الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما مسني السوء ؛ أي : لو علمت الغيب ، ما مسني السوء ، ولحذرت عنه .

وقال ابن جرير : لا يصيبني الفقر . [ ص: 420 ]

وقال ابن زيد : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون .

وقال الكرخي : أي : ما مسني سوء يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته ، والمدافعة بموانعه ، لا سوء ما ، فإن منه ما لا مدفع له إن أنا إلا نذير وبشير ؛ أي : ما أنا إلا مبلغ عن الله أحكامه .

لقوم يؤمنون ؛ أي : الذين كتب في الأزل أنهم يؤمنون ؛ فإنهم المنتفعون به . فلا ينافي بشيرا ونذيرا للناس كافة .

قال في «فتح البيان » : والذي أخبر به صلى الله عليه وسلم عن المغيبات وقد جاءت بها أحاديث في الصحيح ، فهو من قبيل المعجزات . ومن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك على سبيل التواضع والأدب ، فقد أبعد النجعة . بل الحق أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله معتقدا بذلك، وأن الله هو المستأثر بعلم الغيب .

والمعجزات مخصصة من هذا العموم كما قال تعالى : إلا من ارتضى من رسول [الجن : 27] . انتهى .

فالآية على هذا ، نص في عدم علمه صلى الله عليه وسلم بالأمور المغيبة .

ومن هو أعلى درجة ، وأكمل علما ، وأعرف بالله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يعلم الغيب ، ويدعي در كه ؟

قال بعض أهل العلم : إن الأنبياء ، والأولياء أفضلهم خاتم الرسل . والناس قد رأوا معجزاته العظمى ، ومنه تعلموا أسرار الأمور ، وباقتدائه صلى الله عليه وسلم حصلت الكرامة لكل أحد . فلما كان صلى الله عليه وسلم كذلك، خاطبه الله تعالى في هذه الآية ، وأمره أن يقول للناس ما تقدم ؛ ليعلموا حاله في عدم إدراك الغيب ، فامتثل الأمر ، وبلغ الناس عدم قدرته على درك المغيبات ، وبين أنه غير قادر على نفع نفسه ، ولا يملك شيئا منه ومن ضره ، فكيف يملكهما للآخرين ؟

ولو كان العلم بالغيب في قدرته وتحت طاقته ، وكان يعلم عاقبة الأمر ، لنفع نفسه وصانها عن الضر ومس السوء ، ولم يأت إلا بما ينفعه ، لا بما يضره .

وبالجملة : لا قدرة لي ، ولا علم لي بالغيب ، ولا أدعي الإلهية . إنما أنا نبي [ ص: 421 ]

مرسل ، وشأن النبي أن ينذر ويبشر ، ولا ينفع إنذاره وتبشيره إلا لمن يؤمن ويتيقن .

وليس إلقاء الإيقان في القلوب من شأني ، بل هو في قدرة الله وإرادته ، واختياره ، ومشيئة .

فهذه الآية دليل على أن الأنبياء ، والأولياء الذين أكرمهم الله وشرفهم وعظمهم في خلقه ، إنما كرامتهم أنهم يهدون الناس إلى سبيل الله ، وينذرونهم عن عاقبة السيئات ، ويبشرونهم بحسنها على الإتيان بالحسنات ؛ لأنهم عارفون بالمحاسن والقبائح ، مطلعون على الفضائل والرذائل ، فيعلمون الناس ما هم عالمون به من الخيور والشرور . وإن الله تعالى بارك في كلماتهم . فيسلك الناس - ببركاتهم - الصراط المستقيم ، ويهتدون إلى السبيل السوي .

وأما أنهم لا يقدرون على التصرف في العالم ، فلا يستطيعون على إماتة أحد ، ولا على إعطاء ولد ، ولا حل مشكل ، وكشف معضل ، وقضاء حاجة ، وعلى الفتح والهزيمة ، والغنى والفقر ، وجعل أحد ملكا أو وزيرا ، أو أميرا ، أو رئيسا ، أو على شفاء مريض ، أو إفاضة عافية لأحد ، أو سلب هذه الأمور من أحد ، أو إلقاء إيمان في قلب ، أو انتزاعه منه ، فهذا ليس بنقص فيهم ؛ لأن الناس جميعهم في هذه الأمور - سواء كانوا أكابر أو أصاغر - سواسية ، وكلهم عاجزون غير قادرين على شيء من ذلك.

وكذلك لا نقص فيهم على أن الله لم يمكنهم من علم الغيب حتى يعلموا حال القلب متى شاءوا ، وهل هو حي أم ميت ؟ أو في البلد الفلاني ، أو في الحال الفلاني ؟ وهل يولد له أم لا ؟ وهل يربح في التجارة أم لا ؟ وهل يغلب في المعركة ، أم يهزم ؟ فإن هذه الأمور يستوي فيها العباد العظماء والصغراء ، وكلهم عن ذلك غافلون ، وجاهلون .

فكما أن الناس جميعا قد يقولون شيئا بالعقل والقرينة ، فيوافق الواقع تارة ، ويخطئون فيه أخرى ، فهكذا ما يقوله هؤلاء الكبراء الفضلاء بعقلهم ، وبالقرائن قد يقع ، وقد لا يقع ، وقد يصح ، وقد يغلط ، فالحال واحد ، والشأن واحد . [ ص: 422 ]

اللهم إلا ما كان من طريق الوحي ، أو الإلهام الإلهي ، فهو أمر آخر . ولكن ليس ذلك أيضا في قدرتهم وإمكانهم حتى يشاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية