الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويكره اصطلاحا تأخير الجواب ) وهو الحكم المفتى به ، تأخيرا ( كثيرا ) قال أبو محمد الجوزي : ويستحب له أن يأخذ في الدليل عقب السؤال عنه ، وإن أخره لم يكن منقطعا إلا إن عجز عنه مطلقا ( ولا يكفي عزو حديث إلى غير أهله ) أي أهل الحديث ; لأن المطلوب منه ما يحتج به من الأحاديث ، بأن يكون أحد أئمة الحديث صححه أو حسنه ( وينقطع السائل بعجزه عن بيان السؤال ، و ) بيان ( طلب الدليل ، و ) طلب ( وجهه ) أي وجه الدليل ( وطعنه في دليل المستدل ومعارضته ) لدليل المستدل ( وانتقال ) السائل ( إلى دليل آخر ، أو ) إلى ( مسألة أخرى قبل تمام ) المسألة ( الأولى ) .

قال في الواضح : اعلم أن الانقطاع هو العجز عن إقامة الحجة من الوجه الذي ابتدأ منه المقالة والانقطاع في الأصل : هو الانتفاء للشيء عن الشيء ، وذلك أنه لا بد من أن يكون انقطاع شيء عن شيء ، وهو على ضربين . أحدهما : تباعد شيء عن شيء ، كانقطاع طرف الحبل عن جملته ، وانقطاع الماء عن مجراه ، والآخر : عدم شيء عن شيء كانقطاع ثاني الكلام عن ماضيه ، وتقدير الانقطاع في الجدل على أنه انقطاع القوة عن النصرة للمذهب الذي شرع في نصرته قال صاحب الواضح أيضا : ( ومن الانتقال ما ليس انقطاعا ، كمن سئل عن رد اليمين فبناه على الحكم بالنكول ، أو ) سئل عن ( قضاء صوم نفل فبناه على لزوم إتمامه ) ( وإن طالبه السائل بدليل على ما سأله فانقطاع منه ) أي من السائل ( لبناء بعض الأصول على بعض ) ، ( وليس لكلها ) أي كل الأصول ( دليل يخصه ) ، ( و ) ينقطع ( المسئول بعجزه عن الجواب ، و ) عن ( إقامة الدليل ، و ) عن ( تقوية وجهه ) أي وجه الدليل ( و ) عن ( دفع الاعتراض ) الوارد عليه ( وكلاهما ) أي وينقطع كل من السائل والمسئول ( بجحد ) أي إنكار ( ما عرف من مذهبه أو ثبت بنص و ) الحال أن ( ليس مذهبه خلافه أو ) ثبت ( بإجماع ) .

( و ) ينقطع كل منهما أيضا ( بعجزه عن إتمام ما شرع فيه ، وخلط كلامه على وجه لا يفهم ، وسكوته ) حال كون سكوته ( حيرة بلا عذر ، وتشاغله بما لا يتعلق بالنظر ) أي بالتأمل فيما هم فيه ( وغضبه [ ص: 584 ] أو قيامه عن مكانه ) الأول ( وسفهه على خصمه ) ذكر ذلك الأصحاب : قال صاحب الواضح : وذلك أن المسألة تكون مراتبها خمسة . فيكون مع المجادل قوة على المرتبة الأولى والثانية ، ثم ينقطع ، فلا تكون له قوة على المرتبة الثالثة وما بعدها من المراتب ، وانقطاع القوة عن الثالثة عجز عن الثانية . فلذلك قلنا : الانقطاع في الجدل عجز عنه ، وكل انقطاع في الجدل عجز عنه . وليس كل عجز عنه انقطاعا فيه ، وإن كان عاجزا عنه ، وأطال في ذلك جدا . ثم ذكر الانقطاع بالمكابرة ، ثم بالمناقضة ، ثم بالانتقال ، ثم بالمشاغبة ، ثم بالاستفسار ، ثم بالرجوع إلى التسليم ، ثم بجحد المذهب ، ثم بالمسابة .

( و ) ينقطع كل منهما أيضا ( بالشغب بالإبهام بلا شبهة ) قال في الواضح : اعلم أن الانقطاع بالمشاغبة عجز عن الاستفهام لما تضمن من نصرة المقال إلى الممانعة بالإبهام من غير حجة ولا شبهة . وحق مثل هذا إذا وقع : أن يفصح فيه بأنه شغب ، وأن المشغب لا يستحق زيادة فإن كان المشغب مسئولا قيل له : إن أجبت عن المسألة وإلا زدنا عليك ، وإن لم تجب عنها أمسكنا عنك ، وإن كان سائلا قيل له : إن حصلت سؤالا سمعت جوابا وإلا فلا فإن المشغب لا يستحق جوابا . فإن لج وتمادى في غيه أعرض عنه ; لأن أهل العلم إنما يتكلمون على ما فيه حجة أو شبهة فإذا عري الجدل عن الأمرين إلى الشغب لم يكن فيه فائدة ، وكان الأولى بذي الرأي الأصيل والعقل الرصين : أن يصون نفسه ، ويرغب بوقته عن التضييع معه ، ولا سيما إذا كان الاشتغال به مما يوهم الحاضرين أن صاحبه سالك لطريق الحجة ، فإنه ربما كان ذلك بما يرى منه من حسن العبارة . والاغترار بإقبال خصمه عليه بالمناظرة فحق مثل هذا : أن يبين له : أنه على جهة المشاغبة دون طريق الحجة أو الشبهة ( ولا ينقطع مسئول بترك الدليل لعجز فهم السامع ) الذي هو السائل ( أو انتقاله ) أي المسئول ( إلى ) دليل ( أوضح منه ) أي من الدليل الأول ( لقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ) مع نمروذ قال ابن عقيل في الفنون : لما قابل نمروذ قول إبراهيم في الحياة الحقيقية بالحياة المجازية ، انتقل الخليل إلى دليل [ ص: 585 ] لا يمكنه مقابلة الحقيقة فيه بالمجاز ومن انتقل من دليل غامض إلى دليل واضح : فذلك طلب للبيان ، وليس انقطاعا قال في الواضح : فإن قيل : فقد انتقل إبراهيم عليه الصلاة والسلام من علة إلى غيرها ، وكان في مقام المحاجة كما أخبر الله - سبحانه وتعالى - عنه وبهذا تعلق من رأى أن الانتقال من دليل إلى غيره ليس بانقطاع ، ولا خروج عن مقتضى الجدال والحجاج . قيل : لم يكن انتقاله للعجز ; لأنه قد كان يقدر أن يحقق مع نمروذ حقيقة الإحياء الذي أراده ، وهو إعادة الروح إلى جسد الميت ، أو إنشاء حي من الأموات وأن الإماتة التي أرادها : هي إزهاق النفس من غير ممارسة بآلة ولا مباشرة . ويقال له : إذا فعلت ذلك كنت محييا مميتا ، أو فافعل ذلك إن كنت صادقا . ومعاذ الله أن يظن ذلك بذلك النبي الكريم . وما عدل عما ابتدأ به إلى غيره عجزا عن استتمام النصرة ، لكنه لما رأى نمروذ غبيا أو متغابيا بما كشفه عن نفسه من دعوى الإحياء ، وهو العفو عن مستحق القتل ، والإماتة ، وهي القتل الذي يساوي به كل أهل مملكته وأصاغر رعيته انتقل إلى الدليل الأوضح في باب تعجيزه عن دعواه فيه المشاركة لبارئه سبحانه ، بحكم ما رأى من الحال فلم يوجد في حقه العجز عن إتمام ما بدأ به ، بخلاف ما نحن فيه . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية