الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .

[14] روي أن سليمان -عليه السلام- كان يتحنث في بيت المقدس الشهر والشهرين، والسنة والسنتين، وأقل وأكثر، وينقطع عن الناس، ويدخل إليه طعامه وشرابه، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء، ويعلمون ما في غد، فدخل بيت المقدس يوما، وقال: اللهم عم موتي على الجن حتى تعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب، ثم قام يصلي متكئا على عصاه، فمات قائما، وكان لمحرابه كوى بين يديه وخلفه ، فكان الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته، وينظرون إليه يحسبون أنه حي، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس; لطول صلاته قبل ذلك، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا [ ص: 412 ] كاملا فلما قضينا عليه الموت أي: لما مات.

ما دلهم على موته إلا دابة الأرض هي الأرضة.

تأكل منسأته عصاه; لأنها ينسأ بها; أي: يؤخر. قرأ نافع ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو : (منساته) بألف ساكنة بعد السين من غير همز، وهذه الألف بدل من الهمزة لغة مسموعة صحيحة، قال أبو عمرو بن العلاء: هو لغة قريش، وأصلها الهمز; من نسأت الغنم: سقتها بها، وقرأ ابن ذكوان : بإسكان الهمزة، لغة غريبة صحيحة ورد به القرآن، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة على الأصل، وحمزة إذا وقف جعلها بين بين على أصله .

فلما خر سقط على وجهه تبينت الجن قرأ يعقوب (تبينت) بضم التاء والباء وكسر الياء; أي: أعلمت الإنس الجن، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون: بفتح التاء والباء والياء ; أي: علمت الجن وأيقنت أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي: في التعب والشقاء المذل مسخرين لسليمان وهو ميت يظنون حياته، أراد الله بذلك أن يعلم [ ص: 413 ] الجن أنهم لا يعلمون الغيب; لأنهم كانوا يظنون ذلك; لغلبة الجهل، وقيل: معنى تبينت الجن: أي: ظهرت وانكشفت للإنس، وتبين أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب; لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك، فلما خر ميتا، وعلموا بموته، شكرت الجن الأرضة، فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب.

وتوفي سليمان وله اثنتان وخمسون سنة، فكان مدة ملكه أربعين سنة، فتكون وفاته في أواخر سنة خمس وسبعين وخمس مئة لوفاة موسى -عليه السلام-، وذلك بعد فراغ بناء بيت المقدس بتسع وعشرين سنة، وبين وفاته والهجرة الشريفة النبوية المحمدية ألف وسبع مئة وثلاث وسبعون سنة، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية