الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3254 [ 1822 ] وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته، فينتقل طعامه؟ فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه.

                                                                                              وفي رواية: (فينتثل) بدل: (فينتقل).

                                                                                              رواه البخاري (2435) ومسلم (1726) وأبو داود (2623) وابن ماجه (2302).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و(قوله: لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ) إنما كان هذا لأن أصل الأملاك بقاؤها على ملك ملاكها، وتحريمها على غيرهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) وكما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) إلى غير ذلك. وهذا أصل ضروري معلوم من الشرائع كلها. وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس في تناوله، ولا فرق بين اللبن والثمرة وغيرها في ذلك، غير أن العلماء قد اختلفوا فيهما. فذهب الجمهور إلى أنه لا يحل شيء من لبن الماشية، ولا من التمر إلا إذا علم طيب نفس صاحبه به؛ تمسكا بالأصل المذكور، وبهذا الحديث.

                                                                                              وذهب بعض المحدثين: إلى أن ذلك يحل وإن لم يعلم حال صاحبه; لأن ذلك حق جعله الشرع له؛ تمسكا بما رواه أبو داود عن الحسن ، عن سمرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أتى أحدكم على ماشية; فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له، فليحتلب، وليشرب، وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا; فإن أجابه فليستأذنه، فإن أذن له، وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل).

                                                                                              [ ص: 195 ] وذكره الترمذي عن يحيى بن سليم ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من دخل حائطا فليأكل، ولا يتخذ خبنة ). قال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم .

                                                                                              وذكر من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلق فقال: (من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ). قال فيه: حديث حسن.

                                                                                              قلت: ولا حجة في شيء من هذه الأحاديث لأوجه:

                                                                                              أحدها: أن التمسك بالقاعدة المعلومة أولى.

                                                                                              وثانيها: أن حديث النهي أصح سندا، فهو أرجح.

                                                                                              وثالثها: أن ذلك محمول على ما إذا علم طيب نفوس أرباب الأموال بالعادة أو بغيرها.

                                                                                              ورابعها: أن ذلك محمول على أوقات المجاعة والضرورة، كما كان ذلك في أول الإسلام. والله تعالى أعلم.

                                                                                              فرع: لو اضطر فلم يجد ميتة; وجب عليه إحياء رمقه من مال الغير. وهل يلزمه قيمة ما أكل أم لا؟ قولان في المذهب، والجمهور على وجوبها عليه إذا أمكنه ذلك، فإن وجد ميتة وطعاما للغير; فإن أمن على نفسه من القطع والضرر أكل الطعام ويغرم قيمته، وقيل: لا يغرم، وإن لم يأمن على نفسه أكل الميتة، قاله مالك .

                                                                                              غير أنه قد جرت عادة بعض الناس بالمسامحة في أكل بعض الثمر، كما قد [ ص: 196 ] اتفق في بعض بلادنا، وفي شرب بعض لبن الماشية، كما كان ذلك في أهل الحجاز ، فيكون استمرار العادة بذلك وترك النكير فيه دليلا على إباحة ذلك، ولذلك شرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر - رضي الله عنه - من لبن غنم الراعي في طريق الهجرة، ويمكن أن تحمل الأحاديث المتقدمة على العادة الجارية عندهم في اللبن والثمرة.

                                                                                              و(قوله: أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته، فينتقل طعامه ). المشربة: سقيفة يختزن فيها الطعام، وقيل: هي كالغرفة، وتقال بضم الراء وفتحها.

                                                                                              فيه من الفقه: استعمال القياس، وإباحة خزن الطعام واحتكاره إلى وقت الحاجة، خلافا لغلاة المتزهدة القائلة: لا يجوز الادخار مطلقا.

                                                                                              و( ينتقل طعامه ) معناه: يؤخذ وينقل إلى موضع آخر، وهو معنى: ( ينتثل ) في الرواية الأخرى، إلا أن النثل النثر بمرة واحدة. يقال: نثل ما في كنانته; أي: صبها.

                                                                                              و(قوله: فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم ) ظاهر تشبيه ضرع الماشية بالخزانة يقتضي أن من حلب ماشية أحد في خفية، وكان قيمة ما حلب نصابا قطع، كما يقطع من أخذه من خزانته، فيكون ضرع الماشية حرزا. وقد قال به بعض العلماء. فأما مالك فلم يقل به، إلا إذا كانت الغنم في حرز.

                                                                                              وفيه من [ ص: 197 ] الفقه: تسمية اللبن طعاما، فمن حلف ألا يأكل طعاما; فشرب لبنا، حنث، إلا أن يكون له نية في نوع من الأطعمة.

                                                                                              وفيه حجة لمن منع بيع الشاة اللبون باللبن إذا كان في ضرعها لبن حاضر، وهو مذهب مالك والشافعي فإن لم يكن فيها لبن حاضر أجازه مالك نقدا، ومنعه إلى أجل. واختلف أصحابه، فحمله جلتهم على عمومه، وقال بعضهم: إنما هذا إذا قدم الشاة، فلو كانت هي المؤخرة جاز، وأجاز بيعها بالطعام نقدا، وإلى أجل.

                                                                                              وأجاز الأوزاعي شراءها باللبن وإن كان في ضرعها لبن، ورآه لغوا وتابعا، ولم يجز الشافعي ولا أبو حنيفة بيعها بطعام إلى أجل.




                                                                                              الخدمات العلمية