الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              [ ص: 237 ] فإن قيل: عبد الله بن الحكم وعثمان لا يعرفان.

                                                              قيل: بل هما ثقتان مشهوران عثمان بن أبي شيبة، وعبد الله بن الحكم القطواني، وهما من رجال الصحيح.

                                                              وفي "الصحيحين" من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي غلبت غضبي .

                                                              وفي لفظ البخاري : وهو وضع عنده على العرش . وفي لفظ له أيضا: فهو مكتوب فوق العرش ، و "وضع" بمعنى موضوع، مصدر بمعنى المفعول، كنظائره.

                                                              وفي "صحيح البخاري" أيضا من حديث حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن أنس قال : كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات ! .

                                                              وفي لفظ للبخاري : كانت تقول: أنكحني الله في السماء .

                                                              [ ص: 238 ] وفي "الصحيحين" من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، - ولا يصعد إلى الله إلا الطيب-، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل ، لفظ البخاري.

                                                              وفي "الصحيحين" من حديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون .

                                                              ورواه البيهقي بإسناد صحيح وقال : ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم ، وقال أخرجاه في "الصحيح".

                                                              [ ص: 239 ] وفي "الصحيحين" قصة سعد بن معاذ، وحكمه في بني قريظة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الملك . ورواه البيهقي من حديث سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه، وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد حكم فيهم اليوم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات .

                                                              وقال ابن إسحاق في حديثه: لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبعة أرقعة . والرقيع من أسماء السماء، وقد تقدم.

                                                              وروى الترمذي والإمام أحمد من حديث الحسن، عن عمران بن [ ص: 240 ] حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: يا حصين كم تعبد اليوم إلها؟ قال أبي: سبعة، ستة في الأرض وواحدا في السماء، قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك.

                                                              قال : فلما أسلم حصين قال : يا رسول الله علمني الكلمتين اللتين وعدتني، قال: قل : اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي"
                                                              .

                                                              وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهد للجارية بالإيمان حيث أقرت بأن الله في السماء، وحديثها في "صحيح مسلم".

                                                              وثبت عنه في "الصحيح" أنه جعل يشير بأصبعه إلى السماء - في خطبته في حجة الوداع وينكسها إلى الناس ويقول : "اللهم اشهد"، وكان مستشهدا بالله حينئذ، لم يكن داعيا حتى يقال: السماء قبلة الدعاء.

                                                              [ ص: 241 ] وفي " الصحيحين" من حديث عبد الرحمن بن أبي نعيم قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله [ق245] عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، فقسمها بين أربعة نفر، بين عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن علاثة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا أحق بهذا من هؤلاء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء .

                                                              وسيأتي إن شاء الله حديث أبي الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء ... الحديث ، رواه أبو داود في الطب.

                                                              [ ص: 242 ] وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس - مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص -، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء . رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح، وسيأتي في كتاب الأدب.

                                                              وفي "صحيح ابن حبان"، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن ربكم حي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا .

                                                              وقد روى الترمذي والبيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن يعلى بن [ ص: 243 ] عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين العقيلي قال قلت : يا رسول الله أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال : كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه ، هذا لفظ البيهقي، وهذا الإسناد صححه الترمذي في موضع وحسنه في موضع، فصححه في الرؤيا: حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن عمه أبي رزين العقيلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة، وهي على رجل طائر ما لم يتحدث بها فإذا تحدث بها [ ص: 244 ] سقطت، قال : وأحسبه قال : لا تحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا" . قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

                                                              قال ابن القطان: فيلزمه تصحيح الحديث الأول أو الاقتصار على تحسين الثاني; يعني لأن الإسناد واحد.

                                                              قال: فإن قيل لعله حسن الأول لأنه من رواية حماد بن سلمة، وصحح الثاني لأنه من رواية شعبة، وفضل ما بينهما في الحفظ بين، قلنا: قد صحح من أحاديث حماد بن سلمة ما لا يحصى، وهو موضع لا نظر فيه عنده ولا عند أحد من أهل العلم، فإنه إمام، وكان عند شعبة من تعظيمه وإجلاله ما هو معلوم.

                                                              وروى البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا جرير بن حازم، عن أبي يزيد [ ص: 245 ] المديني : أن عمر بن الخطاب مر في ناس من أصحابه فلقيته عجوز واستوقفته، فوقف عليها فوضع يده على منكبيها، حتى قضت حاجتها، فلما فرغت قال له رجل : حبست رجالات قريش على هذه العجوز! قال : ويحك، تدري من هذه؟، هذه عجوز سمع الله عز وجل شكواها من فوق سبع سماوات، والله لو استوقفتني إلى الليل لوقفت عليها إلا أن آتي صلاة ثم أعود عليها .

                                                              قال البيهقي: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الجوهري، حدثنا إبراهيم بن الهيثم، حدثنا محمد بن كثير المصيصي قال : سمعت الأوزاعي يقول " كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله تعالى فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته

                                                              وقال البخاري في "الصحيح" : قال أبو العالية : استوى إلى السماء [ ص: 246 ] ارتفع، "فسوى" خلقهن، وقال مجاهد : "استوى" علا.

                                                              وقال أبو الحسن علي بن مهدي الطبري من كبار أصحاب أبي الحسن الأشعري: " والله في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا، يعني علا في الجو فوجد فوق رأسي; فالقديم سبحانه عال على عرشه، لا قاعد ولا قائم ولا مماس ولا مباين، عن العرش ، هذا كلامه حكاه عنه البيهقي.

                                                              قال: وروى [أبو] الحسن بن محمد الطبري، عن أبي عبد الله نفطويه [ ص: 247 ] قال : أخبرني أبو سليمان قال : كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله ما معنى : الرحمن على العرش استوى قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر، فقال الرجل: إنما معنى "استوى" استولى، فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك؟ العرب لا تقول: استولى على الشيء فلان حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله تعالى لا مضاد له، فهو على عرشه كما أخبر.

                                                              وقال يحيى بن إبراهيم الطليطلي في كتاب "سير الفقهاء": حدثني عبد الملك بن حبيب، عن عبد الله بن المغيرة، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون قول الرجل: يا خيبة الدهر، وكانوا يقولون الله هو الدهر; وكانوا يكرهون قول الرجل: رغم أنفي لله، وإنما يرغم أنف الكافر; وكانوا يكرهون قول الرجل: لا والذي [ق246] خاتمه على فمي، وإنما يختم على فم الكافر، وكانوا يكرهون قول الرجل: والله حيث كان، أو: إن الله بكل مكان.

                                                              قال أصبغ: وهو مستو على عرشه، وبكل مكان علمه [ ص: 248 ] وإحاطته .

                                                              وقال ابن عبد البر في التمهيد والاستذكار: قال مالك : "الله في السماء وعلمه في كل مكان".

                                                              وقال القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري في رسالته المشهورة التي سماها "رسالة الحرة": "وأن الله سبحانه شاء مريد كما قال تعالى : فعال لما يريد و: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ ص: 249 ] وقال : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ، وأن الله مستو على عرشه ومستول على جميع خلقه، كما قال تعالى : الرحمن على العرش استوى ، بغير مماسة ولا كيفية ولا مجاورة ".

                                                              وقال حافظ المغرب إمام السنة في وقته، أبو عمر ابن عبد البر في كتابيه "التمهيد" "والاستذكار" في شرح حديث مالك، عن ابن شهاب، عن الأغر وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ... الحديث .

                                                              قال أبو عمر - وهذا لفظه في "الاستذكار" -: فيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله تعالى في كل مكان وليس على العرش، والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قول الله عز وجل : الرحمن على العرش استوى ، وقوله : ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ، وقوله : ثم استوى إلى السماء وهي دخان وقوله تعالى : إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا وقوله: إليه يصعد الكلم الطيب ، [ ص: 250 ] وقوله: فلما تجلى ربه للجبل ، وقال: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ، وقال : سبح اسم ربك الأعلى وهذا من العلو، وكذلك قوله: العلي العظيم ، الكبير المتعال ، رفيع الدرجات ذو العرش ، يخافون ربهم من فوقهم .

                                                              وقال جل ذكره: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ، وقوله : تعرج الملائكة والروح إليه ، وقوله لعيسى : إني متوفيك ورافعك إلي ، وقال : بل رفعه الله إليه ، وقال : فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار ، وقال : ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ، وقال : ليس له دافع من الله ذي المعارج ، والعروج هو الصعود.

                                                              وأما قوله: أأمنتم من في السماء ، فمعناه : من على السماء، يعني على العرش، وقد تكون " في" بمعنى " على"، ألا ترى إلى قوله : فسيحوا في الأرض أي : على الأرض، وكذلك قوله : ولأصلبنكم في جذوع النخل ، أي : على جذوع النخل.

                                                              وهذا كله يعضده قوله تعالى : تعرج الملائكة والروح إليه ، وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا الباب.

                                                              فهذه الآيات وغيرها كلها واضحة في إبطال قول المعتزلة.

                                                              [ ص: 251 ] وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم : "استوى" بمعنى استولى فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد،وهو الواحد الصمد.

                                                              ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم.

                                                              ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطبتها مما يصح معناه عند السامعين.

                                                              والاستواء في اللغة معلوم مفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه.

                                                              قال أبو عبيدة: في قوله تعالى استوى ، قال: علا، وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت.

                                                              قال أبو عمرو: و [الاستواء:] الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل في كتابه فقال : لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وقال : واستوت على الجودي ، وقال : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك .

                                                              [ ص: 252 ] وقال الشاعر:


                                                              فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى



                                                              وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى، لأن النجم لا يستولي.

                                                              وقد ذكر النضر بن شميل - وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة قال: حدثني الخليل - وحسبك بالخليل - قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي - وكان من أعلم من رأيت - فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله عز وجل : ثم استوى إلى السماء وهي دخان فصعدنا إليه.

                                                              وأما من نزع منهم بحديث عبد الله بن واقد الواسطي بإسناده، عن ابن عباس: الرحمن على العرش استوى أي : استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان " ، فالجواب أن هذا حديث منكر ونقلته مجهولون ضعفاء، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث، لو عقلوا أو أنصفوا؟!

                                                              أما سمعوا الله عز وجل حيث يقول: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ، [ ص: 253 ] [ق247] فدل على أن موسى كان يقول إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذبا.

                                                              وقال أمية :


                                                              فسبحان من لا يقدر الخلق قدره     ومن هو فوق العرش فرد موحد
                                                              مليك على عرش السماء مهيمن     لعزته تعنو الوجوه وتسجد



                                                              قال أبو عمر : وإن احتجوا بقوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، وبقوله : وهو الله في السماوات وفي الأرض ، وبقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية. قيل لهم : لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء، فوجب حمل هذه الآية على المعنى الصحيح المجمع عليه،وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش، والاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر.

                                                              وأما قوله : وفي الأرض إله ، فالإجماع والاتفاق قد بين المراد أنه معبود من أهل الأرض، فتدبر هذا فإنه قاطع.

                                                              [ ص: 254 ] ومن الحجة أيضا على أنه تبارك وتعالى على العرش فوق السماوات: أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا أيديهم ووجوههم إلى السماء، فيستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته; لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.

                                                              وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم إن كانت مؤمنة، فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة ، فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم برفعها رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه. هذا لفظ أبي عمر في الاستذكار، وذكره في "التمهيد" أطول منه.

                                                              وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا هارون بن سليمان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال : "بين سماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء [ ص: 255 ] خمسمائة عام، وبين [السماء] السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والكرسي فوق الماء، والله عز وجل فوق الكرسي، ويعلم ما أنتم عليه ".

                                                              قال: ورواه عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال : ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، ثم بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ثم ما بين السماء السابعة وبين الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام، والكرسي فوق الماء والله فوق العرش، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم .

                                                              وقال الشافعي - في كتاب "الأم"، ورويناه في "مسنده" - أخبرنا [ ص: 256 ] إبراهيم بن محمد، قال: حدثني موسى بن عبيد، قال: حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، أنه سمع أنس بن مالك يقول : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بمرآة بيضاء فيها نكتة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذه ؟ فقال : هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، والناس لكم فيها تبع: اليهود والنصارى، ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا جبريل وما يوم المزيد ؟ فقال : إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثيب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تبارك وتعالى ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد للنبيين، وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله عز وجل: أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم، فيقولون ربنا نسألك رضوانك، فيقول قد رضيت عنكم، ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد.

                                                              فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربك تبارك وتعالى على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة
                                                              .

                                                              قال الشافعي : وأخبرنا إبراهيم قال : حدثني أبو عمران إبراهيم بن [ ص: 257 ] الجعد، عن أنس بن مالك شبيها به.

                                                              احتج به الشافعي في فضل الجمعة، وكان حسن القول في إبراهيم بن محمد شيخه، والحديث له طرق عديدة.

                                                              ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان قال: قال أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل - فذكره ".

                                                              ورواه محمد بن شعيب، عن عمر مولى غفرة، عن أنس بن مالك، عن النبي [ق248] صلى الله عليه وسلم.

                                                              [ ص: 258 ] ورواه أبو طيبة، عن عثمان بن عمير، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                              وقد جمع أبو بكر بن أبي داود طرقه وقال: أبو طيبة اسمه رجاء بن الحارث ثقة، وعثمان بن عمير يكنى أبا اليقظان.

                                                              وقد تواترت الأحاديث الصحيحة التي أجمعت الأمة على صحتها وقبولها: بأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به إلى ربه، وأنه جاوز السماوات السبع، وأنه تردد بين موسى وبين الله عز وجل مرارا في شأن الصلاة وتخفيفها، وهذا من أعظم الحجج على الجهمية، فإنهم لا يقولون: عرج به إلى ربه، وإنما يقولون: عرج به إلى السماء.

                                                              وقد تواترت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم : بأن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يقول: هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ رواه بضعة وعشرون صحابيا.

                                                              [ ص: 259 ] وفي "مسند الإمام أحمد" و "سنن ابن ماجه" من حديث محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة.

                                                              قال وذلك قوله تعالى : سلام قولا من رب رحيم ، فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم
                                                              .

                                                              وفي "الصحيحين" عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .

                                                              قال أبو عبد الله الحاكم في "علوم الحديث" في النوع العشرين: [ ص: 260 ] سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول : سمعت أبا بكر بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سماوات فهو كافر به، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل، حيث لا يتأذى المسلمون، ولا المعاهدون بنتن ريح جيفته، وكان ماله فيئا لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                              وقال بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ، قال : هو الله عز وجل على العرش وعلمه معهم ، ذكره البيهقي .

                                                              وبهذا الإسناد قال مقاتل بن حيان: بلغنا - والله أعلم - في قوله عز وجل هو الأول : الأول قبل كل شيء ، والآخر بعد كل شيء، والظاهر فوق كل شيء ، والباطن أقرب من كل شيء، وإنما يعني بالقرب: بعلمه وقدرته، وهو فوق عرشه، وهو بكل شيء عليم ذكره البيهقي أيضا.

                                                              [ ص: 261 ] قال: وبهذا الإسناد، عن مقاتل بن حيان في قوله : إلا هو معهم ، يقول " علمه " وذلك قوله : إن الله بكل شيء عليم ، فيعلم نجواهم ويسمع كلامهم ثم ينبئهم يوم القيامة بكل شيء، وهو فوق عرشه وعلمه معهم.

                                                              وقال الحاكم: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت محمد بن نعيم يقول: سمعت الحسن بن الصباح البزار يقول : سمعت علي بن الحسن بن شقيق يقول: سألت عبد الله بن المبارك، قلت : كيف نعرف ربنا ؟ قال: في السماء السابعة على عرشه " .

                                                              قال الحاكم: وأخبرنا أبو بكر محمد بن داود الزاهد، حدثنا محمد بن عبد الرحمن السامي، حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه المروزي، قال : سمعت علي بن الحسن بن شقيق [يقول] : سمعت عبد الله بن المبارك يقول : نعرف ربنا فوق سبع سماوات على العرش استوى، بائن من خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، - وأشار إلى الأرض -" .

                                                              [ ص: 262 ] وقال عبد الله بن سعيد بن كلاب فيما حكاه عنه أبو بكر بن فورك: " وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا هو داخل العالم ولا خارجه، فنفاه نفيا مستويا; لأنه لو قيل له: صفه بالعدم، ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، ورد أخبار الله نصا، وقال في ذلك بما لا يجوز في خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص، والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسون "، هذا حكاية لفظه.

                                                              وقال الخطابي في كتاب "شعار الدين": القول في أن الله تعالى مستو على العرش: هذه المسألة سبيلها التوقيف المحض، ولا يصل إليها الدليل من غير هذا الوجه، وقد نطق به الكتاب في غير آية وردت به الأخبار الصحيحة، فقبوله من جهة التوقيف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية غير [ ص: 263 ] جائز.

                                                              وقد قال مالك: " الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة "،فمن التوقيف الذي جاء به الكتاب قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى .

                                                              وقال ثم استوى على العرش الرحمن ، وقال : رفيع الدرجات ذو العرش ، وقال : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ، وقال : تعرج الملائكة والروح إليه ، وقال : بل رفعه الله إليه ، وقال : إليه يصعد الكلم الطيب .

                                                              وقال حكاية عن فرعون أنه قال: يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى ، فوقع قصد الكافر إلى الجهة التي أخبره موسى عنها، ولذلك لم يطلبه في طول الأرض وعرضها، ولم ينزل إلى طبقات الأرض سفلا.

                                                              فدل ما تلوناه من هذه الآي على أن الله سبحانه في السماء مستو على [ ص: 264 ] العرش، ولو كان بكل مكان لم يكن لهذا التخصيص معنى ولا فيه فائدة، وقد جرت عادة المسلمين خاصتهم وعامتهم بأن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه، ويرفعوا أيديهم إلى السماء، وذلك لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه.

                                                              ثم ذكر قول من فسر الاستواء بالاستيلاء وبين فساده.

                                                              وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب "مقالات المصلين" له في باب ترجمته: "باب اختلافهم في الباري هل هو مكان دون مكان، أم لا في مكان، أم في كل مكان؟ وهل حملة العرش ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة؟ اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة.

                                                              ثم قال: وقال أهل السنة والحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه على العرش كما قال : الرحمن على العرش استوى ، فلا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا كيف،وإن له وجها كما قال : ويبقى وجه ربك ، وإن له يدين كما قال : خلقت بيدي ، وإن له عينين كما قال : تجري بأعيننا .

                                                              وإنه يجيء يوم القيامة وملائكته كما قال : وجاء ربك والملك صفا صفا ، وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                              وقالت المعتزلة: إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى.

                                                              [ ص: 265 ] وقال بعد ذلك في حكاية قول أهل السنة والحديث: هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة.

                                                              جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، وأنه تعالى إله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.

                                                              وأن الله تعالى على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : خلقت بيدي ، بل يداه مبسوطتان ، وأن له عينين بلا كيف كما قال : تجري بأعيننا ، وأن له وجها كما قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .

                                                              ثم ذكر مذهب عبد الله بن سعيد بن كلاب فقال: "كان يقول : إن القرآن كلام الله ..." وساقه إلى أن قال : "وإنه مستو على عرشه كما قال، وإنه تعالى فوق كل شيء". هذا كله لفظه في "المقالات".

                                                              [ ص: 266 ] وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله أيضا في كتاب "الموجز": فإن قالوا: أفتزعمون أن الله في السماء؟ قيل له: قد نقول : إن الله عال فوق العرش مستو عليه، والعرش فوق السماء، ولا نصفه بالدخول في الأمكنة المباينة لها.

                                                              وأما قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، فإن معناه أنه إله أهل الأرض وأهل السماء، وقد جاءت الأخبار أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا، فكيف يكون فيها وهو ينزل إليها؟! كما جاءت الأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا .

                                                              فهذا الذي استقر عليه مذهب أبي الحسن في كل كتبه كـ "الموجز" و "المقالات" و "المسائل" و "رسالته إلى أهل الثغر" و "الإبانة" : أن الله تعالى فوق عرشه مستو عليه، ولا يطلق عليه لفظ المباينة; لأنها عنده من لوازم الجسم والله تعالى منزه عن الجسمية، فظن بعض أتباعه أن نفيه للمباينة نفي للعلو والاستواء بطريق اللزوم، فنسبه إليه وقوله ما هو قائل بخلافه، وهذا بين لكل منصف تأمل كلامه وطالع كتبه.

                                                              [وختم أبو داود هذا الباب بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن [ ص: 267 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ] .

                                                              وفي كتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد - من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السماوات السبع إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك .

                                                              وفي "مسند الحسن بن سفيان" من حديث ابن أبي مليكة، عن ذكوان: استأذن ابن عباس على عائشة، فقالت: لا حاجة لي بتزكيته، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: يا أختاه إن ابن عباس من صالحي بنيك، جاء يعودك، قالت: فأذن له، فدخل عليها، فقال: يا أمه أبشري، فوالله ما بينك [ ص: 268 ] وبين أن تلقي محمدا والأحبة إلا أن يفارق روحك جسدك، كنت أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبا.

                                                              قالت: وأيضا، قال: هلكت قلادتك بالأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقطها، فلم يجدوا ماء، فأنزل الله عز وجل : فتيمموا صعيدا طيبا ، وكان ذلك بسببك وبركتك ما أنزل الله تعالى لهذه الأمة من الرخصة .

                                                              وكان من أمر مسطح ما كان فأنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فليس مسجد يذكر الله فيه، إلا وبراءتك تتلى فيه آناء الليل وأطراف النهار
                                                              .

                                                              وقال أبو عمر بن عبد البر: روينا من وجوه عن عمر بن الخطاب أنه خرج ومعه الناس [فمر بعجوز فاستوقفته، فوقف لها وجعل يحدثها وتحدثه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجوز، قال: ويلك! تدري من هذه؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات - وذكر الحديث- . [ ص: 269 ] وقال أبو عمر بن عبد البر: روينا من وجوه صحاح: أن عبد الله بن رواحة مشى ليلة إلى أمة له، فنالها، فرأته امرأته فلامته فجحدها، فقالت: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن، [ق250] فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال:


                                                              شهدت بأن وعد الله حق     وأن النار مثوى الكافرينا
                                                              وأن العرش فوق الماء طاف     وفوق العرش رب العالمينا



                                                              فقالت امرأته: آمنت بالله وكذبت عيني! وكانت لا تحفظ القرآن .

                                                              وفي تاريخ البخاري: حدثنا محمد بن فضيل، عن فضيل بن [ ص: 270 ] غزوان، عن نافع، عن ابن عمر قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل أبو بكر فأكب عليه وقبل جبهته، وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، وقال: من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت .

                                                              وفي "مغازي الأموي"، عن البكائي، عن ابن إسحاق، حدثني يزيد بن سنان، عن سعيد بن الأجرد، عن العرس بن قيس الكندي، عن عدي بن عميرة قال : خرجت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثا طويلا - وفيه: فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم، ويزعمون أن إلههم في السماء، فأسلمت وتبعته .

                                                              وفي "مسند أحمد"، عن يزيد بن هارون: حدثنا المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة : أن [ ص: 271 ] رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية ، فقال: يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فأشارت بأصبعها إلى السماء، فقال لها: من أنا ؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، [أي:] أنت رسول الله ، فقال: أعتقها .

                                                              وهذه غير قصة معاوية بن الحكم التي في "صحيح مسلم"-، فقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان لمن شهد أن الله في السماء، وشهد عليه الجهمية بالكفر!.

                                                              وقال أحمد في "مسنده": حدثنا حسين بن محمد، حدثنا ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا ؟ فيقال: فلان، فيقولون: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب [ ص: 272 ] غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله ... وذكر الحديث .

                                                              وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها .

                                                              وفي "مسند الحارث بن أبي أسامة" من حديث عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل يرفعه: إن الله ليكره في السماء أن يخطأ أبو بكر في الأرض .

                                                              ولا تعارض بين هذا وبين تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم له في بعض تعبيره الرؤيا [ ص: 273 ] لوجهين:

                                                              أحدهما: أن الله يكره تخطئة غيره من آحاد الأمة له، لا تخطئة الرسول له في أمر ما، فإن الصواب والحق مع الرسول صلى الله عليه وسلم قطعا، بخلاف غيره من الأمة، فإنه إذا خطأ الصديق لم يتحقق أن الصواب معه، بل ما تنازع الصديق وغيره في أمر إلا كان الصواب مع الصديق.

                                                              الثاني: أن التخطئة هنا من نسبته إلى "الخطء" الذي هو الإثم، دون "الخطأ" الذي هو ضد التعمد، والله أعلم.

                                                              وروى شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس يرفعه: إن العبد ليشرف على حاجة من حاجات الدنيا، فيذكره الله من فوق سبع سماوات، فيقول: ملائكتي إن عبدي هذا قد أشرف على حاجة من حاجات الدنيا، فإن فتحتها له فتحت له بابا من أبواب النار، ولكن ازووها عنه، فيصبح العبد عاضا على أنامله يقول: " من دهاني؟ من سبقني؟ وما هي إلا رحمة رحمه الله بها ذكره أبو نعيم.

                                                              [ ص: 274 ] وفي "الثقفيات" من حديث جابر بن سليم أبي جري قال : ركبت قعودا لي فأتيت المدينة فأنخت بباب المسجد - فذكر حديثا طويلا - وفيه فقال رجل : يا رسول الله ذكرت إسبال الإزار، فقد يكون بالرجل القرح، أو الشيء فيستخفي منه.

                                                              قال: "لا بأس إلى نصف الساق أو إلى الكعبين، إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردين فتبختر فيهما، فنظر [الله] إليه من فوق عرشه فمقته، فأمر الأرض فأخذته، فهو يتجلجل في الأرض، فاحذروا وقائع الله


                                                              [ ص: 275 ] وقال ابن أبي شيبة: حدثنا عبدة بن سليمان، عن أبي حيان، عن حبيب بن أبي ثابت، أن حسان بن ثابت أنشد النبي صلى الله عليه وسلم:


                                                              شهدت بإذن الله أن محمدا     رسول الذي فوق السماوات من عل
                                                              وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما     له عمل في دينه متقبل
                                                              وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم     يقول بذات الله فيهم ويعدل



                                                              وفي حديث الشفاعة الطويل من رواية زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النميري، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وفيه: فأدخل على ربي عز وجل [ق251] وهو على عرشه .

                                                              وفي لفظ للبخاري : فأستأذن على ربي في داره .

                                                              وفي لفظ آخر : فآتي تحت العرش فأخر ساجدا لربي .

                                                              وفي حديث عبد الله بن أنيس، الذي رحل إليه جابر شهرا حتى سمعه [ ص: 276 ] منه في القصاص: ثم يناديهم الله تعالى وهو قائم على عرشه ... وذكر الحديث. واستشهد البخاري ببعضه.

                                                              وفي "سنن ابن ماجه" و "مسند أحمد" من حديث الفضل الرقاشي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم، فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قوله : سلام قولا من رب رحيم ، قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم، ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم .

                                                              وروى الوليد بن القاسم، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي [ ص: 277 ] هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصا، إلا صعدت لا يردها حجاب، فإذا وصلت إلى الله نظر إلى قائلها، وحق على الله أن لا ينظر إلى موحد إلا رحمه .

                                                              وفي "مسند الحسن بن سفيان" من حديث أبي جعفر الرازي، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، قال: اللهم أنت واحد في السماء، وأنا في [ ص: 278 ] الأرض واحد عبدك .

                                                              ولما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبي الصلت:


                                                              مجدوا الله فهو للمجد أهل     ربنا في السماء أمسى كبيرا
                                                              بالبناء الأعلى الذي سبق الخلـ     ـق وسوى فوق السماء سريرا
                                                              يرجع ما يناله بصر العيـ     ـن ترى دونه الملائك صورا



                                                              قال النبي صلى الله عليه وسلم: آمن شعره وكفر قلبه
                                                              .

                                                              وروى عاصم، عن زر ، عن [ ص: 279 ] عبد الله بن مسعود قال: ما بين السماء القصوى وبين الكرسي - إلى قوله - والله فوق ذلك وقد تقدم.

                                                              وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا إبراهيم بن حكيم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة في قوله تعالى: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، قال : [قال ابن عباس:] قال لم يستطع أن يقول: "من فوقهم، علم أن الله من فوقهم" .

                                                              وقال علي بن الأقمر: كان مسروق إذا حدث، عن عائشة قال : حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سماوات ".

                                                              [ ص: 280 ] وقال سلمة بن شبيب: حدثنا إبراهيم بن حكيم، حدثني أبي، عن عكرمة قال: بينما رجل مستلق على مثلته في الجنة، فقال في نفسه - لم يحرك شفتيه :- لو أن الله يأذن لي لزرعت في الجنة، فلم يعلم إلا والملائكة على أبواب جنته قابضين على أكفهم، فيقولون: سلام عليك، فاستوى قاعدا فقالوا له: يقول لك ربك: تمنيت شيئا في نفسك فقد علمته، وقد بعث معنا هذا البذر يقول : ابذر، فألقى يمينا وشمالا وبين يديه وخلفه، فخرج أمثال الجبال على ما كان تمنى وأراد،فقال له الرب من فوق عرشه: كل يا ابن آدم، فإن ابن آدم لا يشبع . وأصله في صحيح البخاري.

                                                              وفي "تفسير سنيد" شيخ البخاري، عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم قال: [ ص: 281 ] هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا .

                                                              وفي "تاريخ ابن أبي خيثمة": حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ضمرة، عن صدقة التيمي قال: سمعت سليمان التيمي، يقول :" لو سئلت أين الله؟ لقلت في السماء ".

                                                              وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله : وهو معهم ، هو رابعهم قال: علمه، محيط بكل شيء يعلم الغيب وهو على العرش.

                                                              [ ص: 282 ] وقال يوسف بن موسى: قيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: الله فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان ؟ قال نعم، الله على العرش وعلمه لا يخلو منه مكان.

                                                              وقال الأثرم: حدثني محمد بن إبراهيم القيسي، قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك أنه قيل له: كيف نعرف ربنا ؟ قال: في السماء السابعة على عرشه، قال أحمد: هكذا هو عندنا.

                                                              وذكر أبو [محمد] عبد الرحمن بن أبي حاتم في "كتاب السنة"، عن [ ص: 283 ] الإمام أبي عبد الله الشافعي-، قدس الله روحه، ورضي عنه- قال: السنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها- أهل الحديث الذين رأيتهم فأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما - : الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف يشاء، وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كيف يشاء ... وذكر كلاما طويلا.

                                                              وقال عبد الرحمن أيضا: سألت أبي وأبا زرعة، عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدون من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا، فكان من مذاهبهم: أن الإيمان قول وعمل، يزيد [ق252] وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله، وأن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علما، و ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

                                                              [ ص: 284 ] وقال أبو القاسم الطبري في كتاب "شرح السنة" له: وجدت في كتاب أبي حاتم الرازي: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والتابعين من بعدهم، والتمسك بمذاهب أهل الأثر مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد القاسم ، والشافعي رحمهم الله، ولزوم الكتاب والسنة... ونعتقد أن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

                                                              وفي كتاب "الإبانة" لأبي الحسن الأشعري رحمه الله - ذكره أبو القاسم بن عساكر وعده من كتبه، وحكى كلامه فيه مبينا عقيدته، والذب عنه- قال: " ذكر الاستواء على العرش، إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء ؟ قال نقول له: إن الله مستو على عرشه، كما قال : الرحمن على العرش استوى ، وقال : إليه يصعد الكلم الطيب ، [وقال : بل رفعه الله إليه ، وقال : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ، [ ص: 285 ] وقال حكاية عن فرعون : يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ، كذب فرعون موسى في قوله إن الله فوق السماوات.

                                                              وقال عز وجل : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ، فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش هو فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال : أأمنتم من في السماء ، يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات; ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال : وجعل القمر فيهن نورا ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعا؟.

                                                              ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء ; لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية