الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4229 [ 2197 ] وعن معاذ بن جبل قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا حتى إذا كان يوم آخر أخر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج بعد ذلك فصلى المغرب والعشاء جميعا، ثم قال: "إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي" فجئناها، وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما من مائها شيئا؟ ". قالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيه، فجرت العين بماء منهمر - أو قال: غزير - حتى استقى الناس، ثم قال: "يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا".

                                                                                              رواه أحمد ( 5 \ 237 -238)، ومسلم (706) في الفضائل (10)، وأبو داود (1206)، والترمذي (553)، والنسائي ( 1 \ 285 )، وابن ماجه (1070).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك ") هي موضع معروف بطريق [ ص: 55 ] الشام فيه ماء، وهذه الغزوة: هي آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزو الروم ، فخرج فيها في شهر رجب سنة تسع من الهجرة في حر شديد لسفر بعيد، وخرج معه أهل الصدق من المسلمين، وتخلف عنه جميع المنافقين، وكانت غزوة أظهر الله فيها من معجزات نبيه صلى الله عليه وسلم وكراماته، ما زاد الله المؤمنين به إيمانا، وأقام بذلك على الكافرين حجة وبرهانا.

                                                                                              و (قوله: " فكان يجمع الصلاة فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا ") ظاهر هذا المساق أنه أوقع الظهر والعصر في أول الوقت مجموعتين، وكذلك المغرب والعشاء؛ لأنه قال بعد ذلك: ( حتى إذا كان يوم آخر أخر الصلاة، ثم خرج، فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعا ). وظاهره أنه أخر الصلاتين إلى آخر وقتهما المشترك. وهو حجة لمالك ، فإنه يقول بجواز كل ذلك، على تفصيل له في الأفضل من ذلك، كما قدمناه، وهو أيضا حجة للشافعي عليه في اشتراطه في جواز الجمع بين الصلاتين استعجال السير، والشافعي لا يشترطه، وقد تقدم كل ذلك في كتاب الصلاة.

                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم: " إنكم ستأتون غدا - إن شاء الله - عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار ") ظاهره: أن هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن غيب بوحي، ويحتمل غير ذلك.

                                                                                              و (قوله: " فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا ") إنما نهاهم عن ذلك، [ ص: 56 ] ليظهر انفراده بالمعجزة، وتتحقق نسبتها إليه، واختصاصه بها، فإنه إذا شاركه غيره في مس مائها، لم يتمحض اختصاصه بها، ولذلك لما وجد الرجلين عليها، أمر أن يغرف له من مائها، وكأنه كان أراد أن يباشر الماء وهو في موضعه، لكن لما سبقه غيره إليها، جمعوا له من مائها، فغسل فيه يديه ووجهه، ثم أمر أن يعاد ذلك الماء فيها، فلما فعلوا ذلك جاءت العين بماء منهمر، وسمع له حس كحس الصواعق.

                                                                                              و (قوله: " والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء ") الرواية المشهورة: " تبض " بالضاد المعجمة، أي: تسيل بماء قليل رقيق مثل شراك النعل، وقد روي بالصاد المهملة، وكذلك وقع في البخاري ، أي: تبرق. يقال: بص يبص بصيصا، ووبص يبص وبيصا بمعناه. وسب النبي صلى الله عليه وسلم السابقين للماء يحتمل أن يكون: لأنهما كانا منافقين قصدا المخالفة، فصادف السب محله. ويحتمل أن كانا غير منافقين، ولم يعلما بنهي النبي صلى الله عليه وسلم ويكون سبه لهما لم يصادف محلا، فيكون ذلك لهما رحمة وزكاة، كما قاله صلى الله عليه وسلم: " اللهم من لعنته، أو سببته وليس لذلك بأهل، فاجعل ذلك له زكاة، ورحمة، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة ".

                                                                                              و " المنهمر ": الكثير الانصباب، و " يوشك ": يجيء ويسرع. وقد تقدم الكلام عليها، و " الجنان ": البستان من النخل وغيره، سمي بذلك لأنه يجن أرضه وما تحته، أي: يستر ذلك.

                                                                                              [ ص: 57 ] وقد اشتمل هذا الحديث على معجزتين عظيمتين، إحداهما: نبع الماء المذكور. والثانية: تعريفه بكثير من علم الغيب، فإن تبوك من ذلك الوقت سكنت لأجل ذلك الماء، وغرست بساتين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.




                                                                                              الخدمات العلمية