الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الحادي والأربعون والمائتان بين قاعدة المعصية التي هي كفر وقاعدة ما ليس بكفر ) :

اعلم أن النهي يعتمد المفاسد كما أن الأوامر تعتمد المصالح فأعلى رتب المفاسد الكفر ، وأدناها الصغائر والكبائر متوسطة بين المرتبتين ، وأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر فأعلى رتب الكبائر يليها أدنى رتب الكفر ، وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر [ ص: 115 ] وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية إما بالجهل بوجود الصانع أو صفاته العلى ويكون الكفر بفعل كرمي المصحف في القاذورات أو السجود للصنم [ ص: 116 ] أو التردد للكنائس في أعيادهم بزي النصارى ، ومباشرة أحوالهم أو جحد ما علم من الدين بالضرورة فقولنا انتهاك خاص احتراز من الكبائر والصغائر فإنها انتهاك ، وليست كفرا وسيأتي بيان هذا الخصوص بعد هذا إن شاء الله تعالى . وجحد ما علم من الدين بالضرورة كجحد الصلاة والصوم ، ولا يختص ذلك بالواجبات والقربات بل لو جحد بعض الإباحات المعلومة بالضرورة كفر كما لو [ ص: 117 ] قال إن الله تعالى لم يبح التين ، ولا العنب ، ولا يعتقد أن جاحد ما أجمع عليه يكفر على الإطلاق بل لا بد أن يكون المجمع عليه مشتهرا في الدين حتى صار ضروريا فكم من المسائل المجمع عليها إجماعا لا يعلمه إلا خواص الفقهاء فجحد مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفرا بل قد جحد أصل الإجماع جماعة كبيرة من الروافض والخوارج كالنظام ، ولم أر أحدا قال بكفرهم من حيث إنهم جحدوا أصل الإجماع وسبب ذلك أنهم بذلوا جهدهم في أدلته فما ظفروا بها كما ظفر بها الجمهور فكان ذلك عذرا في حقهم .

كما أن متجدد الإسلام إذا قدم من أرض الكفر وجحد في مبادئ أمره بعض شعائر الإسلام المعلومة لنا من الدين بالضرورة لا نكفره لعذره بعدم الاطلاع ، وإن كنا نكفر بذلك الجحد غيره وبهذا التقريب نجيب عن سؤال السائل كيف تكفرون جاحد المسائل المجمع عليها ، ولا تكفرون جاحد أصل الإجماع ؟ وكيف يكون الفرع أقوى من الأصل ؟ . والجواب بأن نقول إنا لم نكفر بالمجمع عليه من حيث هو مجمع عليه بل من حيث الشهرة المحصلة للضرورة فمتى انضافت هذه الشهرة للإجماع كفر جاحد المجمع عليه ، وإذا لم تنضف لم نكفره وعلى هذا التقرير لم يجعل الفرع أقوى من الأصل ، وإنما يلزم ذلك أن لو كفرنا به من حيث هو مجمع عليه لا من حيث هو مشتهر فمن جحد إباحة الفرائض لا نكفره من حيث إنه مجمع عليه فإن انعقاد الإجماع فيه إنما يعلمه خواص [ ص: 118 ] الفقهاء أو الفقهاء دون غيرهم ، وألحق الأشعري بالكفر إرادة الكفر كبناء الكنائس ليكفر فيها أو قتل نبي مع اعتقاده صحة رسالته ليميت شريعته ، ومنه تأخير إسلام من أتى ليسلم على يديك فتشير عليه بتأخير الإسلام ؛ لأنه إرادة لبقاء الكفر .

ولا يندرج في إرادة الكفر الدعاء بسوء الخاتمة على من تعاديه وإن كان فيه إرادة الكفر ؛ لأنه ليس [ ص: 119 ] مقصودا فيه انتهاك حرمة الله تعالى بل إذاية المدعو عليه ، وليس منه أيضا اختيار الإمام عقد الجزية على الأسارى على القتل الموجب لمحو الكفر من قلوبهم وفي عقد الجزية إرادة استمرار الكفر في قلوبهم فهو فيه إرادة الكفر ؛ لأن مقصوده توقع الإسلام منهم أو من ذراريهم إذا بقوا أحياء وفي تعجيل القتل عليهم سد باب الإيمان منهم ومن ذريتهم فالمقصود توقع الإيمان وحصول الكفر وقع بالعرض فهو مشروع مأمور به واجب عند تعيين مقتضيه ويثاب عليه الإمام والفاعل له بخلاف الدعاء [ ص: 120 ] بسوء الخاتمة فهو منهي عنه ويأثم قائله ، وإن لم يكفر بذلك .

واستشكل بعض العلماء الفرق بين السجود للشجرة والسجود للوالد في أن الأول كفر دون الثاني ، وإن كان الساجد في الحالتين معتقدا ما يجب لله تعالى ، وما يستحيل ، وما يجوز عليه ، وإنما أراد التشريك في السجود وهو يعتقد بذلك التقرب إلى الله تعالى كما يعتقده الساجد للوالد وقد قالت عبدة الأوثان { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ ص: 121 ] مع أن القاعدة أن الفرق بين الكفر والكبيرة إنما هو بعظم المفسدة وصغرها لاشتراك الجميع في المفسدة والنهي والتحريم ، وما بين هاتين الصورتين من المفسدة التي نعلمها ما يقتضي الكفر في إحداهما دون الأخرى وقد أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا له ، ولم يكن قبلة على أحد القولين بل هو المقصود بالتعظيم بذلك السجود ، ولم يقل أحد إن الله تعالى أمر هنالك بما نهى عنه من الكفر ، ولا أنه أباح الكفر لأجل آدم ، ولا أن في السجود لآدم مفسدة تقتضي كفرا .

ولو فعل من غير أمر ربه ، ولا يمكن أن يقال إن الأمر والنهي عنهما سببا المفاسد والمصالح [ ص: 122 ] فإن نهى عن السجود كان مفسدة ، وإن أمر به كان مصلحة ؛ لأن هذا يلزم منه الدور ؛ لأن المفسدة تكون حينئذ تابعة للنهي مع أن النهي يتبع المفسدة فيكون كل واحد منهما تابعا لصاحبه فيلزم الدور بل الحق أن المفسدة يتبعها النهي ، وما لا مفسدة فيه لا يكون منهيا عنه واستقراء الشرائع يدل على ذلك فإن السرقة لما كان فيها ضياع المال نهى عنها ، ولما كان في القتل فوات الحياة نهى عنه ولما كان في الزنا مفسدة اختلاط الأنساب نهى عنه ، ولما كان في الخمر ذهاب العقول نهى عنه فلا جرم لما صار الخمر خلا ذهب عنه النهي ولما كان عصيرا لا يفسد العقل لم يكن منهيا عنه فالاستقراء دل على أن المفاسد والمصالح سابقة على الأوامر والنواهي ، والثواب [ ص: 123 ] والعقاب تابع للأوامر والنواهي فما فيه مفسدة ينهى عنه فإذا فعل حصل العقاب ، وما فيه مصلحة أمر به فإذا فعل حصل الثواب فالثواب والعقاب في الرتبة الأولى فلو علل الأمر والنهي بالثواب والعقاب لزم تقدم الشيء على نفسه برتبتين ولذلك يقول الأغبياء من الطلبة مصلحة هذا الأمر أنه يثاب عليه فيعللون بالثواب والعقاب وهو غلط [ ص: 124 ]

وأما الجهل بالله تعالى عشرة أقسام ( أحدها ) ما لم نؤمر بإزالته أصلا ، ولم نؤاخذ ببقائه ؛ لأنه لازم لنا لا يمكن الانفكاك عنه وهو جلال الله تعالى وصفاته التي لم تدل عليها الصنعة ، ولم يقدر العبد على تحصيله بالنظر فعفا عنه لعجزنا عنه ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم { لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } وقول الصديق العجز عن درك الإدراك إدراك [ ص: 125 ] وقسم ) أجمع المسلمون على أنه كفر قال القاضي عياض في كتاب الشفاء انعقد الإجماع على تكفير من جحد أن الله تعالى عالم أو متكلم أو غير ذلك من صفاته الذاتية فإن جهل الصفة ، ولم ينفها كفره الطبري وغيره وقيل لا يكفر ، وإليه رجع الأشعري ؛ لأنه لم يصمم على اعتقاد [ ص: 126 ] ذلك ويعضده حديث القائل لئن قدر الله علي ليعذبني الحديث . وحديث { السوداء لما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله قالت في السماء } قال ، ولو كوشف أكثر الناس على الصفات لم يعلمها ( قلت ) فنفي الصفات والجزم بنفيها هو المجمع عليه ، وليس معناه نفي العلم أو الكلام أو الإرادة ونحو ذلك بل العالم والمتكلم والمريد فمن نفى أصل المعنى وحكمه هو المجمع على كفره وهذا هو مذهب جمع كثير من الفلاسفة والدهرية دون أرباب الشرائع .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الحادي والأربعون والمائتان بين قاعدة المعصية التي هي كفر وقاعدة ما ليس بكفر إلى قوله والكبائر متوسطة بين المرتبتين ) :

قلت : إن أراد المفاسد بمقتضى الشرع فلا شك أن الكفر أعظم المفاسد ، وما عداه تتفاوت رتبه . قال : ( وأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر إلى قوله ، وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر ) قلت : ما قاله من أن أكثر التباس الكفر إنما [ ص: 115 ] هو بالكبائر ليس بصحيح وكيف يلتبس الكفر بالكبائر والكفر أمر اعتقادي والكبائر أعمال ، وليست باعتقاد سواء كانت أعمالا قلبية أو بدنية . قال : ( وأصل الكفر أنه انتهاك خاص لحرمة الربوبية ) قلت : ليس الكفر انتهاك حرمة الربوبية ، ولكنه الجهل بالربوبية فلا يصدر عادة ممن يدين بالربوبية . قال : ( أما الجهل بوجود الصانع أو صفاته العلى ) قلت : الجهل بذلك هو الكفر خاصة عند من لا يصحح الكفر عنادا ، وأما عند من يصححه فالكفر إما الجهل بالله تعالى ، وإما جحده وانتهاك الحرمة إنما يكون مع الجهل أما مع العلم فيتعذر عادة والله تعالى أعلم .

قال : ( ويكون الكفر بفعل كرمي المصحف في القاذورات ) قلت : رمي المصحف في القاذورات لا يخلو أن يكون مع العلم بالله تعالى أو مع الجهل به فإن كان مع الجهل فالكفر هو الجهل لا عين رميه ، وإن كان مع العلم بالله تعالى فلا يخلو أن يكون مع التكذيب به أو لا فإن كان مع التكذيب به فهو كفر ، وإلا فهو معصية غير كفر . قال : ( والسجود للصنم ) قلت : إن كان السجود للصنم مع اعتقاد كونه إلها فهو كفر ، وإلا فلا ، بل يكون معصية إن كان لغيره إكراه أو جائز عند الإكراه [ ص: 116 ] قال : ( أو التردد إلى الكنائس في أعيادهم ، ومباشرة أحوالهم ) قلت : هذا ليس بكفر إلا أن يعتقد معتقدهم . قال : ( أو جحد ما علم من الدين بالضرورة ) قلت : هذا كفر إن كان جحده بعد علمه فيكون تكذيبا ، وإلا فهو جهل وذلك الجهل معصية ؛ لأنه مطلوب بإزالة مثل هذا الجهل على وجه الوجوب . قال : ( فقولنا انتهاك خاص احتراز من الكبائر والصغائر فإنها انتهاك ، وليست كفرا وسيأتي بيان هذا الخصوص بعد هذا إن شاء الله تعالى ) قلت : ليست الكبائر والصغائر انتهاكا لحرمة الله تعالى ، وإنما هي جرأة على مخالفة تحمل عليها الأغراض والشهوات . قال : ( وجحد ما علم من الدين بالضرورة إلى قوله ، وإن كنا نكفر بذلك الجحد غيره ) قلت ما قاله في ذلك صحيح إلا كونه اقتصر على اشتراط شهرة ذلك الأمر من الدين بل لا بد من اشتهار ذلك من وصول ذلك إلى هذا الشخص وعلمه به فيكون إذ ذاك مكذبا لله تعالى ولرسوله فيكون بذلك كافرا أما إذا لم يعلم ذلك الأمر ، وكان من معالم الدين المشتهرة فهو عاص بترك التسبب إلى علمه ليس بكافر ، والله تعالى أعلم [ ص: 117 ]

قال : ( وبهذا التقرير نجيب على سؤال السائل إلى قوله الإجماع فيه إنما يعلمه خواص [ ص: 118 ] الفقهاء أو الفقهاء دون غيرهم ) قلت : ما قاله في ذلك صحيح إلا ما نقضه من شرط علم هذا الشخص بذلك الأمر المشتهر . قال : ( وألحق الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله تعالى عنه بالكفر إرادة الكفر كبناء الكنائس ليكفر فيها ) قلت : إن كان بناها الشخص لاعتقاده رجحان الكفر على الإسلام فهو كفر لا شك ، وإن كان بناها الكافر إرادة التقرب إليه والتودد له بذلك فهو معصية لا كفر . قال : ( أو قتل نبي مع اعتقاده صحة رسالته ليميت شريعته ) قلت : ذلك كفر ، ولكن لا يتأتى فرضه إلا على قول من يجوز الكفر عنادا . قال : ( ومنه تأخير إسلام من أتى ليسلم على يديك فتشير عليه بتأخير الإسلام ؛ لأنه إرادة لبقاء الكفر ) قلت : ذلك قد يكون كفرا إن كان إنما أشار بالتأخير لاعتقاده رجحان الكفر ، وقد لا يكون كفرا إن كان إنما أراد بالتأخير لكونه لا يريد لهذا الإسلام لحقد له عليه أو نحو ذلك مما يستلزم أن يعتقد المشير رجحان الكفر . قال : ( ولا يندرج في إرادة الكفر الدعاء بسوء الخاتمة على من تعاديه ، وإن كان فيه إرادة الكفر ؛ لأنه ليس [ ص: 119 ] مقصودا فيه انتهاك حرمة الله تعالى بل إذاية المدعو عليه ) قلت : هذا الذي قاله هنا موافق لما قلته في مسألة الإشارة بتأخير الإسلام من جهة أنه لم يشر بذلك عليه إلا بقصد إذايته لا لاعتقاده رجحان الكفر .

قال : ( وليس منه أيضا اختيار الإمام عقد الجزية على الأسارى على القتل الموجب لمحو الكفر من قلوبهم وفي عقد الجزية إرادة استمرار الكفر في قلوبهم فهو فيه إرادة الكفر ؛ لأن مقصوده توقع الإسلام منهم أو من ذراريهم إذا بقوا أحياء وفي تعجيل القتل عليهم سد باب الإيمان منهم ، ومن ذريتهم فالمقصود توقع الإيمان ، وحصول الكفر وقع بالعرض ) قلت : ما حام عليه في هذا الفصل كله صحيح وهو أن استبقاء الأسارى وضرب الجزية عليهم لا يتعين أنه إيثار لاستمرار الكفر ، وإذا لم يتعين أن يكون لذلك لم يكن كفرا . قال : ( فهو مشروع مأمور به واجب عند تعيين مقتضيه ويثاب عليه الإمام الفاعل له بخلاف الدعاء [ ص: 120 ] بسوء الخاتمة فهو منهي عنه ويأثم قائله ، وإن لم يكفر بذلك ) قلت : ما قاله من أنه مشروع مأمور به عند تعين مقتضيه كذلك يكون لو تعين المقتضي ، ومتى يتعين المقتضيعندنا ونحن لا نعلم عاقبة أمر الأسير ( واستشكل بعض العلماء الفرق بين السجود للشجرة والسجود للوالد : في الأول كفر دون الثاني ، وإن كان الساجد في الحالتين معتقدا ما يجب لله تعالى . وما يستحيل ، وما يجوز عليه ، وإنما أراد التشريك في السجود وهو يعتقد بذلك التقرب إلى الله تعالى كما يعتقده الساجد للوالد وقد قالت عبدة الأوثان { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } )

قلت الساجد للشجرة والساجد للوالد إن سجد كل واحد منهما مع اعتقاد أن المسجود له شريك الله تعالى فهو كفر ، وإن سجد لا مع ذلك الاعتقاد بل تعظيما عاريا عن ذلك الاعتقاد فهو معصية لا كفر ، وإن سجد الساجد للشجرة مع اعتقاد أنه شريك لله تعالى وسجد الساجد للوالد لا مع ذلك الاعتقاد بل تعظيما فالأول كفر والثاني معصية غير كفر أو بالعكس إلا أن نقول أن مجرد السجود للشجرة [ ص: 121 ] كفر ؛ لأنها قد عبدت مدة ، ومجرد السجود للوالد ليس بكفر ؛ لأنه لم يعبد مدة فيفتقر ذلك إلى توقيف . قال : ( مع أن القاعدة أن الفرق بين الكفر والكبيرة إنما هو بعظم المفسدة وصغرها لاشتراك الجميع في المفسدة والنهي والتحريم ، وما بين هاتين الصورتين من المفسدة التي نعلمها ما يقتضي الكفر في إحداهما دون الأخرى وقد أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا له ، ولم يكن قبلة على أحد القولين بل هو المقصود بالتعظيم بذلك السجود ، ولم يقل أحد إن الله تعالى أمر هنالك بما نهى عنه من الكفر ، ولا أنه أباح الكفر لأجل آدم ، ولا أن في السجود لآدم مفسدة تقتضي كفرا لو فعل من غير أمر ربه ، ولا يمكن أن يقال إن الأمر والنهي عنهما سببا المفاسد والمصالح [ ص: 122 ] فإن نهى عن السجود كان مفسدة ، وإن أمر به كان مصلحة ؛ لأن هذا يلزم منه الدور ؛ لأن المفسدة تكون حينئذ تابعة للنهي مع أن النهي يتبع المفسدة فيكون كل واحدة منهما تابعا لصاحبه فيلزم الدور بل الحق أن المفسدة يتبعها النهي ، وما لا مفسدة فيه لا يكون منهيا عنه واستقراء الشرائع يدل على ذلك فإن السرقة لما كان فيها ضياع المال نهى عنها ولما كان في القتل فوات الحياة نهى عنه ولما كان في الزنا مفسدة اختلاط الأنساب نهى عنه ولما كان في الخمر ذهاب العقول نهى عنه فلا جرم لما صار الخمر خلا ذهب النهي عنه ، ولما كان عصيرا لا يفسد العقل لم يكن منهيا عنه فالاستقراء دل على أن المفاسد والمصالح سابقة على الأوامر والنواهي ، والثواب [ ص: 123 ] والعقاب تابع للأوامر والنواهي فما فيه مفسدة نهى عنه فإذا فعل حصل العقاب ، وما فيه مصلحة أمر به فإذا فعل حصل الثواب فالثواب والعقاب في الرتبة الثالثة ، والأمر والنهي في الرتبة الثانية ، والمفسدة والمصلحة في الرتبة الأولى فلو علل الأمر والنهي بالثواب والعقاب لزم تقدم الشيء على نفسه برتبتين ولذلك يقول الأغبياء من الطلبة مصلحة هذا الأمر أنه يثاب عليه فيعللون بالثواب والعقاب وهو غلط ) .

قلت : تبعية الأمر بالمأمور به الواجب مثلا لمصلحته إنما معناها والمراد بها أنه لولا القصد إلى تحصيل المصلحة ما شرع وتبعية المصلحة للأمر إنما معناها والمراد بها أنه لولا شرعية الأمر الباعث على فعل المأمور به ما حصلت فالمأمور به تابع للمصلحة وجوبا والمصلحة تابعة له وجودا ، ولا غرو أن يكون أحد الشيئين تابعا للثاني من وجه ويكون الثاني تابعا له من وجه آخر كالشجرة والثمرة ، الشجرة تابعة للثمرة أي لولا المقصد إلى تحصيل الثمرة ما زرعت الشجرة والثمرة تابعة للشجرة أي لولا زرع الشجرة ما حصلت الثمرة وعلى هذين [ ص: 124 ] التقريرين يبطل ما ادعاه من الدور ويصح ما قاله الأغبياء من أن الثواب هي المصلحة وهي تابعة وجود الفعل الواجب وفعل الواجب تابع وجوبا لتحصيل المصلحة ، والموجب لتوهمه الدور الممتنع إنما هو الغفلة عن تغاير جهتي التبعية ، وقد انزاح الإشكال والحمد لله ذي المن والإفضال .

قال ( وأما الجهل بالله تعالى فهو عشرة أقسام أحدهما ما لم نؤمر بإزالته أصلا ، ولم نؤاخذ ببقائه ؛ لأنه لازم لنا لا يمكن الانفكاك عنه وهو جلال الله تعالى وصفاته التي لم تدل عليها الصنعة ، ولم يقدر العبد على تحصيله بالنظر فعفا عنه لعجزنا عنه ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم { لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } وقول الصديق رضي الله تعالى عنه العجز عن درك الإدراك إدراك ) .

قلت كلامه هذا يقتضي الجزم بأن هناك صفة زائدة على ما دلت عليه الصنعة لكنا لا نعلمها فإن كان يريد أنه لا نعلمها لا جملة ولا تفصيلا فقد تناقض كلامه إذ مساقه يقتضي الجزم بثبوتها على الجملة ، وإن كنا لا نعلمها على التفصيل ، وإن كان يريد أنا لا [ ص: 125 ] نعلمها على التفصيل ، وإن علمناها على الجملة فقوله ذلك دعوى لا دليل عليها وهذا المقام مما اختلف الناس فيه فمنهم من يقتضي كلامه أنه لا صفة وراء ما علمناه ، ومنهم من يقتضي كلامه أن هناك صفات لا نعلمها ، ومنهم من يقتضي كلامه الوقف في ذلك وهو الصحيح ويترتب على ذلك أن لا تكليف بإزالة هذا الجهل ، ولا مؤاخذة ببقائه كما قال والله تعالى أعلم ، ولا دليل له في قول النبي صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن يريد لا أستطيع المداومة والاستمرار على الثناء عليك للقواطع عن ذلك كالنوم وشبهه ، ولا في كلام الصديق رضي الله تعالى عنه لاحتمال أن يريد : العجز عن الاطلاع على جميع معلومات الله تعالى اطلاع على الفرق بين الرب والمربوب والمالك والمملوك والخالق والمخلوق وذلك هو صريح الإيمان ، وصحيح الإيقان ، والله تعالى أعلم .

قال : ( وقسم أجمع المسلمون على أنه كفر قال القاضي عياض في كتاب الشفاء انعقد الإجماع على تكفير من جحد أن الله تعالى عالم أو متكلم أو غير ذلك من صفاته الذاتية فإن جهل الصفة ، ولم ينفها كفره الطبري وغيره وقيل لا يكفر ، وإليه رجع الأشعري ؛ لأنه لم يصمم على اعتقاد [ ص: 126 ] ذلك ويعضده حديث القائل لئن قدر الله علي ليعذبني ، الحديث . وحديث { السوداء لما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله فقالت في السماء } قال ولو كوشف أكثر الناس على الصفات لم يعلمها قال شهاب الدين قلت : فنفي الصفات والجزم بنفيها هو المجمع عليه ، وليس معناه نفي العلم أو الكلام أو الإرادة ونحو ذلك بل العالم والمتكلم والمريد فمن نفى أصل المعنى وحكمه هو المجمع على كفره وهذا هو مذهب كثير من الفلاسفة والدهرية دون أرباب الشرائع ) قلت : أكثر ذلك كله نقل لا كلام فيه إلا الاستدلال بالحديث فإنه موضع لا يكفي في مثله الظواهر مع تعين التأويل في الحديثين من جهة أن حديث لئن قدر الله علي ظاهره ينفي أن الله تعالى قادر واحتمال أن يكون تارة قادرا وتارة غير قادر ، وليس ظاهره نفي أنه قادر بقدرة وكذلك حديث السوداء ظاهره أن الله تعالى مستقر في السماء استقرار الأجسام [ ص: 127 ] وهذا ، وإن كان غير مجمع على أنه كفر فإنه باطل قطعا لقيام الدليل على ذلك وقد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولا يجوز أن يقر على باطل قطعا فتعين التأويل هنا ؛ لأن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على الباطل لا يجوز والله تعالى أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثالث والأربعون والمائتان بين قاعدة المعصية التي هي كفر وقاعدة ما ليس بكفر ) :

الاحتياج للفرق بينهما مبني على ما للأصل من التباس الكفر بالكبائر نظرا لما ادعاه من أن الكفر يشارك مطلق المعصية كبيرة كانت أو صغيرة في أمرين .

( الأمر الأول ) في مطلق انتهاك حرمة الربوبية . ( الأمر الثاني ) في مطلق المفسدة ، وذلك أن كلا من الكفر والمعصية منهي عنه والنواهي تعتمد المفاسد كما أن الأوامر تعتمد المصالح ، ولكن أعلى رتب المفاسد الكفر ، وأدناها الصغائر والمتوسط بين الرتبتين الكبائر فأعلى رتب الكبائر يليها أدنى رتب الكفر ، وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر وحينئذ فأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر .

قال ما تهذيبه : والمجال في تحرير الفرق بينهما صعب بل التعرض إلى الحد الذي يمتاز به أعلى رتب الكبائر من أدنى رتب الكفر عسير جدا وذلك أن أصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية إما بالجهل بوجود الصانع أو صفاته تعالى ، وإما بالجرأة على الله تعالى بكرمي المصحف في القاذورات أو السجود للصنم أو التردد للكنائس في أعيادهم بزي النصارى ، ومباشرة أحوالهم أو جحد ما أجمع عليه وعلم من الدين بالضرورة ولو كان ذلك من بعض المباحات ، فجحد إباحة الله التين والعنب كفر كجحد الصلاة والصوم ، ومعنى علمه من الدين بالضرورة أن يشتهر في الدين حتى يصير ضروريا فجحد المسائل المجمع عليها إجماعا لا يعلمه إلا خواص الفقهاء بحيث يخفى الإجماع فيها ليس كفرا ، قال : بل قد جحد أصل الإجماع جماعة كبيرة من الروافض والخوارج كالنظام ، ولم أر أحدا قال بكفرهم من حيث إنهم جحدوا أصل الإجماع .

وسبب ذلك أنهم بذلوا جهدهم في أدلته فما ظفروا بها كما ظفر بها الجمهور فكان ذلك عذرا في حقهم كما أن متجدد الإسلام إذا قدم من أرض الكفر وجحد في مبادئ أمره معنى شعائر الإسلام المعلومة لنا من الدين بالضرورة لا نكفره لعذره بعدم الاطلاع ، وإن كنا نكفر بذلك الجحد غيره فعلم من هذا أنا لا نكفر بالمجمع عليه من حيث هو مجمع عليه حتى يقال كيف تكفرون جاحد المسائل المجمع عليها ، ولا تكفرون جاحد أصل الإجماع وكيف يكون الفرع أقوى من الأصل بل نكفر به من حيث الشهرة المحصلة للضرورة فمن جحد إباحة القراض لا نكفره ، وإن كان مجمعا عليه ؛ لأن انعقاد الإجماع فيه إنما يعلمه خواص الفقهاء أو الفقهاء دون غيرهم فلم يجعل الفرع أقوى من الأصل فافهم ، وألحق الأشعري بالكفر أي جرأة على الله تعالى إرادة الكفر كبناء الكنائس ليكفر فيها أو قتل نبي مع اعتقاده صحة رسالته ليميت شريعته ، ومنه تأخير إسلام من أتى ليسلم على يديك فتشير عليه بتأخير الإسلام ؛ لأنه إرادة لبقاء الكفر ، ولا يندرج في إرادة الكفر الدعاء بسوء الخاتمة على من تعاديه وإن كان فيه إرادة الكفر ؛ لأنه ليس مقصودا فيه انتهاك حرمة الله بل [ ص: 180 ] إذاية المدعو عليه .

وليس منه أيضا اختيار الإمام عقد الجزية على الأسارى الموجب لاستمرار الكفر في قلوبهم على قتلهم الموجب لمحو الكفر من قلوبهم ؛ لأن مقصوده توقع الإسلام منهم أو من ذريتهم إذا بقوا أحياء وعدم سد باب الإيمان منهم ومن ذريتهم بقتلهم فحصول الكفر بإبقائهم أحياء وقع بالعرض فهو مشروع مأمور به بل واجب عند تعين مقتضيه ويثاب عليه الإمام الفاعل بخلاف الدعاء بسوء الخاتمة فإنه منهي عنه ويأثم قائله وإن لم يكفر بذلك . قال : والانتهاك الخاص المميز للكفر عن الكبائر والصغائر إنما يتبين خصوصه ببيان أقسام الجهل بالله تعالى وبيان ما يتعلق بالجرأة على الله تعالى فأما أقسام الجهل فعشرة .

( أحدها ) ما لم نؤمر بإزالته أصلا ، ولم نؤاخذ ببقائه ؛ لأنه لازم لنا لا يمكن الانفكاك عنه وهو جلال الله تعالى وصفاته التي لم تدل عليها الصنعة ، ولم يقدر العبد على تحصيله بالنظر فعفا عنه لعجزنا عنه ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم { لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } وقول الصديق العجز عن درك الإدراك إدراك .

( وثانيها ) ما أجمع المسلمون على أنه كفر قال القاضي عياض في كتاب الشفاء انعقد الإجماع على تكفير من جحد أن الله تعالى عالم أو متكلم أو غير ذلك من صفاته الذاتية فإن جهل الصفة ولم ينفها كفره الطبري وغيره وقيل لا يكفر ، وإليه رجع الأشعري ؛ لأنه لم يصمم على اعتقاد ذلك ، ويعضده حديث القائل لئن قدر الله علي ليعذبني الحديث وحديث { السوداء لما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله قالت في السماء } قال ، ولو كوشف أكثر الناس على الصفات لم يعلمها .

قال الأصل : فنفي الصفات والجزم بنفيها هو المجمع عليه ، وليس معناه نفي العلم أو الكلام أو الإرادة ونحو ذلك بل العالم والمتكلم والمريد فالمجمع على كفره هو من نفى أصل المعنى وحكمه ، وهذا هو مذهب جمع كثير من الفلاسفة والدهرية دون أرباب الشرائع .




الخدمات العلمية