الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الثالثة ) قال الطرطوشي في تعليقه قال مالك وأصحابه : الساحر كافر يقتل ولا يستتاب سحر مسلما أو ذميا كالزنديق قال محمد إن أظهره قبلت توبته قال أصبغ إن أظهره ، ولم يتب فقتل فماله لبيت المال ، وإن استتر فلورثته من المسلمين ، ولا آمرهم بالصلاة عليه فإن فعلوا فهم أعلم . قال : ومن قول علمائنا القدماء لا يقتل حتى يثبت أنه من السحر الذي وصفه الله عز وجل بأنه كفر قال أصبغ يكشف عن ذلك من يعرف حقيقته ، ولا يلي قتله إلا السلطان فإن سحر المكاتب أو العبد سيده لم يل سيده قتله بل الإمام ، ولا يقتل الذمي إلا أن يضر المسلم بسحره فيكون نقضا لعهده فيقتل ، ولا يقبل منه الإسلام [ ص: 152 ] وإن سحر أهل ملته فيؤدب إلا أن يقتل أحدا فيقتل به وقال سحنون يقتل إلا أن يسلم كالساب وهو خلاف قول مالك فإن ذهب لمن يعمل له سحرا ، ولم يباشر أدب أدبا شديدا ؛ لأنه لم يكفر ، وإنما ركن للكفرة .

قال وتعلمه وتعليمه عند مالك كفر وقالت الحنفية إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر وإن اعتقد أنه تخييل وتمويه لم يكفر وقالت الشافعية يصفه فإن وجدنا فيه ما هو كفر كالتقرب للكواكب ويعتقد أنها تفعل ما يلتمس منها فهو كفر ، وإن لم نجد فيه كفرا فإن اعتقد إباحته فهو كفر قال الطرطوشي وهذا متفق عليه ؛ لأن القرآن نطق بتحريمه قالت الشافعية إن قال سحري يقتل غالبا وقتلت به قتل ، وإن قال الغالب منه السلامة فعليه الدية مغلظة في ماله ؛ لأن العاقلة لا تحمل الإقرار .

وقال أبو حنيفة إن قال قتلت بسحري لم يجب عليه القود ؛ لأنه لم يقتل بمثقل ، وإن تكرر ذلك منه قتل ؛ لأنه سعى في الأرض بالفساد ، قال الطرطوشي ودليل المالكية قوله تعالى { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي بتعلمه { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } ولأنه لا يتأتى إلا ممن يعتقد أنه يقدر به على تغيير الأجسام [ ص: 153 ] والجزم بذلك كفر أو نقول هو علامة الكفر بإخبار الشرع فلو قال الشارع من دخل موضع كذا فهو كافر اعتقدنا كفر الداخل ، وإن لم يكن الدخول كفرا ، وإن أخبرنا هو أنه مؤمن لم نصدقه قال فهذا معنى قول أصحابنا إن السحر كفر أي دليل الكفر لا أنه كفر في نفسه كأكل الخنزير وشرب الخمر والتردد إلى الكنائس في أعياد النصارى فنحكم بكفر فاعله .

وإن لم تكن هذه الأمور كفرا لا سيما وتعلمه لا يتأتى إلا بمباشرته كمن أراد أن يتعلم الزمر أو ضرب العود ، والسحر لا يتم إلا بالكفر كقيامه إذا أراد سحر سلطان لبرج الأسد قائلا خاضعا متقربا له ويناديه يا سيداه يا عظيماه أنت الذي إليك تدين الملوك والجبابرة والأسود أسألك أن تذلل لي قلب فلان [ ص: 154 ] الجبار ، واحتجوا بأن تعلم صريح الكفر ليس بكفر فإن الأصولي يتعلم جميع أنواع الكفر ليحذر منه ، ولا يقدح في شهادته ومأخذه ، فالسحر أولى أن لا يكون كفرا ، ولو قال إنسان إنما تعلمت كيف يكفر بالله لأجتنبه أو كيف الزنا ، وأنواع الفواحش لأجتنبها لم يأثم قلت هذه المسألة في غاية الإشكال على أصولنا فإن السحرة يعتمدون أشياء تأبى قواعد الشريعة تكفيرهم بها كفعل الحجارة المتقدم ذكرها قبل هذه المسألة ، وكذلك يجمعون عقاقير ويجعلونها في الأنهار والآبار أو زير الماء أو في قبور الموتى أو في باب يفتح إلى المشرق أو غير ذلك من البقاع ويعتقدون أن الآثار تحدث عند تلك الأمور بخواص نفوسهم التي طبعها الله تعالى على الربط بينها وبين تلك الآثار [ ص: 155 ] عند صدق العزم فلا يمكننا تكفيرهم بجمع العقاقير ، ولا بوضعها في الآبار ، ولا باعتقادهم حصول تلك الآثار عند ذلك الفعل ؛ لأنهم جربوا ذلك فوجدوه لا ينخرم عليهم لأجل خواص نفوسهم فصار ذلك الاعتقاد كاعتقاد الأطباء حصول الآثار عند شرب العقاقير لخواص طبائع تلك العقاقير [ ص: 156 - 160 ] وخواص النفوس لا يمكن التكفير بها ؛ لأنها ليست من كسبهم ، ولا كفر بغير مكتسب ، وأما اعتقادهم أن الكواكب تفعل ذلك بقدرة الله تعالى فهذا خطأ ؛ لأنها لا تفعل ذلك ، ولا ربط الله تعالى ذلك بها . وإنما [ ص: 161 ] جاءت الآثار من خواص نفوسهم التي ربط الله تعالى بها تلك الآثار عند ذلك الاعتقاد فيكون ذلك الاعتقاد في الكواكب خطأ كما إذا اعتقد طبيب أن الله تعالى أودع في الصبر والسقمونيا عقل البطن وقطع الإسهال فإنه خطأ .

وأما تكفيره بذلك فلا ، وإن اعتقدوا أن الكواكب تفعل ذلك والشياطين بقدرتها لا بقدرة الله تعالى فقد قال بعض العلماء الشافعية هذا هو مذهب المعتزلة في استقلال الحيوانات بقدرتها دون قدرة الله تعالى فكما لا نكفر المعتزلة بذلك لا نكفر هؤلاء ، ومنهم من فرق بأن الكواكب مظنة العبادة فإن انضم إلى ذلك اعتقاد [ ص: 162 ] القدرة والتأثير كان كفرا ، وأجيب عن هذا الفرق بأن تأثير الحيوان في القتل والضر والنفع في العادة مشاهد من السباع والآدميين وغيرهم ، وأما كون المشترى أو زحل يوجب شقاوة أو سعادة فإنما هو حزر وتخمين من المنجمين لا صحة له وقد عبدت البقر والشجر والحجارة والثعابين فصارت هي الشائبة مشتركة بين الكواكب وغيرها فهو موضع نظر والذي لا مرية فيه أنه كفر إن اعتقد أنها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى الله تعالى فهذا مذهب الصائبة وهو كفر صريح لا سيما إن صرح بنفي ما عداها [ ص: 163 ] وبهذا البحث يظهر ضعف ما قالته الحنفية من أن أمر الشياطين وغيرهم كفر بل ينبغي لهم أن يفصلوا في هذا الإطلاق فإن الشياطين كانت تصنع لسليمان عليه السلام ما يأمرهم به من محاريب وتماثيل وغير ذلك فإن اعتقد الساحر أن الله عز وجل سخر له بسبب عقاقيره مع خواص نفسه الشياطين صعب القول بتكفيره .

وأما قول الأصحاب إنه علامة الكفر فمشكل ؛ لأنا نتكلم في هذه المسألة باعتبار الفتيا ونحن نعلم أن حال الإنسان في تصديقه لله تعالى ورسله بعد عمل هذه العقاقير كحاله قبل ذلك ، والشرع لا يخبر على خلاف الواقع [ ص: 164 ] فإن أرادوا الخاتمة فمشكل أيضا ؛ لأنا لا نكفر في الحال بكفر واقع في المآل كما أنا لا نجعله مؤمنا في الحال بإيمان واقع في المآل وهو يعبد الأصنام الآن بل الأحكام الشرعية تتبع أسبابها وتحققها لا توقعها وإن قطعنا بوقوعها كما أنا نقطع بغروب الشمس وغير ذلك ، ولا نرتب مسبباتها قبلها ، وأما قول أصحابنا في التردد إلى الكنائس ، وأكل الخنزير وغيره فإنما قضينا بكفره في القضاء دون الفتيا وقد يكون فيما بينه وبين الله تعالى مؤمنا .

فالذي يستقيم في هذه المسألة ما حكاه الطرطوشي عن قدماء أصحابنا أنا لا نكفره حتى يثبت أنه من السحر الذي كفر الله به أو يكون سحرا مشتملا على كفر كما قاله الشافعي ، وأما قول مالك أن تعلمه وتعليمه كفر ففي غاية الإشكال فقد قال الطرطوشي وهو من سادات العلماء أنه إذا وقف لبرج الأسد [ ص: 165 ] وحكى القضية إلى آخرها فإن هذا سحر فقد تصوره وحكم عليه بأنه سحر فهذا هو تعلمه فكيف يتصور شيئا لم يعلمه .

وأما قوله لا يتصور التعلم إلا بالمباشرة كضرب العود فليس كذلك بل كتب السحر مملوءة من تعليمه ، ولا يحتاج إلى ذلك بل هو كتعلم أنواع الكفر الذي لا يكفر به الإنسان كما نقول إن النصارى يعتقدون في عيسى عليه السلام كذا والصابئة يعتقدون في النجوم كذا ونتعلم مذاهبهم ، وما هم عليه على وجهه حتى نرد عليهم ذلك فهو قربة لا كفر ، وقد قال بعض العلماء : إن كان تعلم السحر ليفرق بينه وبين المعجزات كان ذلك قربة وكذلك نقول إن عمل السحر بأمر مباح ليفرق به بين المجتمعين على الزنا أو قطع الطريق بالبغضاء والشحناء أو يفعل ذلك بجيش الكفر فيقتلون به ملكهم هذا كله قربة أو يصنعه محبة بين الزوجين أو [ ص: 166 ] مع جيش الإسلام فتأمل هذه المباحث كلها فالموضع مشكل جدا .

وقول الطرطوشي إذا قال صاحب الشرع من دخل الدار فهو كافر قضينا بكفره عند دخول الدار فهو فرض محال ، ولا يخبر صاحب الشرع عن إنسان بالكفر إلا إذا كفر وقولهم هو دليل الكفر ممنوع وقولهم لأن [ ص: 167 ] صاحب الشرع أخبر بذلك في الكتاب العزيز قلنا حمل الآية على ما هو كفر من السحر لا محال فيه غايته دخول التخصيص في العموم بالقواعد وهذا هو شأننا في العمومات .

وأما التكفير بغير سبب الكفر فهو خلاف القواعد ، ولا شاهد له في الاعتبار ، وأي دليل دلنا على أن تعلم السحر أو تعليمه لا يكون إلا بالكفر وقوله تعالى { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } فالجواب عنه أن قوله { يعلمون الناس السحر } نمنع أنه تفسير لقوله { كفروا } بل إخبار عن حالهم بعد تقرر كفرهم بغير السحر ، وإنما يتم المقصود إذا كانت الجملة الثانية مفسرة للأولى سلمنا أنها مفسرة لها لكن يتعين حمله على أن ذلك السحر كان مشتملا على الكفر وكانت الشياطين تعتقد موجب تلك الألفاظ كالنصراني إذا علم المسلم دينه فإنه يعتقد موجبه ، وأما الأصولي إذا علم تلميذه المسلم دين النصراني ليرد عليه ويتأمل فساد قواعده فلا يكفر المعلم ، ولا المتعلم ، وهذا التقييد على وفق القواعد ، وأما جعل التعلم والتعليم مطلقا كفرا فهو خلاف القواعد ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على غور هذه المسألة .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

قال ( المسألة الثالثة قال الطرطوشي في تعليقه قال مالك وأصحابه : الساحر كافر فيقتل ، ولا يستتاب سحر مسلما أو ذميا كالزنديق قال محمد إن أظهره قبلت توبته قال أصبغ إن أظهره ، ولم يتب فقتل فماله لبيت المال ، وإن استتر فلورثته من المسلمين ، ولا آمرهم بالصلاة عليه فإن فعلوا فهم أعلم . قال : ومن قول العلماء القدماء لا يقتل حتى يثبت أنه من السحر الذي وصفه الله تعالى بأنه كفر قال أصبغ يكشف عن ذلك من يعرف حقيقته ، ولا يلي قتله إلا السلطان إلى قوله ؛ لأن ذلك سعي في الأرض بالفساد ) قلت : ذلك كله نقل لا كلام فيه [ ص: 152 ] قال : الطرطوشي ودليل المالكية قوله تعالى { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي بتعليمه { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } ؛ ولأنه لا يتأتى إلا ممن يعتقد أنه يقدر به على تغيير الأجسام [ ص: 153 ] والجزم بذلك كفر أو نقول هو علامة الكفر بإخبار الشرع فلو قال الشارع من دخل موضع كذا فهو كافر اعتقدنا كفر الداخل ، وأن الدخول كفر ، وإن أخبرنا هو أنه مؤمن لم نصدقه قال فهذا معنى قول أصحابنا إن السحر كفر أي دليل الكفر لا أنه كفر في نفسه كأكل الخنزير وشرب الخمر والتردد للكنائس في أعياد النصارى فنحكم بكفر فاعله ، وإن لم تكن هذه الأمور كفرا لا سيما وتعلمه لا يتأتى إلا بمباشرته كمن أراد أن يتعلم الزمر أو ضرب العود والسحر لا يتم إلا بالكفر كقيامه إذا أراد سحر سلطان لبرج الأسد قائلا خاضعا متقربا له ويناديه يا سيداه يا عظيماه أنت الذي إليك تدين الملوك والجبابرة والأسود أسألك أن تذلل لي قلب فلان [ ص: 154 ] الجبار واحتجوا بأن تعلم صريح الكفر ليس بكفر فإن الأصولي يتعلم جميع أنواع الكفر ليتحذر منه ، ولا يقدح في شهادته ومأخذه فالسحر أولى أن لا يكون كفرا ، ولو قال إنسان إنما تعلمت كيف يكفر بالله لأجتنبه أو كيف الزنا وأنواع الفواحش لأجتنبها لم يأثم .

قال شهاب الدين هذه المسألة في غاية الإشكال على أصولنا فإن السحرة يعتمدون أشياء تأبى قواعد الشرع تكفيرهم بها كفعل الحجارة المتقدم ذكرها قبل هذه المسألة وكذلك يجمعون عقاقير ويجعلونها في الأنهار والآبار أو زير الماء أو قبور الموتى أو في باب يفتح إلى المشرق أو غير ذلك من البقاع ويعتقدون أن الآثار تحدث عند تلك الأمور بخواص نفوسهم التي طبعها الله تعالى على الربط بينها وبين تلك الآثار [ ص: 155 ] عند صدق العزم فلا يمكننا تكفيرهم بجمع العقاقير ، ولا بوضعها في الآبار ، ولا باعتقادهم حصول تلك الآثار عند ذلك الفعل ؛ لأنهم جربوا ذلك فوجدوه لا ينخرم عليهم لأجل خواص نفوسهم فصار ذلك الاعتقاد كاعتقاد الأطباء حصول الآثار عند شرب العقاقير لخواص طبائع تلك العقاقير وخواص النفوس لا يمكن التكفير بها ؛ لأنها ليست من كسبهم ، ولا كفر بغير مكتسب .

وأما اعتقادهم أن الكواكب تفعل ذلك بقدرة الله تعالى فهذا خطأ ؛ لأنها لا تفعل ، ولا ربط الله تعالى ذلك بها ، وإنما جاءت الآثار من خواص نفوسهم التي ربط الله تعالى بها تلك الآثار عند ذلك الاعتقاد فيكون ذلك الاعتقاد في الكواكب خطأ كما إذا اعتقد طبيب أن الله تعالى أودع في الصبر والسقمونيا عقل البطن وقطع الإسهال فإنه خطأ ، وأما تكفيره بذلك فلا .

وإن اعتقدوا أن الكواكب تفعل ذلك والشياطين بقدرتها لا بقدرة الله تعالى فقد قال بعض علماء الشافعية هذا مذهب المعتزلة في استقلال الحيوانات بقدرتها دون قدرة الله تعالى فكما لا نكفر المعتزلة بذلك لا نكفر هؤلاء ، ومنهم من فرق بأن الكواكب مظنة العبادة فإذا انضم إلى ذلك اعتقاد القدرة [ ص: 156 ] والتأثير كان كفرا وأجيب عن هذا الفرق بأن تأثير الحيوانات في القتل والضر والنفع في مجرى العادة مشاهد من السباع والآدميين وغيرهم .

وأما كون المشترى أو زحل يوجب شقاوة أو سعادة فإنما هو حزر وتخمين من المنجمين لا صحة له وقد عبدت البقر والشجر والحجارة والثعابين فصارت هذه الشائبة مشتركة بين الكواكب وغيرها فهو موضع نظر والذي لا مرية فيه أنه كفر إن اعتقد أنها مستقلة بنفسها لا نحتاج إلى الله تعالى فهذا مذهب الصائبة وهو كفر صريح لا سيما إن صرح بنفي ما عداها وبهذا البحث يظهر ضعف ما قالته الحنفية من أن أمر الشياطين وغيرهم كفر بل ينبغي لهم أن يفصلوا في هذا الإطلاق فإن الشياطين كانت تصنع لسليمان عليه السلام ما يأمرهم به من محاريب وتماثيل وغير ذلك فإن اعتقد الساحر أن الله تعالى سخر له بسبب عقاقيره مع خواص نفسه الشياطين صعب القول بتكفيره .

وأما قول الأصحاب أنه علامة الكفر فمشكل ؛ لأنا نتكلم في هذه المسألة باعتبار الفتيا ونحن نعلم أن حال الإنسان في تصديقه لله تعالى ورسله بعد عمل هذه العقاقير كحاله قبل ذلك والشرع لا يخبر على خلاف الواقع فإن أرادوا الخاتمة فمشكل أيضا لأنا لا نكفر في الحال بكفر واقع في المآل كما أنا لا نجعله مؤمنا في الحال بإيمان واقع في المآل وهو يعبد الأصنام الآن بل الأحكام الشرعية تتبع أسبابها وتحققها لا توقعها .

وإن قطعنا بوقوعها كما أنا نقطع بغروب الشمس وغير ذلك ، ولا نرتب مسبباتها [ ص: 157 ] قبلها ، وأما قول أصحابنا في التردد إلى الكنائس وأكل الخنزير وغيره إنما قضينا بكفره في القضاء دون الفتيا وقد يكون فيما بينه وبين الله تعالى مؤمنا فالذي يستقيم في هذه المسألة ما حكاه الطرطوشي عن قدماء أصحابنا أنا لا نكفره حتى يثبت أنه من السحر الذي كفر الله تعالى به أو يكون سحرا مشتملا على كفر كما قال الشافعي .

وأما قول مالك أن تعلمه وتعليمه كفر ففي غاية الإشكال فقد قال الطرطوشي وهو من سادات العلماء أنه إذا وقف لبرج الأسد وحكى القضية إلى آخرها فإن هذا سحر فقد تصوره ، وحكم عليه بأنه سحر فهذا هو تعلمه فكيف يتصور شيئا لم يعلمه ، وأما قوله لا يتصور التعلم إلا بالمباشرة كضرب العود فليس كذلك بل كتب السحر مملوءة من تعليمه ، ولا يحتاج إلى ذلك بل هو كتعلم أنواع الكفر الذي لا يكفر به الإنسان كما نقول إن النصارى يعتقدون في عيسى عليه السلام كذا والصابئة يعتقدون في النجوم كذا ونتعلم مذاهبهم ، وما هم عليه على وجهه حتى نرد عليهم ذلك فهو قربة لا كفر وقد قال بعض العلماء إن كان تعلم السحر ليفرق بينه وبين المعجزات كان ذلك قربة وكذلك نقول إن عمل السحر بأمر مباح ليفرق به بين المجتمعين على الزنا أو قطع الطريق بالبغضاء والشحناء أو يفعل ذلك بجيش الكفر فيقتلون به ملكهم .

فهذا كله قربة أو يصنعه محبة بين الزوجين أو الملك مع جيش الإسلام فتأمل هذه المباحث كلها فالموضع مشكل جدا .

قول الطرطوشي إذا قال صاحب [ ص: 158 ] الشرع من دخل الدار فهو كافر قضينا بكفره عند دخول الدار فهو فرض محال ، ولا يخبر صاحب الشرع عن إنسان بالكفر إلا إذا كفر ، وقولهم هو دليل الكفر ممنوع ، وقولهم ؛ لأن صاحب الشرع أخبر بذلك في الكتاب العزيز قلنا حمل الآية على ما هو كفر من السحر لا محال فيه غايته دخول التخصيص في العموم بالقواعد وهذا هو شأننا في العمومات .

وأما التكفير بغير سبب الكفر فهو خلاف القواعد ، ولا شاهد له بالاعتبار ، وأي دليل دلنا على أن تعلم السحر أو تعليمه لا يكون إلا بالكفر وقوله تعالى { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } فالجواب عنه قوله { يعلمون الناس السحر } نمنع أنه تفسير لقوله { كفروا } بل إخبار عن حالهم بعد تقرر كفرهم بغير السحر وإنما يتم المقصود إذا كانت الجملة الثانية مفسرة للأولى سلمنا أنها مفسرة لها لكن يتعين حمله على أن ذلك السحر كان مشتملا على الكفر ، وكانت الشياطين تعتقد موجب تلك الألفاظ كالنصراني إذا علم المسلم دينه فإنه يعتقد موجبه .

وأما علم المسلم دين النصراني ليرد عليه ويتأمل فساد قواعده فلا يكفر المعلم ولا المتعلم وهذا التقييد على وفق القواعد .

وأما جعل التعليم والتعلم مطلقا كفرا فخلاف القواعد ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على غور هذه المسألة قلت نقلت هذا الفصل بجملته لافتقار الكلام عليه إلى مقدمة لم يتعين تمهيدها وهي أن كون أمر ما كفر أي أمر كان ليس من الأمور العقلية بل هو من الأمور الوضعية الشرعية [ ص: 159 ] فإذا قال الشارع في أمر ما هو كفر فهو كذلك سواء كان ذلك القول إنشاء أم إخبارا فإذا تمهدت القاعدة فنقول ما قاله الطرطوشي من أن دليل المالكية قوله تعالى { ، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي بتعلمه قول صحيح واستدلال المالكية بذلك ظاهر واضح لتعذر حمل قوله { فلا تكفر } على الكفر بغير التعليم لعدم التئام قوله { فلا تكفر } على تقدير أن الكفر المنهي عنه غير التعلم مع ما قبله فهو من هذه الجهة وبهذه القرينة نص في أن التعلم هو الكفر ولكن يبقى في ذلك أن الآية إخبار عن واقع قبلنا ، وخطاب عن غيرنا فلا يتم الاستدلال إلا على القول بأنه شرع لنا وهو المشهور المنصوص في المذهب .

وما قاله الطرطوشي أيضا من أن السحر لا يتأتى إلا ممن يعتقد أنه يقدر به على تغيير الأجسام إن أراد أنه لا يظهر له أثر إلا مع ذلك الاعتقاد فهو مثل ما حكاه الشهاب عن الفخر في المسألة الأولى ولا أدري صحة ذلك ، وما قاله من أن الجزم بذلك الاعتقاد كفر قول صحيح لنسبة التأثير لغير قدرة الله تعالى ، وما قاله من تسويغ القول بأنه علامة على الكفر الداخل صحيح وما قاله من أنه لو قال الشارع من دخل موضع كذا فهو كافر اعتقدنا كفر الداخل ، وأن الدخول كفر ، صحيح لما تقدم من أن الكفر من الأمور الوضعية فإذا قال الشارع في أمر ما إنه كفر مخبرا أو منشئا فذلك الأمر كفر وما قاله من أن معنى قول الأصحاب أن السحر كفر أي دليل الكفر إلى قوله ، وإن لم تكن [ ص: 160 ] هذه الأمور كفرا ، قول صحيح أيضا كأكل الخنزير والتردد على الكنائس ، وقوله ، ولا سيما وتعلمه لا يتأتى إلا بمباشرته إلى قوله أن تذلل لي قلب فلان الجبار يعني أن تعلمه لتحصيل ثمرته لا لغير ذلك من المقاصد وذلك صحيح من جهة اشتراط أهل السحر ذلك بل الجزم بحصول الأثر على ما ذكره الفخر وقوله واحتجوا إلى قوله لم يأثم قلت : تقول المالكية بموجب ذلك ، ولا يلزم مقصود الحنفية فإن ما ذكره الحنفية تعلم الكفر لا لنفسه بل لتصحيح يقتضيه .

قال شهاب الدين ( هذه المسألة في غاية الإشكال على أصولنا إلى قوله طبائع تلك العقاقير ) قلت : ما قاله من أنه لا يمكن التكفير بجمع العقاقير وغير ذلك من الأفعال صحيح إذا كان ذلك الجمع وسائر تلك الأفعال غير مقصود به اجتلاب الآثار المطلوبة من ذلك ، وأما إذا كانت مقصودا بها ذلك فهو السحر الذي هو كفر بنفسه لتضمنه اعتقاد تأثير هذه الأمور أو دليل الكفر على مذهب المالكية والله تعالى أعلم .

قال شهاب الدين ( وخواص النفوس لا يمكن التكفير بها ؛ لأنها ليست من كسبهم ، ولا كفر بغير مكتسب . وأما اعتقادهم بأن الكواكب تفعل ذلك بقدرة الله تعالى فهذا خطأ ؛ لأنها لا تفعل ذلك بها ، وإنما [ ص: 161 ] جاءت الآثار من خواص نفوسهم التي ربط الله بها تلك الآثار عند ذلك الاعتقاد ) قلت لا أعرف صحة ما قالوه من ربط تلك الآثار بخواص النفوس . قال : ( فيكون ذلك الاعتقاد خطأ كما إذا اعتقد طبيب أن الله تعالى أودع في الصبر السقمونيا عقل البطن وقطع الإسهال ، وأما تكفيره بذلك فلا ) قلت ما قاله في ذلك صحيح .

قال : ( وإن اعتقدوا أن الكواكب تفعل ذلك والشياطين بقدرتها لا بقدرة الله تعالى فقد قال بعض الشافعية هذا مذهب المعتزلة في استقلال الحيوانات بقدرتها دون الله تعالى فكما لا نكفر المعتزلة بذلك لا نكفر هؤلاء ) قلت إن كان المراد أنها تفعل بقدرتها من غير تعلق قدرة الله تعالى بقدرتها فذلك كفر صحيح ، وإن كان المراد أنها تفعل بقدرتها مباشرة مع تعلق قدرة الله تعالى بقدرتها فهو مذهب المعتزلة . قال : ( ومنهم من فرق بأن الكواكب مظنة العبادة فإن انضم إلى ذلك اعتقاد [ ص: 162 ] القدرة والتأثير كان كفرا ) قلت إن كان ذلك لاعتقاد أن الكواكب مستغنية بقدرتها عن قدرة الله تعالى فذلك كفر صريح . قال : ( وأجيب عن هذا الفرق بأن تأثير الحيوانات في القتل والضر والنفع في مجرى العادة مشاهدة من السباع والآدميين وغيرهم ) قلت ليس تأثير الحيوان بمشاهد ، وإنما التأثير لا غير .

قال ( وأما كون المشترى أو زحل يوجب شقاوة أو سعادة فإنما ذلك حزر وتخمين من المنجمين لا صحة له ) قلت ذلك صحيح . قال : ( وقد عبدت البقر والشجر والحجارة والثعابين فصارت هذه الشائبة مشتركة بين الكواكب وغيرها فهو موضع نظر ) قلت هو كما قال موضع نظر . قال : ( والذي لا مرية فيه أنه كفر إن اعتقد أنها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى الله تعالى فهذا مذهب الصابئة وهو كفر صريح لا سيما إن صرح بنفي ما عداها ) قلت ما قاله في ذلك صحيح [ ص: 163 ]

قال : ( وبهذا البحث يظهر ضعف ما قالته الحنفية من أن أمر الشياطين وغيرهم كفر بل ينبغي لهم أن يفصلوا في هذا الإطلاق فإن الشياطين كانت تصنع لسليمان عليه السلام ما يأمرهم به من محاريب وتماثيل وغير ذلك فإن اعتقد أن الله تعالى سخر له بسبب عقاقيره مع خواص نفسه الشياطين صعب القول بتكفيره ) قلت الظاهر ما قاله من لزوم التفصيل ، وأنه إن اعتقد أن ذلك من فعل الله تعالى فلا كفر إلا أن يكون نفس السحر كفرا كما هو ظاهر الآية فذلك كفر بالوضع ، والله تعالى أعلم .

قال : ( وأما قول الأصحاب أنه علامة الكفر فمشكل إلى قوله خلاف الواقع ) قلت إذا ثبت دليل شرعي على أن السحر كفر ، وأنه علامة الكفر فلا إشكال ؛ لأنه يكون حينئذ من شرط المؤمن أن لا يعمل سحرا وعند ذلك يصح إيمانه إما ظاهرا وباطنا إن كان السحر [ ص: 164 ] بنفسه كفرا ، وإما ظاهرا ، إن كان علامة الكفر بحسب الظاهر . قال : ( فإن أرادوا الخاتمة فمشكل أيضا إلى وقوله ، ولا نرتب مسبباتها قبلها ) قلت إن أرادوا ذلك فمشكل كما قاله ، وذلك صحيح .

قال : ( وأما قول أصحابنا في التردد إلى الكنائس ) قلت قوله في ذلك صحيح . قال : ( وأما قول مالك أن تعلمه وتعليمه كفر ففي غاية الإشكال ) قلت ليس الأمر كما قال فإنه قول مستند إلى ظاهر الآية ، وما قاله عن الطرطوشي وقال إن ذلك هو تعلمه لا يريد أن لا تعلم له سواه ليس كما قال بل تعلمه على وجهين أحدهما ليعرف حقيقته خاصة إما لتجنب أو لغير ذلك وهذا ليس بكفر [ ص: 165 ] والوجه الثاني أن يتعلمه قاصدا بتعلمه تحصيل أثره متى احتاج إلى ذلك وهذا هو الذي اقتضى ظاهر الكتاب أنه كفر .

قال : ( وأما قوله لا يتصور التعلم إلا بالمباشرة كضرب العود فليس كذلك إلى قوله فهو قربة لا كفر ) قلت مراد الطرطوشي تعلمه لتجربة حصول أثره لا لغير ذلك وقوله قد قال بعض العلماء : إن تعلمه ليفرق بينه وبين المعجزة صحيح وقوله فنقول إذا عمل السحر بأمر مباح فيه نظر إذ لقائل أن يقول إن عمل السحر المقصود به تحصيل أثره على أي وجه كان كفرا أو دليل الكفر بوضع الشارع ، وهو ظاهر الآية كما سبق وتوهم كونه إذا كان أثره أمرا مباحا التباسه في الشرع كان علمه مباحا لا دليل عليه [ ص: 166 ]

قال : ( فالموضع مشكل جدا ) قلت إذا صح أن كون أمر ما كفرا أمر وضعي شرعي وثبت بدليل شرعي فلا إشكال . قال : ( وقول الطرطوشي إذا قال صاحب الشرع من دخل الدار إلخ ) قلت : ما قاله الطرطوشي صحيح ، وليس فرض محال بل يكون ذلك القول إنشاء شرع لا إخبارا عن كفر من لم يكفر فذلك هو المحال . قال : ( وقولهم هو دليل الكفر ممنوع ) قلت : منعه ممنوع ، وما قاله من شبهة التخصيص هو تقييد المطلق ، وما قاله من التكفير بغير سبب الكفر فهو خلاف القواعد نقول بموجبه ، ولا نعلم أحدا قاله ، وما قاله من أن قوله تعالى يعلمون الناس ليس بتفسير لقوله تعالى كفروا ممنوع ، وما قاله من أنه إخبار عن حالهم بعد تقرر كفرهم بغير السحر غير لائق بفصاحة الشارع ، وما قاله من أنه يتعين حمل ذلك على أنه كان ذلك السحر مشتملا على الكفر ليس كذلك لاحتمال أن يكون تعليمه وتعلمه كفرا وهو الظاهر الذي لا معدل عنه ، وأما قوله من أن معلم الكفر ومتعلمه ليرد عليه ليس بكافر صحيح ، وما قاله من أن من قال إن التعليم والتعلم مطلقا كفر فهو خلاف القواعد ، صحيح أيضا [ ص: 167 ] .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

وقال الطرطوشي في تعليقه قال مالك ، وأصحابه : الساحر كافر يقتل ، ولا يستتاب سحر مسلما أو ذميا كالزنديق قال محمد : إن أظهره قبلت توبته قال أصبغ إن أظهره ، ولم يتب فقتل فماله لبيت المال ، وإن استتر فلورثته من المسلمين ، ولا آمرهم بالصلاة عليه فإن فعلوا فهم أعلم قال وتعلمه وتعليمه عند مالك كفر قال ودليل المالكية قوله تعالى { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي بتعلمه { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } ؛ ولأنه لا يتأتى إلا ممن يعتقد أنه يقدر على تغيير الأجسام .

والجزم بذلك كفر أو نقول هو علامة الكفر بإخبار الشرع فلو قال الشارع من دخل موضع كذا فهو كافر اعتقدنا كفر الداخل ، وإن لم يكن الدخول كفرا وإن أخبرنا هو أنه مؤمن لم نصدقه قال فهذا معنى قول أصحابنا إن السحر كفر أي دليل الكفر لا أنه كفر في نفسه كأكل الخنزير وشرب الخمر والتردد إلى الكنائس في أعياد النصارى فنحكم بكفر فاعله ، وإن لم تكن هذه الأمور كفرا لا سيما وتعلمه لا يتأتى إلا بمباشرته كمن أراد أن يتعلم الزمر أو ضرب العود ، والسحر لا يتم إلا بالكفر كقيامه إذا أراد سحر سلطان لبرج الأسد قائلا خاضعا متقربا له ويناديه يا سيداه يا عظيماه أنت الذي إليك تدين الملوك والجبابرة والأسود أسألك أن تذلل [ ص: 188 ] لي قلب فلان الجبار ا هـ .

وقال الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه الأحكام قد بينا في كتاب المشكلين أن من أقسام السحر فعل ما يفرق به بين المرء وزوجه ومنه ما يجمع بين المرء وزوجه ويسمى التولة ، وكلاهما كفر والكل حرام كفر قاله مالك وقال الشافعي السحر معصية إن قتل به الساحر قتل ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر ، وهذا باطل من وجهين . ( أحدهما ) أنه لم يعلم السحر ، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى ، وتنسب إليه فيه المقادير والكائنات .

( والثاني ) أن الله سبحانه وتعالى صرح في كتابه بأنه كفر ؛ لأنه تعالى قال { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان } أي من السحر { ، وما كفر سليمان } أي بقول السحر { ولكن الشياطين كفروا } أي به وبتعليمه وهاروت وماروت يقولان { إنما نحن فتنة فلا تكفر } وهذا تأكيد للبيان ا هـ .

وذلك ؛ لأن مسألة إطلاق أن كل ما يسمى سحرا كفر في غاية الإشكال على أصولنا فإن السحرة يعتمدون أشياء تأبى قواعد الشريعة تكفيرهم بها كفعل الحجارة المتقدم ذكرها قبل هذه المسألة وكذلك يجمعون عقاقير ويجعلونها في الأنهار أو الآبار أو زير الماء أو قبور الموتى أو في باب يفتح إلى المشرق أو غير ذلك من البقاع ويعتقدون أن الآثار تحدث عند تلك الأمور بخواص نفوسهم التي طبعها الله تعالى على الربط بينها وبين تلك الآثار عند صدق العزم كما تقدم فلا يمكننا تكفيرهم بجمع العقاقير ، ولا بوضعها في الآبار ، ولا باعتقادهم حصول تلك الآثار عن ذلك الفعل ؛ لأنهم جربوا ذلك فوجدوه لا ينخرم عليهم لأجل خواص نفوسهم فصار ذلك الاعتقاد كاعتقاد الأطباء حصول الآثار عند شرب العقاقير لخواص طبائع تلك العقاقير ، وخواص النفوس لا يمكن التكفير بها ؛ لأنها ليست من كسبهم ، ولا كفر بغير مكتسب ، وأما اعتقادهم أن الكواكب تفعل ذلك بقدرة الله تعالى فهذا خطأ ؛ لأنها لا تفعل ذلك ، ولا ربط الله تعالى ذلك بها ، وإنما جاءت الآثار من خواص نفوسهم التي ربط الله تعالى بها تلك الآثار عند ذلك الاعتقاد فيكون ذلك الاعتقاد في الكواكب خطأ كما إذا اعتقد طبيب أن الله تعالى أودع في الصبر والسقمونيا عقل البطن وقطع الإسهال فإنه خطأ ، وأما تكفيره بذلك فلا .

وإن اعتقدوا أن الكواكب والشياطين تفعل ذلك بقدرتها لا بقدرة الله تعالى فقد قال بعض علماء الشافعية هذا هو مذهب المعتزلة في استقلال الحيوانات بقدرتها دون قدرة الله تعالى فكما لا تكفر المعتزلة بذلك لا نكفر هؤلاء وتفريق بعضهم بأن الكواكب مظنة العبادة فإن انضم إلى ذلك اعتقاد القدرة والتأثير كان كفرا مدفوع بأن تأثير الحيوان في القتل والضر والنفع في مجرى العادة مشاهد من السباع والآدميين وغير هذا .

وأما كون المشترى أو زحل يوجب شقاوة أو سعادة فإنما هو حزر وتخمين من المنجمين لا صحة له وقد عبدت البقر والشجر والحجارة والثعابين فصارت هذا الشائبة مشتركة بين الكواكب وغيرها فهو موضع نظر والذي لا مرية فيه أنه كفر إن اعتقد أنها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى الله تعالى ؛ لأن هذا مذهب الصابئة وهو كفر صريح لا سيما إن صرح بنفي ما عداها .

وبهذا البحث يظهر ضعف قول الحنفية إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر ، وإن اعتقد أنه تخيل وتمويه لم يكفر بل ينبغي لهم أن يفصلوا في هذا الإطلاق فإن [ ص: 189 ] الشياطين كانت تصنع لسليمان عليه السلام ما يأمرها به من محاريب وتماثيل وغير ذلك فإن اعتقد الساحر أن الله عز وجل سخر له الشياطين بسبب عقاقيره مع خواص نفسه ضعف القول بتكفيره .

وأما قول الأصحاب إنه علامة الكفر فمشكل ؛ لأنا نتكلم في هذه المسألة باعتبار الفتيا ، ونحن نعلم أن حال الإنسان في تصديقه لله تعالى ورسله بعد عمل هذه العقاقير كحاله قبل ذلك والشرع لا يخبر على خلاف الواقع ، وإن أرادوا الخاتمة فمشكل أيضا ؛ لأنا لا نكفر في الحال بكفر واقع في المآل كما أنا لا نجعل من يعبد الأصنام الآن مؤمنا في الحال بإيمان واقع في المآل بل الأحكام الشرعية تتبع أسبابها وتحققها لا توقعها وإن قطعنا بوقوعها كما أنا نقطع بغروب الشمس وغير ذلك من الأسباب ، ولا تترتب مسبباتها قبلها ، وأما قول أصحابنا في التردد إلى الكنائس ، وأكل الخنزير وغيره فإنما قضينا بكفره في القضاء دون الفتيا ، وقد يكون فيما بينه وبين الله تعالى مؤمنا ، وأما قول مالك إن تعلمه وتعليمه كفر ففي غاية الإشكال فقد قال الطرطوشي وهو من سادات العلماء : أنه إذا وقف لبرج الأسد ، وحكى القضية إلى آخرها فإن هذا سحر فقد تصوره وحكم عليه بأنه سحر فهذا هو تعلمه فكيف يتصور شيئا لم يعلمه ، وليس الأمر كما قال أنه لا يتصور التعلم إلا بالمباشرة كضرب العود بل كتب السحر مملوءة من تعليمه ، ولا يحتاج إلى ذلك بل هو كتعلم أنواع الكفر الذي لا يكفر به الإنسان كما تقول إن النصارى يعتقدون في عيسى عليه السلام كذا والصابئة معتقدون في النجوم كذا ونتعلم مذاهبهم ، وما هم عليه على وجه حتى نرد عليهم ذلك فهو قربة لا كفر .

وقد قال بعض العلماء : إن كان تعلم السحر ليفرق بينه وبين المعجزات كان ذلك قربة وكذلك نقول إذا عمل السحر بأمر مباح ليفرق به بين المجتمعين على الزنا أو قطع الطريق بالبغضاء والشحناء أو ليقتل جيش الكفر ملكهم به أو ليوقع به المحبة بين الزوجين أو بين جيش الإسلام ، وملكهم فهذا كله قربة فتأمل هذه المباحث كلها فالموضع مشكل جدا .

وأما قول الطرطوشي إذا قال صاحب الشرع من دخل الدار فهو كافر قضينا بكفره عند دخول الدار فهو فرض محال إذ لا يخبر صاحب الشرع عن إنسان بالكفر إلا إذا كفر وقولهم هو دليل الكفر ممنوع وقولهم ؛ لأن صاحب الشرع أخبر بذلك في الكتاب العزيز مسلم إذ لا محال في حمل الآية على ما هو كفر إنما المحال في أنه هل يدخل التخصيص في عمومها بالقواعد كما هو الشأن في العمومات ، وهو ما نقول أو لا يدخل كما يقولون فيلزم التكفير بغير سبب الكفر وهو خلاف القواعد ولا شاهد له في الاعتبار ، والاستدلال على أن تعلم السحر أو تعلمه لا يكون بالكفر بقوله تعالى { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } خبر مبني على أن قوله { يعلمون الناس السحر } تفسير لقوله { كفروا } ونحن نمنع أنه تفسير له بل هو إخبار عن حالهم بعد تقرر كفرهم بغير السحر سلمنا أنه تفسير له لكن يتعين حمله على أن ذلك السحر كان مشتملا على الكفر ، وكانت الشياطين تعتقد موجب تلك الألفاظ كالنصراني إذا علم المسلم دينه فإنه يعتقد موجبه ، وأما الأصولي إذا علم تلميذه المسلم دين النصراني ليرد عليه ويتأمل فساد قواعده فلا يكفر المعلم ، ولا المتعلم ، وهذا التقييد على وفق القواعد ، وأما جعل التعلم والتعليم مطلقا كفرا فهو خلاف القواعد ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على غور هذه المسألة ، هذا [ ص: 190 ] خلاصة كلام الأصل .

وفي التبصرة قال ابن الغرس قول ابن عبد السلام روى ابن نافع عن مالك في المبسوط في المرأة تقر أنها عقدت زوجها عن نفسها أو عن غيرها من النساء أنها تقتل ، ولا تنكل قال ، ولو سحر نفسه لم يقتل بذلك يؤخذ منه مع قول مالك فيمن يعقد الرجال عن النساء يعاقب ، ولا يقتل ا هـ أن ليس كل سحر كفرا ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ا هـ

بتصرف وأيد الإمام أبو القاسم بن الشاط إبقاء وقوله تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } على عمومها ، وأن قوله تعالى { يعلمون الناس السحر } تفسير لقوله { كفروا } وتسويغ الطرطوشي القول بأنه علامة على الكفر بوجوه .

( الوجه الأول ) أن قاعدة أن كون أمر ما كفرا أي أمر كان ليس من الأمور العلية بل هو من الأمور الوضعية الشرعية فإذا قال الشارع في أمر ما هو كفر فهو كذلك سواء كان ذلك القول إنشاء أم إخبارا يقتضي صحة قول الطرطوشي إن الشارع لو قال من دخل موضع كذا فهو كافر اعتقدنا كفر الداخل ، وأن الدخول كفر ويكون ذلك القول إنشاء شريعة أو إخبارا عن إنشاء شرع لا إخبارا عن كفر من لم يكفر حتى يكون محال ، وصحة قوله أن معنى قول الأصحاب أن السحر كفر أي دليل الكفر إلى قوله ، وإن تكن هذه الأمور كفرا فهي كأكل الخنزير والتردد إلى الكنائس .

( الوجه الثاني ) أن استدلال المالكية بقوله تعالى { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي بتعليمه ظاهر واضح لتعذر حمل قوله { فلا تكفر } على الكفر بغير التعليم لعدم التئام . قوله { فلا تكفر } مع ما قبله على تقدير أن الكفر المنهي عنه غير التعلم فهو من هذه الجهة وبهذه القرينة نص في أن التعلم هو الكفر ، ولكن يبقى في ذلك أن الآية إخبار عن واقع قبلنا وخطاب عن غيرنا فلا يتم الاستدلال إلا على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا وهو المشهور المنصوص في المذهب .

( الوجه الثالث ) أن قوله تعالى { يعلمون الناس السحر } لا يليق بفصاحة الشارع أنه إخبار عن حالهم بعد تقرر كفرهم بغير السحر بل اللائق بها أنه تفسير لقوله كفرا ، ولا نسلم بغير حمله حينئذ على أنه كان ذلك السحر مشتملا على الكفر لاحتمال أن يكون تعليمه وتعلمه كفرا ، وهو الظاهر الذي لا معدل عنه .

( الوجه الرابع ) أن تعلم السحر على وجهين أحدهما ليعرف حقيقته خاصة إما لتجنب أو لغير ذلك وهذا ليس بكفر وثانيهما أن يتعلمه قاصدا بتعلمه تحصيل أثره متى احتاج إلى ذلك وهذا هو الذي اقتضى ظاهر الكتاب أنه كفر وحينئذ فقول الشهاب لا يمكن التكفير بجمع العقاقير وغير ذلك من الأفعال صحيح إذا كان ذلك الجمع وسائر تلك الأفعال غير مقصود بها اجتلاب الآثار المطلوبة من ذلك .

وأما إذا كانت مقصودا بها ذلك فهو السحر الذي هو كفر بنفسه لتضمنه اعتقاد تأثير هذه الأمور أو دليل الكفر على مذهب المالكية وقول الطرطوشي لا سيما وتعلمه لا يتأتى إلا بمباشرته إلى قوله أن تذلل لي قلب فلان الجبار ، يعني أن تعلمه لتحصيل ثمرته لا لغير ذلك من المقاصد ، وذلك صحيح من جهة اشتراط أهل السحر ذلك بل الجزم بحصول الأثر على ما ذكره الفخر وقوله واحتجوا إلى قوله لم يأثم المالكية تقول بموجبه ، ولا يلزم مقصود الحنفية فإن ما ذكره الحنفية تعلم الكفر لا لنفسه بل لتصحيح يقتضيه وقول الشهاب إن من قال التعليم والتعلم مطلقا كفر فهو خلاف القواعد [ ص: 191 ] صحيح أيضا كقوله إن معلم الكفر ، ومتعلمه ليرد عليه ليس بكافر قال ابن الشاط ، وإذا صح أن كون أمر ما كفرا أمر وضعي شرعي وثبت بدليل شرعي أن السحر كفر ، وأنه علامة الكفر فلا إشكال ؛ لأنه يكون حينئذ من شرط المؤمن أن لا يعمل سحرا وعند ذلك يصح إيمانه إما ظاهرا وباطنا إن كان السحر بنفسه كفرا ، وإما ظاهرا فقط إن كان علامة الكفر بحسب الظاهر فسقط قول الشهاب في توجيه الإشكال : لأنا نعلم إلى قوله على خلاف الواقع . قال : ولا أعرف ما قالوه من ربط الله تلك الآثار بخواص نفوسهم عند اعتقادهم أن الكواكب تفعل ذلك بقدرة الله تعالى قال وقول الشهاب ، وإن اعتقدوا أن الكواكب والشياطين تفعل ذلك بقدرتها لا بقدرة الله تعالى إلى قوله فكما لا نكفر المعتزلة بذلك لا نكفر هؤلاء إن كان المراد أنها تفعل بقدرتها من غير تعلق قدرة الله تعالى بقدرتها فذلك كفر صريح ، وإن كان المراد أنها تفعل بقدرتها مباشرة مع تعلق قدرة الله تعالى بقدرتها فهو مذهب المعتزلة قال : وقوله وتفريق بعضهم إلى قوله كان كفرا إن كان ذلك لاعتقاد أن الكواكب مستغنية بقدرتها عن قدرة الله تعالى فذلك كفر صريح ، وليس تأثير الحيوان بمشاهد ، وإنما المشاهد التأثر لا غير قال : وفي قوله : وكذلك نقول إذا عمل السحر بأمر مباح ، نظر إذ لقائل أن يقول إن عمل السحر المقصود به تحصيل أثره على أي وجه كان كفرا أو دليل الكفر بوضع الشارع ، وهو ظاهر الآية كما سبق وتوهم كونه إذا كان أثره أمرا مباحا التلبس به في الشرع كان عمله مباحا لا دليل عليه هذا ما رده ابن الشاط من كلام الأصل ، وأما ما عداه فصححه قلت فتحصل أن أقوال أصحابنا في السحر ثلاثة . ( الأول ) أنه كفر مطلقا ، وهو الذي أيده ابن العربي في أحكامه ( والثاني ) أنه علامة الكفر مطلقا وهو الذي أيده ابن الشاط وعليهما فيقتل إذا عمل ذلك بنفسه ، وأما من ليس بمباشر عمله ولكن ذهب إلى من يعمله له ففي الموازية يؤدب أدبا شديدا كما في التبصرة .

( والثالث ) أنه كفر إن كان بما هو كفر وغير كفر إن كان بأمر مباح وهو الذي أيده الأصل ، وفي تعليمه وتعلمه قولان الأول أنهما كفر إن كانا بقصد تحصيل أثره متى احتاج إلى ذلك لا لغير ذلك من المقاصد وهو ما أيده ابن الشاط الثاني أنهما كفر إن كانا بمباشرة ما هو كفر ، وإلا فقد يكونان قربة وهو ما أيده الأصل ، وأما القول بأن تعليمه وتعلمه مطلقا كفر فقد علمت اتفاق الأصل وابن الشاط على أنه خلاف القواعد وينبني الخلاف المذكور في السحر على ما حكاه في التبصرة عن ابن الغرس من قوله واختلف السلف هل يجوز أن يسأل الساحر حل السحر عن المسحور أم لا فكره الحسن البصري ذلك ؛ لأنه عمل سحر وقال لا يعمل ذلك إلا ساحر ، ولا يجوز إتيان الساحر لما روي عن ابن مسعود من أتى إلى كاهن أو ساحر فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأجازه ابن المسيب ؛ لأنه رآه نوعا من العلاج فيخصص بذلك في قوله { يعلمون الناس السحر } ذكره البخاري وأما ما حكاه فيها من قول ابن الغرس وانظر هل يجوز السحر في الإصلاح بين نفسين كالمرأة تبغي إصلاح زوجها واستئلافه وعلى القول بأن السحر كفر فإنما يراد ما شهد الشرع له بأنه كفر ا هـ . فمبني على ما أيده الأصل فافهم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( مسألة ) قال ابن فرحون في الطرر لابن عات قال لا يجوز الجعل على حل المربوط والمسحور وكذلك لا يجوز الجعل على إخراج الجان من الرجل ؛ لأنه لا تعرف حقيقته ، ولا يوقف عليه ، ولا ينبغي لأهل الورع الدخول فيه ونسب نقل ذلك إلى الاستغناء لابن عبد الغفور . ا هـ بلفظه .

ثم اعلم أن السحر من جهة الخلاف [ ص: 192 ] في أن له حقيقة ، وأنه يلتبس بالمعجزة ونحوها من خوارق العادات وأنه يلتبس بتسع حقائق من علوم الشرع التي جمعها سيدي عبد الله العلوي في نظمه رشد الغافل وشرحها وهي أنواعه الأربعة المذكورة والخواص المنسوبة للنفوس والطلسمات والأوفاق والعزائم والاستخدامات يفتقر إلى توضيح جهاته الثلاث المذكورة في ثلاث مقاصد .

( المقصد الأول ) القدرية على أن السحر لا حقيقة له ، والجمهور على أن له حقيقة ، واختلف فيه على هذا القول من ثلاث جهات .

( الجهة الأولى ) قال الأصل : اختلف الأصوليون في السحر فقال بعضهم : لا يكون إلا رقى أجرى الله تعالى عادته أن يخلق عندها افتراق المتحابين ا هـ .

يريد وقال بعضهم الآخر إنه كما يكون بالرقى المذكورة كذلك يكون بغيرها وينبني عليه ما حكاه عن الطرطوشي في تعليقه من أنه وقع في الموازية إن قطع أذنا ثم ألصقها أو أدخل السكاكين في بطنه فقد يكون هذا سحرا ، وقد لا يكون سحرا ا هـ . وعلى القول الثاني كلام الأصل المتقدم وعلى القول الأول ما مر عن ابن العربي من أن حقيقته أنه كلام إلخ إلا أنه خصه بالرقى المكفرة فافهم .

( الجهة الثانية ) هل يؤثر في المسحور فيموت أو يتغير طبعه وعادته ، وإن لم يباشره وهو مذهبنا ، وبه قال الشافعي وابن حنبل أو يجوز أن يؤثر إن وصل إلى بدنه كالدخان ونحوه ، وإلا فلا وهو مذهب أبي حنيفة قولان .

( الجهة الثالثة ) هل يقع فيه ما ليس مقدورا للبشر كأن يصل إلى إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه وفلق البحر ، وإنطاق البهائم وقلب الجماد حيوانا وعكسه كما يقع فيه ما هو مقدور للبشر أو لا يقع فيه إلا ما هو مقدور للبشر قولان الثاني لجماعة منهم القاضي قال : ولا يقع فيه إلا ما هو مقدور للبشر ، وأجمعت الأمة على أنه لا يصل إلى إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه وفلق البحر ، وإنطاق البهائم ، ومنهم الأستاذ أبو إسحاق : قال وقد يقع التغيير به والضني ، وربما أتلف ، وأوجب الحب والبغض والبله وفيه أدوية مثل المرائر والأكباد والأدمغة فهذا الذي يجوز عادة ، وأما طلوع الزرع في الحال أو نقل الأمتعة والقتل على الفور والعمى والصمم ونحوه وعلم الغيب فممتنع ، وإلا لم يأمن أحد على نفسه عند العداوة وقد وقع القتل والعناد من السحرة ولم يبلغ فيها أحد هذا المبلغ ، وقد وصل القبط فيه إلى الغاية ، ولم يتمكن سحرة فرعون من الدفع عن أنفسهم والتغيب والهروب عند قطع فرعون أيديهم وأرجلهم .

ومنهم العلقمي قال كما في العزيزي على الجامع الصغير والحق أن لبعض أسباب السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض وفي البدن بالألم والسقم ، وإنما المنكر أن الجماد ينقلب حيوانا وعكسه بسحر الساحر ونحو ذلك ا هـ . وحكى ابن الجويني أن أكثر علمائنا جوزوا أن يستدق جسم الساحر حتى يلج في الكوة ويجري على خيط مستدق ويطير في الهواء ويقتل غيره .

( والقول الأول ) أيده الإمام أبو القاسم بن الشاط بأن جميع ما هو مقدور للبشر ، وما هو غير مقدور لهم من جملة أفعال الله تعالى الجائزة عقلا فلا غرو أن ينتهي إلى الإحياء والإماتة وغير ذلك اللهم إلا أن يكون هنالك مانع سمعي من وقوع بعض تلك الجائزات . قال : وإجماع الأمة على أنه لا يصل إلى إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه وفلق البحر وإنطاق البهائم الذي حكاه لا يصح أن يكون مستنده إلا التوقيف ، ولا أعرف الآن صحة ذلك الإجماع ، ولا التوقيف الذي استند إليه ذلك الإجماع ا هـ .

وقال الأصل : ووصوله إلى القتل وتغيير الخلق ونقل الإنسان إلى صورة البهائم هو الصحيح المنقول عنهم ، وقد كان القبط [ ص: 193 ] في أيام ملكة مصر بعد فرعون المسماة بدلوكا وضعوا السحر في البرايا ، وصوروا فيه عساكر الدنيا فأي عسكر قصدهم ، وأي شيء فعلوه من قلع الأعين أو ضرب الرقاب تخيل ذلك الجيش أو رجاله أنه وقع بذلك العسكر في موضعه فتحاشيهم العساكر فأقاموا ستمائة سنة ، والنساء هن الملوك والأمراء بمصر بعد غرق فرعون وجيوشه كما حكاه المؤرخون .

وأما الجواب عن سحرة فرعون فمن وجوه . ( الأول ) أنهم تابوا فمنعتهم التوبة والإسلام العودة إلى معاودة الكفر الذي تكون به تلك الآثار ورغبوا فيما عند الله تعالى ولذلك قالوا { لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون } .

( الثاني ) أنه يجوز أنهم لم يكونوا ممن وصلوا لذلك ، وإنما قصد من يقدر من السحرة في ذلك الوقت على قلب العصا حية لأجل موسى عليه السلام .

( الثالث ) أنه يجوز أن يكون فرعون قد علمه بعض السحرة حجبا وموانع يبطل بها سحر السحرة اعتناء به والحجب والمبطلات فيه مشتهرة عند أهله قال ودليل أن للسحر حقيقة الكتاب والسنة الإجماع أما الكتاب فقوله تعالى { يعلمون الناس السحر } ، وما لا حقيقة له لا يعلم ، ولا يلزم صدور الكفر عن الملائكة ؛ لأنه قرئ الملكين بكسر اللام أو هما ملكان ، وأذن لهما في تعليم الناس السحر للفرق بين المعجزة والسحر ؛ لأن مصلحة الخلق في ذلك الوقت كانت تقتضي ذلك ثم صعدا إلى السماء ، وقولهما { فلا تكفر } أي لا تستعمله على وجه الكفر كما يقال خذ المال ، ولا تفسق به أو يكون معنى قوله عز وجل { يعلمون الناس السحر } أي ما يصلح للأمرين .

وأما السنة ففي الصحيحين { أنه صلى الله عليه وسلم سحر فكان يخيل إليه أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن } الحديث وقد سحرت عائشة رضي الله عنها جارية اشترتها وفي الموطإ أن جارية لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم سحرتها وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت كما في التبصرة وأما الإجماع فقد كان السحر وخبره معلوما للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكانوا مجمعين عليه قبل ظهور القدرية ؛ ولأن الله عز وجل قادر على خلق ما يشاء عقب كلام مخصوص أو أدوية مخصوصة .

وأما الوجهان اللذان احتجوا بهما . ( فالأول ) قوله تعالى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فهو تخيل لا حقيقة له وجوابه أنه حجة لنا ؛ لأنه تعالى أثبت السحر ، وإنما لم ينهض بالخيال إلى السعي ونحن لا ندعي أن كل سحر ينهض إلى كل المقاصد .

( والثاني ) أنه لو كانت له حقيقة لأمكن الساحر أن يدعي به النبوة فإنه يأتي بالخوارق على اختلافها ، وجوابه أن إضلال الله تعالى للخلق ممكن لكن الله تعالى أجرى عادته بضبط مصالحهم فما يسر ذلك على الساحر وكم من ممكن يمنعه الله عز وجل عن الدخول في العالم ؛ لأنواع من الحكم مع أننا سنبين بعد إن شاء الله تعالى الفرق بين السحر والمعجزات من وجوه فلا يحصل اللبس والضلال . ا هـ بزيادة ما .




الخدمات العلمية