الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القاعدة الخامسة والثلاثون ) : من ملك منفعة عين بعقد ثم ملك العين بسبب آخر هل ينفسخ العقد الأول أم لا ؟ ههنا صورتان : [ ص: 43 ] إحداهما : أن يكون العقد الذي ملك به المنفعة عقدا مؤبدا ، فإن لم يكن عقد معاوضة فلا معنى لانفساخه كالموصى له بمنافع الأمة إذا اشتراها فإنه يجتمع له ملكها بالعقدين ولا ضرر في ذلك ، فهو كما لو كان ملكه للمنفعة بغير عقد كملك الورثة لمنافع العين الموصى برقبتها إذا اشتروها من الموصى له ، وإن كان عقد معاوضة وهو النكاح انفسخ بملك الرقبة ، لأنه ملك ضعيف ومختلف في مورده هل هو المنفعة أو الانتفاع ؟ ويختص بمنفعة البضع ويملك به الاستمتاع بنفسه دون المعاوضة عليه فلا يجتمع مع الملك القوي ، وهو ملك الرقبة ، بل يندفع به ولا نقول : إنه يدخل ملكه في ملك الرقبة ; لأن مالك الرقبة لم يكن مالكا له فكيف يتضمن عقده على الرقبة بملكه ، بل نقول قد اجتمع له ملك الرقبة بجميع منافعها بجهة وملك البضع { ملكا } بجهة أخرى ضعيفة ، فبطلت خصوصيات الجهة الضعيفة كلها لمصيره مالكا للجميع ملكا تاما وهذا صحيح ، فإنه لا يمكن بعد هذا الملك أن يقال : إنه يملك الانتفاع بالبضع دون منفعته ، ولا أنه يملك الانتفاع به بنفسه دون المعاوضة عليه ، فتعين إلغاء خصوصيات عقد النكاح كلها .

والصورة الثانية : أن يكون العقد المملوك به المنفعة غير مؤبد كالإجارة ، فإذا ملك { العين } بعد ذلك فهل ينفسخ ؟ فيه وجهان : ويندرج تحت ذلك صور : منها : لو اشترى المستأجر العين المستأجرة من مؤجرها ففي انفساخ الإجارة وجهان حكاهما الأصحاب وربما حكي روايتان : أحدهما : ينفسخ لأنه ملك الرقبة فبطل ملك المنفعة كما لو اشترى زوجته .

والثاني : لا ينفسخ وهو الصحيح وهو اختيار القاضي وابن عقيل والأكثرين ; لأن المنافع ملكها أولا بجهة الإجارة وخرجت عن ملك المؤجر ، والبيع بعد ذلك يقع على ما يملكه البائع وهو العين المسلوبة النفع فصار كما لو اشترى العين الموصى بمنافعها من الورثة واستأجر المنافع من مالكها في عقد أو عقدين ، فإن الإجارة لا تنفسخ بغير خلاف ، ولا منافاة بين ثبوت البيع والإجارة بخلاف النكاح ، وأيضا فالملك هاهنا أقوى من ملك النكاح لأنه يملك الانتفاع والمعاوضة ، ويملك به عموم المنافع ، فلا تنفسخ بملك الرقبة ، فإن قيل : لو لم تنفسخ الإجارة لعادت المنافع بعد انقضاء مدتها إلى المؤجر لأنه لم يدخل في عقد البيع ، وإنما استأجرها مدة مؤقتة بخلاف الزوج ، لأنه ملك المنفعة ملكا مؤبدا ، فالجواب أن البائع باع ما يملكه من العين ومنافعها التي يستحقها بعد انقضاء مدة الإجارة ، فإنه يملك العقد على المنافع التي تلي العقد والتي تتأخر عنه بالإجارة عندنا فالبيع أولى ، أما إن كان الاستئجار من غير البائع وإن كان مالكا للمنافع المؤبدة فالإجارة باقية وتعود إليه بعد انقضاء المدة بغير تردد ، ولو ملك المستأجر العين بهبة فهو كما لو ملكها بشراء ، صرح به الشيخ مجد الدين في مسودته على الهداية ، فأما إن وهب العين المستعارة من المستعير فإنه تبطل العارية ، وذكره القاضي وابن عقيل ; لأنه عقد غير لازم .

ومنها : لو استأجر دارا من أبيه ثم مات الأب وورثها فهل تنفسخ الإجارة ؟ فيه وجهان أيضا [ ص: 44 ] وخرجهما صاحب التلخيص من المسألة التي قبلها ، والمذهب عند القاضي في الخلاف أنه لا ينفسخ كشراء المستأجر ، وقال في المجرد ينفسخ ، وتوجه بأن الملك بالإرث قهري يقتضي تملك ما لا يتملك مثله بالعقود فجاز أن يملك به المنافع المستأجرة من مستأجرها فتنفسخ الإجارة ، وأيضا فقد ينبني هذا على المنافع المستأجرة هل تحدث على ملك المؤجر ثم تنتقل إلى ملك المستأجر فإن قلنا بذلك فلا معنى لحدوثها على ملكه وانتقالها إليه ، هذا إذا كان ثم وارث سواه لأن فائدة بقاء الإجارة استحقاق بقية الأجرة ، فإذا لم يكن وارث سواه فلا معنى لاستحقاقه العوض على نفسه إلا أن يكون على أبيه دين لغيره وقد مات مفلسا بعد أن أسلفه الأجرة .

ومنها : لو اشترى طلعا لم يؤبر في رءوس نخلة بشرط قطعه ثم اشترى أصله في الحال ، فهل يتخرج انفساخ البيع في الطلع على ما مر من الوجهين لأنه بمنزلة المنفعة لتبعه في البيع أم لا ; لأنه عين مستقلة ؟ فيه تردد ، والمجزوم به في الكافي أنه لا ينفسخ بغير خلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية