الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              259 (باب في رؤية الله جل جلاله)

                                                                                                                              وذكره النووي في (باب معنى قول الله عز وجل " ولقد رآه نزلة أخرى ) وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم من ربه ليلة الإسراء؟)

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 8 جـ3 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن مسروق ، قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل ولقد رآه بالأفق المبين ولقد رآه نزلة أخرى فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، فقالت: أولم تسمع أن الله يقول لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير أو لم تسمع أن الله يقول وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم [ ص: 331 ] قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا داود بهذا الإسناد نحو حديث ابن علية وزاد: قالت: ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا مما أنزل عليه لكتم هذه الآية وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن مسروق، ) قال السمعاني في "الأنساب": سمي مسروقا؛ لأنه سرقه إنسان في صغره، ثم وجد.

                                                                                                                              (قال: كنت متكئا عند "عائشة"؛ فقالت: يا أبا عائشة ! ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية) بكسر الفاء، وإسكان الراء، وهي "الكذب"، وجمعها فرى".

                                                                                                                              "قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا "صلى الله عليه وسلم" رأى ربه فقد [ ص: 332 ] أعظم على الله الفرية. قال مسروق: وكنت متكئا، فجلست؛ فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تعجليني؛ أي: أمهليني. "ألم يقل الله -عز وجل- ولقد رآه بالأفق المبين ، " ولقد رآه نزلة أخرى ".

                                                                                                                              فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطا من السماء، سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض" هكذا في الأصول وهو صحيح.

                                                                                                                              "وعظم"، بضم العين، وإسكان الظاء، وروي بكسر العين، وفتح الظاء، وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              "فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: [ ص: 333 ] لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .

                                                                                                                              أو لم تسمع أن الله يقول:

                                                                                                                              وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم .

                                                                                                                              هذا كله تصريح من عائشة، ومسروق، بجواز قول المستدل بآية من الكتاب العزيز "إن الله عز وجل يقول":

                                                                                                                              وأنكره مطرف التابعي المشهور. وقال: لا تقولوا "إن الله يقول" ولكن قولوا: "إن الله قال"، وإنكاره هذا خلاف ما فعلته الصحابة، والتابعون، ومن بعدهم من أئمة المسلمين.

                                                                                                                              والصحيح المختار: جواز الأمرين، كما استعملته عائشة ومن في عصرها، وبعدها، من السلف والخلف، وليس لمن أنكر حجة.

                                                                                                                              ومما يدل على جوازه من النصوص قوله تعالى:

                                                                                                                              والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

                                                                                                                              وفي صحيح مسلم عن أبي ذر. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ".

                                                                                                                              وفي رواية أخرى عن مسروق عند مسلم بلفظ: (سألت عائشة هل رأى [ ص: 334 ] محمد ربه ؟ فقالت: سبحان الله ! لقد وقف شعري لما قلت) وساق الحديث بقصته.

                                                                                                                              وفي الأخرى عنه عنده أيضا (قال: قلت لعائشة؛ فأين قوله تعالى: ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى .

                                                                                                                              قالت: إنما ذاك جبريل (صلى الله عليه وسلم) كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة، في صورته التي هي صورته. فسد أفق السماء".

                                                                                                                              قلت: مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه في "ليلة الإسراء" مما اختلف فيه السلف والخلف.

                                                                                                                              فأنكرتها عائشة، وأبو هريرة، وجماعة، وهو المشهور عن ابن مسعود وذهب آخرون من أهل الحديث والكلام، وابن عباس، إلى إثباتها، ومثله عن أبي ذر، وكعب، والحسن، وكان يحلف على ذلك، وحكي مثله عن أحمد بن حنبل.

                                                                                                                              وقال الأشعري وجماعة من أصحابه: إنه رآه.

                                                                                                                              ووقف بعض المالكية في هذه، وقال: ليس عليها دليل واضح، ولكنها جائزة، وسؤال موسى إياها دليل على جوازها في الدنيا.

                                                                                                                              وقال صاحب "التحرير": الحجج في هذه المسألة، وإن كانت كثيرة [ ص: 335 ] ولكنا لا نتمسك؛ إلا بالأقوى منها؛ وهو حديث "ابن عباس"؛ وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة وراسله؛ فأخبره أنه رآه.

                                                                                                                              وعائشة؛ لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: "لم أر ربي"، وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة للآيات المذكورة؛ ولا يظن بابن عباس أنه تكلم فيها بالظن والاجتهاد.

                                                                                                                              وقال معمر بن راشد: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس. ثم إنه أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي انتهى حاصله.

                                                                                                                              قال النووي: والحاصل: أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه "ليلة الإسراء" لحديث ابن عباس وغيره؛ وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما لا ينبغي أن يشك فيه انتهى.

                                                                                                                              ثم أجاب عن استدلال عائشة بالجواب "الذي تقدم ذكره".

                                                                                                                              والذي يظهر لي في هذا الموضع: أن الصواب في هذه المسألة السكوت، وعدم الخوض فيها. لأن الكتاب العزيز جاء محتملا، ولا استدلال مع الاحتمال.

                                                                                                                              فمن أثبت الرؤية فإنما أثبتها بالكتاب، والكتاب حالته هذه، ولم يأت ابن عباس رضي الله عنهما بمرفوع في هذا الباب؛ وإنما استدل بالآيات، فكان ذلك من اجتهاده؛ ولا حجة في اجتهاد أحد إذا لم يعضده الدليل الواضح.

                                                                                                                              [ ص: 336 ] وأما عائشة، فإنها أيضا استدلت باجتهاد منها بالآيات؛ واستدلالها أوضح من استدلال غيرها.

                                                                                                                              ومع "ذلك [ورد صريحا] في رواية"، أنها قالت في جواب مسروق "أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنما هو جبريل" الحديث.

                                                                                                                              وهذا يدلك على أن معنى الآية قد تعين بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              ولفظ "إنما" للحصر، ولا ريب في أن سياق الآيات الواردة في هذه القصة واحد، وضمائرها تعود إلى شيء واحد. فما الموجب لصرف ظاهرها إلى ما لا دليل عليه من المرفوع؟ بل إلى ما هو خلاف المرفوع؛ والدليل.

                                                                                                                              فالصواب التوقف؛ حتى تأتي الحجة البينة في ذلك.

                                                                                                                              ولا أقول: إن الرؤية غير جائزة. بل الكلام في ثبوتها بالنص الصحيح المرفوع، ولا حجة في حديث موقوف، وكلام صحابي خالفه غيره منهم، وليست هذه المسألة مما يدرك بالعقل، والاجتهاد، والخوض، والظن، وإنما تتلقى من السماع، ولا سماع يرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، والله أعلم بحقيقة ما كان هنالك.

                                                                                                                              "قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:

                                                                                                                              [ ص: 337 ] يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته .

                                                                                                                              وهذا معناه ظاهر.

                                                                                                                              وفي حديث "حجة الوداع" قال: (هل بلغت؟ اللهم فاشهد).

                                                                                                                              وإذا كان الله تعالى قد أخذ الميثاق على أهل العلم بالكتاب بعدم كتمان ما فيه، وأوعدهم على ذلك.

                                                                                                                              فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد قال في حديثه "بلغوا عني ولو آية".

                                                                                                                              فتحصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئا مما أوحي إليه، بل بلغه بتمامه إلى الأمة، وأمر الأمة بتبليغه إلى سائر الأمة الحاضرة والآتية إلى قيام الساعة.

                                                                                                                              وأول من قام بامتثال أمره صلى الله عليه وسلم ذلك هم أهل الحديث، وأصحاب السنة المطهرة.

                                                                                                                              ولذلك دعا لهم بالنضرة، وعد لهم بقوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، وأخبر عن ظهورهم على أهل الباطل بالحق حتى يأتي أمر الله.

                                                                                                                              وهذه فضيلة، ومزية، وخصيصة، وبشارة، لا يشاركهم فيها غيرهم من آحاد الأمة، بل ولا خواصها والله يختص برحمته من يشاء [ ص: 338 ] (قالت: ومن زعم أنه يخبر ما يكون في غد فقد أعظم "على الله" الفرية. والله يقول:

                                                                                                                              قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله .

                                                                                                                              "وفيه"، أن الله سبحانه وتعالى هو المستأثر بعلم المغيبات، وأن غيره وإن كان نبيا، أو ملكا، أو وليا، أو صالحا، أو سلطانا، أو عارفا، أو غير هؤلاء لا يعلم أحدهم شيئا منها، لا في السماوات ولا في الأرض.

                                                                                                                              وقد حكى الله سبحانه عن رسوله "خاتم الأنبياء" في كتابه "خاتم الكتب السماوية" الذين لا حجة في غيرهما ما نصه:

                                                                                                                              ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون .

                                                                                                                              وليس بعد بيان الله وبيان رسوله بيان، ولا قرية بعد "عبادان".

                                                                                                                              وهدى الله جماعة من أهل البدع القائلة بمعرفة "علم الغيب"، له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأولياء والمشايخ الصلحاء؛ فهذا ليس عليه دليل. بل الدليل يخالفه ويرده، ويا لله العجب! إلى أين يذهب بعقول هؤلاء عدوهم "إبليس" ؟! وفي أي هوة يكبهم على وجوههم؟! أعاذنا الله وأهل جلدتنا عن ذلك.

                                                                                                                              [ ص: 339 ] "وزاد داود: قالت" يعني عائشة الصديقة رضي الله عنها "ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا مما أنزل عليه لكتم هذه الآية:

                                                                                                                              وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه .

                                                                                                                              وسبب ورود هذه الآية وما وقع في قصة "زيد بن حارثة" مذكور في تفسيرنا (فتح البيان) فراجع.




                                                                                                                              الخدمات العلمية