، يفيد: أن أخذ شيء من الأرض بغير حقه من أكبر الكبائر على أي وجه كان من غصب، أو سرقة، أو خديعة، قليلا كان أو كثيرا. ألا تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن كان قيد شبر).

                                                                                              واختلف في معنى: (طوقه). فقيل: معناه: كلف أن يطيق حمله، كما قال تعالى: ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة [آل عمران: 161] وقد جاء في غير "مسلم": (جاء يحمله يوم القيامة إلى سبع أرضين) وفي أخرى: (كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر). وقيل: جعلت في عنقه كالطوق؛ كما قال تعالى: سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة [آل عمران: 180] وهو ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها: (طوقه من سبع أرضين). وقيل: [ ص: 535 ] خسف به في مثل الطوق منها. وهو ظاهر قوله: (طوقه الله إلى سبع أرضين). وفي " البخاري " نصا: (خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين). وقيل: يجمع ذلك كله عليه. وقد دل على ذلك ما رواه الطبري في هذا الحديث، وقال: (كلفه الله حمله حتى يبلغ سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضي الله بين الناس). والله تعالى أعلم.

                                                                                              وفيه ما يدل: على أن الأرضين سبع، كما قال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن [الطلاق: 12] أي: في العدد؛ لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار، فتعين العدد، والله تعالى أعلم. وقد استدل به الداودي : على أن السبع الأرضين لم يفتق بعضها من بعض. قال: لأنه لو فتق بعضها من بعض لم يطوق منها ما ينتفع به غيره. وقد جاء في غلظهن، وما بينهن خبر، وليس في ذلك شيء صحيح. وقد استدل غيره به: على أن من ملك شيئا من الأرض ملك ما تحته مما يقابله. فكل ما يجد فيه من معدن، أو كنز فهو له. وقد اختلف في ذلك في المذهب. فقيل ذلك، وقيل: هو للمسلمين. وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره. وكذلك: أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد، فيمنع.

                                                                                              وقول مروان لما سمع الحديث: (لا أسألك بينة) قرأناه بفتح الكاف على خطاب سعيد ، وهو صحيح، وفيه إشكال؛ وذلك: أن الأرض كانت في يد سعيد وادعت المرأة: أنه غصبها إياها. ألا ترى قول عروة : إن أروى ادعت على سعيد : أنه أخذ لها شيئا من أرضها، فهو المدعى عليه، وكيف يكلف المدعى عليه إقامة البينة على إبطال دعوى المدعي؟ ! وإنما القضاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي [ ص: 536 ] المدعي: (شاهداك أو يمينه) وإنما يصلح أن يخاطب بهذه الكاف المدعية. وعلى هذا: فينبغي أن تكون مكسورة، ويكون مروان قال ذلك لها كفا لها عن تماديها على دعواها؛ لعلمه بصدق سعيد من جهة قرائن أحواله، لا أن الخبر الذي ذكره يدل على براءته من دعواها، لكن ما كان معلوما من دين سعيد ومن ورعه وفضله، وأنه مشهود له بالجنة، وعظم هذا الوعيد الشديد الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة مع نزارة هذا القدر المدعى عليه به. فحصل عند مروان العلم بصدقه، فقال للمرأة: لا أسألك بينة؛ أي: لأنك لا تجدينها بوجه. ثم إنه لم يقض بينهما بشيء، ولم يحوجه سعيد إلى قضاء، بل بادر إلى أن سلم لها ما ادعته وزادها من أرضه. فقال: دعوها لها.

                                                                                              قلت: فهذا الذي ظهر لي في هذا الخطاب، فإنه إن كان متوجها لسعيد لزم أن يكون مروان عدل عن جهة القضاء المنصوص عليها؛ التي لا اختلاف فيها، وأن سعيدا أقره عليها. وكل ذلك باطل، فتعين ما اخترناه، والله تعالى أعلم.

                                                                                              ويعني ب (البينة): من يشهد لسعيد بصحة الحديث الذي رواه؛ لأنه صدقه في الرواية، ولم يحتج إلى الاستظهار بزيادة شهادة غيره على ذلك، ولم يرد بالبينة هنا: الشهادة التي يستند حكم الحاكم إليها؛ لأنها لا تلزم المدعى عليه، فكيف يسقط عنه ما لا يلزم؟

                                                                                              و (قول سعيد : اللهم ! إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها ) [ ص: 537 ] دليل على أن سعيدا استجاز الدعاء على الظالم بأكثر مما ظلم فيه. وفيه إشكال مع قوله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها [الشورى: 40] وقوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة: 194] ووجه الإشكال: أنه كما لا يجوز أن يأخذ من الظالم والغاصب زيادة على القصاص، أو على مقدار ما أخذ، كذلك لا يجوز أن يدعو عليه بزيادة على ذلك، لإمكان الإجابة، فتحصل الزيادة الممنوعة، ولو لم يستجب له؛ أليس قد أراد وتمنى شرا زائدا على قدر الجناية للمسلم؟ ! وهو ممنوع منه، وإنما الذي يجوز أن يدعو به على الظالم: أن يقول: اللهم خذ لي حقي منه. اللهم افعل به ما فعل، وما أشبه ذلك ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى: 43]

                                                                                              ويجاب عنه بالفرق بين الدعاء على الظالم بأكثر مما ظلم فيه، وبين أن يفعل به أكثر مما ظلم فيه؛ فإن الدعاء ليس مقطوعا بإجابته، فإذا صدر عن المظلوم بحكم حرقة مظلمته، وشدة موجدته، لم نقل: إنه صدر عنه محرم، وغاية ذلك: أن يكون ترك الأولى؛ لأنه منتصر، ولأنه لم يصبر. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياك ودعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) ويدل على جواز ذلك: ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا خلق الثياب، فأمره أن يلبس ثوبيه، فلما لبسهما قال: (ما له؟ - ضرب الله عنقه - أليس هذا خيرا) وفي كتاب أبي داود : عن [ ص: 538 ] سعيد بن غزوان ، عن أبيه: أنه مر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك ، وهو يصلي، فقال: (قطع صلاتنا، قطع الله أثره) قال: فما قمت عليهما إلى يومي هذا - يعني: رجليه -؛ فدل هذا على أن الدعاء المذكور ليس محرما.

                                                                                              وأما قوله: إنه أراد الشر للظالم وتمناه. فنقول بجواز ذلك، ليرتدع الظالم عن شره، أو غيره ممن يريد الظلم والشر. ولو سلمنا: أن ذلك لا يجوز لأمكن أن يقال: إنه لا يلزم من الدعاء بالشر أن يكون ذلك الشر متمنى، ولا مرادا للداعي، فإن الإنسان قد يدعو على ولده وحبيبه بالشر؛ بحكم بادرة الغضب، ولا يريد وقوعه به، ولا يتمناه، والله تعالى أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية