الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 295 ] المسألة التاسعة: إقرار المريض مرض الموت:

        فيها أمور:

        الأمر الأول: الإقرار لوارث.

        الإقرار في اللغة: الاعتراف.

        وفي الاصطلاح: إخبار الإنسان عن حق عليه لآخر.


        تحرير محل النزاع:

        أ- يقبل إقرار المريض لوارث إذا صدقه بقية الورثة.

        ب- يقبل إقرار المريض إذا كان الوارث يتمكن من أخذ حقه بغير الإقرار، كما لو كان للوارث وديعة، وقد ثبتت بالبينة ونحو ذلك.

        اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- على أقوال:

        القول الأول: الصحة مطلقا، سواء أقر له في الصحة أو المرض، أقر لمن يتهم عليه أو لغيره.

        وهو المعتمد عند الشافعية، ورواية عن أحمد، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وشريح، والأوزاعي، وطاوس، وعطاء، والحسن البصري، واختاره البخاري.

        القول الثاني: المنع مطلقا، إلا إقرار الزوج لزوجته بصداقها.

        وهو قول شريح، والحسن بن صالح. [ ص: 296 ]

        القول الثالث: الفرق بين الإقرار في الصحة، والإقرار في المرض، فما كان في الصحة فهو صحيح لازم، وما كان في المرض فهو موقوف على إجازة الورثة.

        وهو قول الحنفية، وأحد قولي الشافعي، والحنابلة، وبه قال الثوري، والقاسم.

        وللمالكية تفصيل في هذه المسألة ينبني على صحة الإقرار مع عدم التهمة، وعدم صحتها مع التهمة.

        الأدلة:

        أدلة من قال بقبول إقراره لوارث:

        1- قوله تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو دين فقد سوى بين الوصية والدين في تقديمهما على الميراث ولم يفصل، فخرجت الوصية بدليل منفصل، وبقي الدين على إطلاقه الشامل للدين الثابت بالبينة والثابت بالإقرار للوارث وغيره.

        ونوقش: بأن الآية تدل على تقديم الدين على الميراث، وهذا لا نزاع فيه، متى كان الدين ثابتا بغير الإقرار بالمرض، فإن كان ثابتا بالإقرار فلا بد من القرائن الدالة على صحته.

        2- قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين فهذا أمر للجميع بالشهادة على النفس وهي [ ص: 297 ] الإقرار عليها بالحق، وهي عامة في الأشخاص والأحوال، وتشمل الصحيح والمريض; لقاعدة: عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال.

        والأمر فيها للوجوب، وإذا وجب الإقرار للوارث بحقه كان إقراره صحيحا، ووجب العمل به وتنفيذه؛ أخذا بقاعدة: أن الأمر بالشيء يستلزم صحته عند الإتيان به على الوجه المأمور به، وإلا لم تكن فائدة في الأمر به والإتيان به.

        3- قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها .

        وجه الاستدلال: أن لفظ الأمانات جمع معرف بأل فيعم جميع الأمانات، والدين أمانة بنص قوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته فيدخل في ذلك دين الوارث، فيجب أداؤه، وإذا لم يتأت أداؤه يجب الإقرار به; لأنه لا سبيل لأدائه إلا بالإقرار به، والمقدور الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب، كما يقول الأصوليون.

        وإذا وجب الإقرار وجب تنفيذه لما سبق.

        4- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف".

        وجه الاستدلال: أن فيه ذم الخيانة، والذم يقتضي التحريم، وكتمان الدين وعدم الإقرار به نوع من الخيانة المحرمة، والمنهي عنها، والنهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده أو يتضمنه، كما يقول الأصوليون، فيكون الاعتراف للدائن بدينه واجبا; لأنه إذا كتمه يصير خائنا، والأمر يستلزم صحة [ ص: 298 ] المأمور به والاعتداد به عند فعله على وجهه، وإلا لم تكن فائدة في الأمر به وإيجاره.

        (277) 5- ما رواه البخاري من طريق همام بن منبه، ومسلم من طريق الأعرج، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث".

        وجه الاستدلال: أن فيه تحذيرا من سوء الظن بالمسلم، وهو يقتضي النهي عنه، والأمر بتحسين الظن به، وهذا يدل على بطلان الاحتجاج على إقراره باتهامه فيه.

        ونوقشت هذه الأدلة بما نوقش به الدليل الأول.

        6- قياس الإقرار لوارث على الإقرار بوارث، فإن المريض إذا أقر في مرضه بوارث صح إقراره اتفاقا إذا كان على وجه الاستلحاق، وعلى خلاف في غيره، والإقرار بوارث يتضمن الإقرار لوارث بمال; لأن إقراره بالنسب إقرار له بالمال تبعا.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أن إقرار المريض لوارث قبل; لأنه لم يقصد الإقرار بالمال، وإنما دخل المال تبعا.

        الثاني: أن المريض إذا أقر بوارث، فإن هذا الوارث يستحق نصيبه من التركة بأمرين: النسب، والموت، فافترقا.

        7- قياس الإقرار في المرض على الإقرار في الصحة، فكل من صح الإقرار له في الصحة يصح الإقرار له في المرض. [ ص: 299 ]

        8- قياس الوارث على الأجنبي.

        9- أن الأحكام مدارها على الظاهر، والله يتولى السرائر، فلا يجوز إبطال إقراره بدعوى احتمال كذبه في الواقع، وأنه أراد الوصية فجعلها إقرارا؛ خوفا من اعتراض الورثة; لأنه حكم بباطن مشكوك.

        10- أن الغالب على المريض مرض الموت الصدق في إقراره، والتهمة في حقه ضعيفة وبعيدة، والمدار في الأحكام على الغالب، والحكم به واجب.

        أدلة عدم قبول إقراره لوارث:

        (278) 1- قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث، ولا إقرار له بالدين".

        ونوقش الاستدلال بالحديث من وجهين:

        الأول: أن زيادة "ولا إقرار له بالدين" غير صحيحة; لأنها مرسلة، وفي سندها نوح بن دراج، متهم بالوضع.

        الوجه الثاني: أن الأخذ بهذه الزيادة يقتضي منع الإقرار للوارث في الصحة والمرض; لعموم "ولا إقرار له بالدين"; لأنها نكرة في سياق النفي; لأن الوصية له ممنوعة في الصحة والمرض.

        (279) 2- قول عمر -رضي الله عنه-: "إذا أقر المريض لوارثه لم يجز". [ ص: 300 ]

        ونوقش: بأنه معارض بما يأتي من أدلة الجواز فتقدم عليه.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية