الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثالث والخمسون والمائتان بين قاعدة الغيبة المحرمة وقاعدة الغيبة التي لا تحرم ) قال تعالى { ولا يغتب بعضكم بعضا } وقال عليه السلام { الغيبة أن تذكر في المرء ما يكره إن سمع قيل : يا رسول الله ، وإن كان حقا قال إن قلت : باطلا فذلك البهتان } فدل هذا النص على أن الغيبة ما يكرهه الإنسان إذا سمعه وأنه لا يسمى غيبة إلا إذا كان غائبا لقوله إن سمع فدل ذلك على أنه ليس بحاضر ، وهو يتناول جميع ما يكره ؛ لأن ما من صيغ العموم

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الخامس والخمسون والمائتان بين قاعدة الغيبة المحرمة وقاعدة الغيبة التي لا تحرم )

وهو أن الأصل في الغيبة الحرمة لنهي الله عنها بقوله تعالى { ولا يغتب بعضكم بعضا } أي لا يتكلم أحد منكم في حق أحد في غيبته بما هو فيه مما يكرهه ففيما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وطرقه كثيرة عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { أتدرون ما الغيبة قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره } كما في الزواجر وفي الأصل أن تذكر في المرء ما يكره إن سمع قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته قال الأصل فدل قوله : صلى الله عليه وسلم إن سمع نصا على أنه لا يسمى ما يكرهه الإنسان إذا سمعه غيبة إلا إذا كان غائبا ، وليس بحاضر أي سواء كان حيا أو ميتا ، قال : ولفظ ما من صيغ العموم فتتناول جميع ما يكره . ا هـ . أي سواء كان في بدنه كأحول أو قصير أو أسود أو ضدها أو في نسبه كأبوه هندي أو إسكاف أو نحوهما مما يكرهه كيف كان أو في خلقه كسيئ الخلق عاجز ضعيف أو في فعله الديني ككذاب أو متهاون بالصلاة أو لا يحسنها أو عاق لوالديه أو لا يعطي الزكاة أو لا يؤديها لمستحقيها أو في فعله الدنيوي كقليل الأدب ، أو لا يرى لأحد حقا على نفسه أو كثير الأكل أو النوم أو في ثوبه كطويل الذيل أو قصيره وسخه أو في داره كقليلة المرافق أو في دابته كجموح أو في ولده كقليل التربية ، أو في زوجته ككثيرة الخروج أو عجوز أو تحكم عليه ، أو قليلة النظافة ، أو في خادمه كآبق ، أو غير ذلك من كل ما يعلم أنه يكرهه لو بلغه ، وحكمة تحريمها مع أنها صدق المبالغة في حفظ عرض المؤمن ، والإشارة إلى عظيم تأكد حرمته وحقوقه .

وزاد - تعالى - ذلك تأكيدا وتحقيقا بتشبيه عرضه بلحمه ودمه مع المبالغة في ذلك أيضا بالتعبير فيه بالأحب

[ ص: 230 ] فقال عز من قائل { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } ووجه التشبيه أن الإنسان يتألم قلبه من قرض عرضه كما يتألم بدنه من قطع لحمه لأكله بل أبلغ ؛ لأن عرض العاقل عنده أشرف من لحمه ودمه ، وكما أنه لا يحسن من عاقل أكل لحوم الناس لا يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى ؛ لأنه ألم ، ووجه الآكدية في لحم أخيه أن الأخ لا يمكنه مضغ لحم أخيه فضلا عن أكله بخلاف العدو ، فإنه يأكل لحم عدوه من غير توقف منه في ذلك ، واندفع بميتا - الواقع حالا إما من لحم أخيه أو أخيه - ما قد يقال : إنما تحرم الغيبة في الوجه ؛ لأنها التي تؤلم حينئذ بخلافها في الغيبة ، فإنه لا اطلاع للمغتاب عليها ، ووجه اندفاع هذا أن أكل لحم الأخ ، وهو ميت لا يؤلم أيضا ، ومع ذلك هو في غاية القبح كما أنه لو فرض الاطلاع لتألم به فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه فكذا الغيبة تحرم في الغيبة ؛ لأن المغتاب لو اطلع عليها لتألم ، وأيضا ففي العرض حق مؤكد لله - تعالى - فلو فرض أن الغيبة وقعت بحيث لا يمكن المغتاب العلم بها حرمت أيضا رعاية لحق الله - تعالى - وفطما للناس عن الأعراض والخوض فيها بوجه من الوجوه اللهم إلا للأسباب الآتية ؛ لأنها محل ضرورة فتباح حينئذ لأجل الضرورة كما أشارت الآية إلى ذلك أيضا بذكر " ميتا " إذ لحم الميت إنما يحل للضرورة الحاقة حتى لو وجد المضطر ميتة أخرى مع ميتة الآدمي لم تحل له ميتة الآدمي بخلاف ما لو لم يجد إلا ميتة الآدمي ، فإذا تحقق الفرض الصحيح الشرعي الذي لا يتوصل إليه إلا بالغيبة خرجت عن أصلها من الحرمة وحينئذ فتجب أو تباح .




الخدمات العلمية