الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      البحث الثامن : قال الشيخ أبو إسحاق : هذه أول مسألة نشأت في

                                                      [ ص: 25 ] الاعتزال ، وقالت المعتزلة بمنزلة بين المنزلتين ، أي جعلوا الفسق منزلة متوسطة بين الكفر والإيمان لما علموا أن الإيمان في اللغة التصديق ، والفاسق موحد ومصدق ، فقالوا : هذه حقيقة الإيمان في اللغة ، ونقل في الشرع إلى من يرتكب شيئا من المعاصي . فمن ارتكب شيئا منها خرج عن الإيمان ، ولم يبلغ الكفر ، ثم أجاز الشيخ أبو إسحاق أن الإيمان يبقى على موضوعه في اللغة ، وأن الألفاظ التي ذكرناها من الصلاة والصيام والحج وغير ذلك منقولة ، قال : وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ ، وإنما يكون على حسب ما يقوم عليه الدليل . ونقل الإمام محمد بن نصر المروزي عن أبي عبيد أنه استدل على أن الشارع نقل الإيمان عن معناه اللغوي إلى الشرعي بأنه نقل الصلاة والحج ونحوهما إلى معان أخرى قال : فما بال الإيمان ؟ وهذا يدل على تخصيص الخلاف بالإيمان ، وهو الذي وقع فيه النزاع في ظهور الاعتزال . وقال ابن برهان : حرف المسألة أن القضاء بنقل الأسامي لا يفضي إلى تفسيق الصحابة ، ولا إلى خروج الفاسق إلى الإيمان ، وعندهم يفضي إلى ذلك

                                                      البحث التاسع : أن الخلاف في هذه المسألة تظهر فائدته في مسألتين . إحداهما وهو أصله أنه هل بين الإيمان والكفر واسطة وهو الفسق أم لا ؟ فأهل السنة لا يثبتونه ، وأثبتته المعتزلة قائلين بأن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ، ولا [ ص: 26 ] كافر ، أما أنه ليس بكافر فبالإجماع ، وأما أنه ليس بمؤمن فلأن الإيمان فعل الواجب الذي منه كف النفس عن الشهوات ، وقد أخل به فرأوا أن التعبير بالتسمية وقع من الشرع ، وأنه أراد به معنى لم تردهالعرب ، وحملوا على ذلك ظواهر الأحاديث النافية للإيمان عن مرتكب الكبيرة ، نحو : { لا يزني الزاني وهو مؤمن } وأنه لم يرد نفي التصديق . وأما الأشعرية فيؤولونه على المستحيل وغيره ، ومنعوا كون الشرع غير اللغة ، بل التصديق باق فيه ، وقالوا : صاحب الكبيرة مؤمن مطيع بإيمانه ، وكذا القول في الأسماء الفرعية ، كمن صلى بغير قراءة ، فمن رأى أنها باطلة قال : إنه ما أتى بما يسمى صلاة في اللغة ، وقد قال تعالى : { وأقيموا الصلاة } ومن صححها قال : دعاء الشرع غير دعاء اللغة ، وكذا الباقي . واستشكل الإمام في المعالم " على الشافعي أن القاعدة : أن الماهية المركبة تنتفي بانتفاء جزء من أجزائها ، ولا شك أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل واعتقاد ، فينبغي إذا انتفى العمل أن ينتفي الإيمان ، قال : وهو سؤال صعب ، ولأجله طردت المعتزلة مذهبهم فسلبوا الإيمان عنه . وقد ذكر هذه الشبهة الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة " وأجاب عنها : بأن للإيمان أصلا متى نقص عنه مثقال ذرة زال عنه اسم الإيمان ، وقوله : ينقص لم يزل الاسم ، ولكن يزداد بعد إيمانا إلى إيمانه ، فإن نقصت الزيادة التي بعد الأصل لم ينقص الأصل الذي هو التصديق ، وذلك كنخلة تامة ذات أغصان وورق ، فكلما قطع منها غصن [ ص: 27 ] لم يزل عنها اسم الشجرة ، وكانت دون ما كانت عليه من الكمال من غير أن يزول اسمها ، وهي شجرة ناقصة بالنسبة لغيرها من استكمالها التامة

                                                      الفائدة الثانية : أن هذه الأسماء إذا وجدت في كلام الشارع مجردة عن القرينة محتملة المعنى اللغوي والشرعي فعلى أيهما يحمل ؟ فمن أثبت النقل قال : إنها محمولة على عرف الشارع ; لأن العادة أن كل متكلم يحمل لفظه على عرفه ، وقياسه قول القاضي : حملها على المعنى اللغوي ، لكن المنقول عن القاضي أنها مجملة ، وهو مشكل على أصله هنا . قال الإبياري : قول القاضي : إنه مجمل يناقض مذهبه في حجة الأسماء الشرعية . اللهم إلا أن يكون له قول آخر بإثباتها ، وإلا فالإجمال مع اتحاد جهة الدلالة محال ، أو يكون ذلك منه تفريعا على قول من يثبتها ، وهذا ضعيف فإنه من أين له الحكم عليهم ؟ فإنهم يسوون بين النسبة إلى المسميين . قلت : وبهذا الأخير صرح القاضي في " التقريب " فقال : فإن قيل : ما تقولون لو ثبت أسماء شرعية هل تحمل على موجب اللغة أو الشرع ؟ قلنا : يجب الوقف ; لأنه لا يجوز أن يراد بها ما هو لها في اللغة ، ويجوز أن يراد ما هو في الشرع ، ويجوز أن يريد الأمرين ، فيجب لتجويز ذلك الوقف حتى يدل دليل على المراد .

                                                      وقال السهروردي : تردد القاضي بين نفي الكمال والصحة ليس لاعترافه باللغات الشرعية ، بل لأنه يرى الإضمار ، ولا تعين لأحد الإضمارين . واعلم أن الشرعية تطلق على معنيين : ما في كلام الشارع ، وما في [ ص: 28 ] كلام حملة الشرع من المتكلمين والفقهاء ، وهذا الخلاف المذكور في الشرعية ، إنما هو بالنسبة إلى كلام الشارع ، وأما بالنسبة إلى الشرعية فيحمل على المعنى الشرعي بلا خلاف ; لأنها بالنسبة إليهم حقيقة عرفية لا حاجة لهم فيها إلى القرينة كما هو حكم الحقائق . وقال الماوردي في " الحاوي " في أول كتاب الصلاة : اختلف أصحابنا في أن لفظ الصلاة وغيرها هل لا يعقل معناه إلا بالشرع ، أو هو ظاهر قبل ورود البيان ؟ على وجهين . وبنوا عليهما أن اسم الصلاة هل جاء به الشرع كما جاء ببيان الحكم ، أو كان معروفا عند أهل اللسان ، والشرع اختص ببيان الأحكام ؟ فمن قال بالأول قال : إن الشرع أحدث الاسم كالحكم ، ومن قال بالثاني قال : إن الاسم مأخوذ من أهل اللغة ، والبيان من الشرع . وقال أيضا : اختلفوا في اسم الصلاة والزكاة هل جاء ببيان الشرع كما جاء ببيان الحكم ، كان معروفا عند أهل اللسان ، والشرع اختص ببيان الحكم ؟ على ثلاث مذاهب : أحدها : أنه أحدث الأسماء شرعا كالأحكام ، وهذا قول من زعم أن اسم الصلاة مجمل ، فجعله مستحدثا بالشرع ; لأن العرب لم تكن تعرفه على هذه الصفة . والثاني : أن الشرع مختص بورود الأحكام ، وإنما الأسماء مأخوذة من أهل اللغة ; لأن الأسماء لو وردت شرعا لصاروا مخاطبين بما ليس من لغتهم ، وهذا قول من قال : إنها ليست بمجملة . والثالث : وهو قول جمهور أهل العلم وكافة أهل اللغة : أنها أسماء قد كان لها في اللغة حقيقة ومجاز ، فكان حقيقتها ما نقلها الشرع عنه ، ومجازها ما قررها الشرع عليه لوجود معنى من معاني الحقيقة ، فعلى هذا سميت صلاة لما تضمنت من الدعاء هو مسمى في اللغة صلاة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية