الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بدعة التقليد

ونظيره اليوم بدعة التقليد; فإنه منذ أحدثه الأقوام ، نزع الله منهم سنة الاتباع الذي أمروا به ، ثم لم يعده إليهم إلى الآن ، ولا عبرة بشرذمة قليلة من القبائل الشاذة الفاذة ، فإن الحكم للأكثر ، وللأكثر حكم الكل .

ولا شك أن المقلدين أكثر ، والمحدثين أقل وقليل من عبادي الشكور [سبأ : 13] ، ولا تعجبك كثرة الخبيث .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه ، قال : «من كان مستنا» ; أي يريد السلوك على الصراط السوي ، وسواء السبيل ، والطريق القويم ، والهدى المستقيم ، فليستن بمن قد مات» ; أي : يقتدي بالمئتين عن الدنيا على الإسلام والعلم والعمل; فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .

قال في «الأشعة» : هذا القول قاله ابن مسعود في زمانه للتابعين ، ونصحهم .

وأراد بمن مات : الصحابة ، وبالحي : أهل زمنه غير الصحابة «أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا أفضل هذه الأمة» ممن سواهم ، وأبرها قلوبا ، وأعمقها علما; أي : أكثرها غورا من جهة العلم النافع ، وأدقها فهما في اتباع الكتاب والسنة ، «وأقلها تكلفة» ; أي : تصنعا ورياء وسمعة ، ومراعاة للرسوم والعادات المتعارفة بين الناس ، قال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم : وما أنا من المتكلفين [ص : 86] .

«اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه» ، وهذا يدل على أفضليتهم [ ص: 59 ] وأكمليتهم; لأن الله لما اصطفاهم من بين الخلق أجمعين ، وجعلهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، علم أنهم أفضل الخلائق ، وأخيار الأمة ، وجواهر نفوسهم أليق وأحرى بانعكاس أنوار الهداية والإيمان .

كما قال تعالى في القرآن : وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها [الفتح : 29] .

وقد وردت أحاديث في اصطفاء الصحابة واختيارهم على من سواهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم .

فالويل كل الويل لمن يسبهم ويشتمهم ، ولا يعرف فضلهم; كالرافضة ومن ضاهاهم في هذه الصفة الملعونة .

«فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم على أثرهم» ; أي : في العلم النافع ، والعمل الصالح ، وإخلاص التوحيد ، ومحوضة الاتباع السديد .

«وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم; فإنهم كانوا على الهدى المستقيم» ; لأنهم كانوا أتباع الرسول الكريم ، في كل نقير وقطمير ، وحقير وجليل ، ووضيع وعظيم . رواه رزين .

وفي هذا الحديث دليل على إيثار آثار الصحابة والتمسك بأخلاقهم المرضية ، وسيرهم السنية ، المبنية على صرافة السنة الصحيحة المأثورة .

ولا شك أنهم أحق بذلك بعد الاعتصام بأدلة الكتاب والسنة ، ثم الأمثل فالأمثل .

والتمسك غير التقليد لغة واصطلاحا ، وكذلك الاقتداء ، ولهذا قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : فبهداهم اقتده [الأنعام : 90] .

ولم أقف على قول لعالم يعتمد عليه : أنه فسر هذه الألفاظ بالتقليد ، بل فيه إشارة إلى ترك تقليد الرجال; لأن ابن مسعود حصر التمسك فيهم ، ولم يرشد إلى التمسك بمن بعدهم من أئمة الأمة .

[ ص: 60 ] فخرج بذلك تقليدات الأئمة الأربعة الفقهاء ، الكائنين بعد عصر الصحابة .

ولهذا نهى الأربع المذكورون عن تقليدهم ، وتقليد غيرهم ، لاسيما أعظمهم وأفقههم .

كيف ، وهو يقتدي روايات ابن مسعود ، في كثير من فتاواه ، ولا ينبغي له أن يخالفه في هذه الفتوى .

ولهذا روي عنه - رحمه الله تعالى - : أنه قال : ما جاء عن الصحابة ، فعلى الرأس والعين ، وما جاء عن التابعين ، زاحمناهم ، فإنهم رجال ، ونحن رجال .

وهذا القول من ذاك الإمام الأعظم أدل دليل على ترك التقليد ، وإرشاد منه لغيره إليه ، وهو اللائق بعظمة إمامته ، بل هذا من علامات إمامة الأئمة .

وعلى هذا درج سلف هذه الأمة وأئمتها قاطبة ، ولم يخالفهم أحد ، إلا من لا يعتد به ، ولا يلتفت إليه ، من أفراخ الرأي ، وأبناء البدع ، وأصحاب الجدل وأرباب الجهل ، ومقلدة دينهم الأحبار والرهبان - عافانا الله منه .

وعن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني فرطكم على الحوض» .

«الفرط» - بفتحتين - : الفارط المتقدم إلى المنزل لإصلاح الحياض والدلاء والأرشية; أي : أنا سابقكم المتهيئ لكم ، «من مر علي شرب» من شرب الحوض ، «ومن شرب ، لم يظمأ أبدا ، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني» ، قيل : لعلهم الذين قال فيهم : أصحابي ، ثم يحال بيني وبينهم ، فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن غير بعدي» ; أي : بعدا أو هلاكا . متفق عليه .

وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال» ; أي : التي يذهبون بالعصاة إليها ، «فأقول : أصيحابي أصيحابي» على صيغة جمع القلة والتصغير; لقلة عددهم; «فيقول» ; [ ص: 61 ] أي : الله سبحانه : «إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح - أي : عيسى عليه السلام - معتذرا واستخلاصا لقومه :

وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله : العزيز الحكيم
متفق عليه .

وتمام الآية : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [المائدة : 117- 118] .

قال في «أشعة اللمعات» : قالوا : ليس المراد بهذا خواص الأصحاب; لأنا نعلم يقينا أنه لم يرتد أحد منهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا قوم من جفاة العرب من أصحاب «مسيلمة الكذاب» ، و «أسود العنسي» ، أو بعض مؤلفة القلوب الذين لم تكن لهم بصيرة بالدين ، ولا قوة في الإيمان .

أو المراد بالردة : خروج عن حد الاستقامة في بعض الحقوق ، وإصلاح السريرة في بعض الأمور ، والرجوع عن مرتبة حسن الأخلاق ، وصدق النية ، والتقصير في بعض الحقوق ، ورعاية أهل البيت في التأدب معهم ، للابتلاء بالدنيا والفتن; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «لا أخاف عليكم الكفر وعبادة الأوثان ، إنما أخاف عليكم الدنيا وآفاتها» ، كذا قالوا ، لا رجوعهم عن دين الإسلام . انتهى .

وبالجملة : فقد دل الحديث على نفي علم الغيب عنه صلى الله عليه وسلم; لقوله : «لا تدري» ، ودل على وقوع الأحداث بعده صلى الله عليه وسلم لا في الأمة ، وأي أمة هي أفضل الأمة ، لأن الحديث الثاني زاده إيضاحا بقوله : «أصيحابي» .

وحيث إن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في لحظة ، وأسلم ، يطلق عليه لفظ : «الصاحب» ، صح أن بعض من كان صاحب بهذه الصفة أحدث شيئا بعد النبي صلى الله عليه وسلم; لعدم رسوخه في الإسلام ، وهذا خاص بمثل هذه الأصيحاب .

ومن عمم الحديث فيهم ، فقد غلط غلطا بينا; لأن نفس الحديث يرد عليه مراده هذا; كالرافضة - قاتلهم الله -; فإنهم تعلقوا بهذا الحديث في إثبات ردة أكابر الصحابة ، لاسيما الراشدين منهم ، ولا حجة لهم في ذلك .

[ ص: 62 ] والحديث دل أيضا على الدعاء على أهل الإحداث وهو ضد الاتباع . وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .

ودل الاستشهاد في الحديث الثاني بقول العبد الصالح المذكور : على أن عيسى - عليه السلام - كان عبدا ، ولم يكن يعلم الغيب .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» ; أي : امتنع من قبول ما جئت به; كأهل البدع ، من التقليد وغيره; فإنهم أبوا أن يتبعوا الكتاب والسنة ، وتمسكوا في مقابلته بالتفريعات المحدثة ، والتخريجات المبتدعة ، واتخذوها دينا . قيل : ومن أبى؟ قال : «من أطاعني» باتباع سنتي والاعتصام بكتاب الله ، «دخل الجنة ، ومن عصاني» ولم يعمل بما جئت به من القرآن والحديث ، «فقد أبى» رواه البخاري .

قال في الترجمة : أي : عصاني بإيثار البدعة واتباع هوى النفس ، فقد عتا ، ولا يدخل الجنة . انتهى .

وهذا ظاهر في عدم دخول المبتدعة في الجنة . وفي ذلك من الوعيد ما لا يقادر قدره .

وبهذا تقرر أن الابتداع عصيان للرسول ، كما أن الاتباع إطاعة له - عليه السلام - ، وقد قال تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول [النساء : 59] .

وفي حديث أنس مرفوعا في قصة ثلاثة رهط : «أما والله! إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي ، فليس مني» متفق عليه .

أي : من أعرض عن سنتي استهانة ، وزهدا ، فليس من أشياعي ، وكل من لا يتبع السنة فإنه مستهين بها زاهد فيها .

وعن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها [ ص: 63 ] الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ، لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» متفق عليه .

في «أجادب» روايات ، أصحها : أنها جمع «جدب» ، وهو الأرض الصلبة الماسكة للماء ، التي لا تنبت الكلأ .

و «الكلأ» - بالهمز [والكاف] واللام المفتوحتين مقصورا - هو على زنة جبل يقع على الرطب واليابس . و «العشب» - بالضم - ، و «الكلأ» - مقصورا - : مختصان بالرطب . و «القيعان» : جمع «قاع» ، وهي الأرض المستوية .

ذكر في هذا الحديث أن الناس قسمان : منتفع بدينه ، وغير منتفع به . وكذلك الأرض على قسمين : منتفعة بالماء ، وغير منتفعة به . والمنتفعة نوعان : منبت ، وغير منبت . وكذلك المنتفع بالدين على صنفين :

أحدهما : عالم عابد ، متفقه ، متفهم ، معلم كالطائفة الطيبة من الأرض التي قبلت الماء ، وأنبتت الكلأ ، ونفعت غيرها .

والثاني : عالم معلم غير متعبد بالنوافل ، لم يتفقه فيما جمع من العلم ، كالأرض الجدبة التي أمسكت الماء ، وانتفع به الناس .

وأما من لم يرفع رأسه ، ولم يلتفت إلى العلم قطعا ، أو التفت ولم يعمل به مطلقا ، ولم يعلم أحدا ، سواء دخل في الدين ، أو لم يدخل ، وبقي كافرا ، فهو كالقاع لم يمسك ماء ، ولم ينبت كلأ . هذا خلاصة ما ذكره شراح «صحيح البخاري» .

قال في الترجمة : ويمكن أن يقال : إن القسم الأول : عبارة عمن تعلم واجتهد ، واستنبط المعاني والنكات والأسرار ، وشرح وبين; كالفقهاء [ ص: 64 ] المجتهدين ، والعلماء المتقنين المحققين; فإنه كالكلأ النابت من الأرض وثمراتها ونتائجها .

والثاني : عبارة عمن تعلم ، وجمع العلم ، ووعاه ، وحفظه ، وأدى الأمانات بعينها وجنسها إلى أهلها; كالمحدثين ، وحفاظ الحديث ، ووعاته . والله أعلم ، انتهى .

وأقول : هذا ما فهمه صاحب الترجمة .

والذي فهمه جمع جم من أهل العلم بالقرآن والحديث : أن مصداق الطائفة الطيبة من الأرض ، هم أهل الحديث; فإنهم قبلوا الهدى والعلم اللذين بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهما ، وأنبتوا الكلأ والعشب الكثير ، الذي هو عبارة عن تدوين علوم السنة المطهرة وأصولها ، وتوفيق الأخبار الصحيحة وتطبيقها ، وضبط فقهها بعد تجريده; عن شوائب الآراء والأفكار ، وتلاحق البدع والمحدثات به; كما في حديث آخر مرفوع عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري : «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين» ورواه البيهقي في كتاب «المدخل» مرسلا .

فمن وجد هذه الأوصاف فيه ، فهو هذا القسم الأول ، ونفعه له ولغيره كثير .

ولا يوجد ذلك إلا في المحدثين المتبعين الموحدين الذين هم نخبة النخبة من هذه الأمة ، وصفوة الصفوة من عصابة أهل الجماعة والسنة .

ومصداق «الأجادب» سائر الفرق من أهل المذاهب المقلدين للأئمة المجتهدين ، أو الفرقة المجتهدة نفسها; فإنهم أمسكوا الماء في الجملة ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا .

وإنما قلنا : «في الجملة» ; لأن أهل الأصول الحنفية مثلا ، قالوا : إنه يكفي للاجتهاد حفظ خمس مائة آية ، وكتاب من كتب السنن; كأبي داود ، والترمذي ، ونحوها ، والتفريع الفقهي والتخريج القياسي أحق بإطلاق لفظ السقي والزرع من غيره .

[ ص: 65 ] ومصداق القيعان : طوائف أهل البدعة والمحدثات من سائر الفرق الإسلامية الماضية ، والحاضرة ، والآتية إلى قيام الساعة; فإنهم لم يرفعوا رؤوسهم بالهدى والعلم ، ولم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم ، بل قدموا بدعهم على السنن ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، ولا شيء أشق عليهم من تلاوة آية من كتاب ، أو ذكر حديث من صحيح ، عند المناظرة في المسائل والأحكام ، وإذا جررت لهم رواية من كتب الرأي ، وصحف الفقه وذكرت قولا لإمام ، برقت أساريرهم ، وهذا كما قال تعالى : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [الزمر : 45] ، وما أجمع هذا الحديث للفوائد الكثيرة! وبالتأمل فيه تظهر الفوائد الغزيرة لمن رزقه الله فهما صحيحا ، وقلبا سليما ، وألقى السمع وهو شهيد .

وعن أبي رافع ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ألفين أ حدكم» ; أي : لا أجدن «متكئا على أريكته» ; أي : سريره المزين بالحلل والأثواب ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به ، أو نهيت عنه ، وهي الأوامر والنواهي المدونة في الصحاح الستة وغيرها من دواوين الحديث ومسانيد الأخبار ، فيقول : «لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله ، اتبعناه» رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والبيهقي في «دلائل النبوة» .

قال في «المرقاة» : المعنى : لا يجوز الإعراض عن حديثه صلى الله عليه وسلم; لأن المعرض عنه معرض عن القرآن . انتهى .

وقال : في «الأشعة» : أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال بعض أهل الجهل والفراغ والتكبر : أنه يتقاعد ويتكاسل عن العمل بالحديث في الأمر الذي لا يوجد حكمه في القرآن ، ويظن أن الأحكام تنحصر في القرآن فقط ، وهو جاهل من أن أكثر الأحكام في الأحاديث ، وليس في الكتاب .

[ ص: 66 ] وكما أن القرآن حجة ، فكذلك الحديث أيضا حجة ، وكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطي القرآن ، فكذلك أعطي أيضا الأحاديث ، فكلاهما وحي كما في حديث المقدام بن معد يكرب يرفعه : «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما حرم الله» الحديث ، رواه أبو داود ، وروى الدارمي نحوه ، وكذا ابن ماجه .

قال : والمماثلة هي في كونهما وحيا ، فكما أن القرآن وحي منزل من جناب القدس الإلهي ، فكذلك الأحاديث وحي من جانب الحق تعالى .

والشبعان : كناية عن بلادة العقل وسوء الفهم; لأن الشبع وشره الطعام سبب لذلك .

أو كناية عن الكبر والحماقة التي يوجبها التنعم والترفه ، انتهى .

قلت : قصر التمسك على الكتاب العزيز شعبة من الخروج ، ونوع من النفاق ، والخارجية هم القائلون في مقابلة علي - عليه السلام - : إن الحكم إلا لله ; أي : لا نقبل شيئا إلا ما في القرآن ، والمراد بهذا : إنكار الحديث ، والفرار عن اتباعه .

فمن لم يقبل السنة ، وقصر على القرآن ، ففيه شائبة ، بل شيمة الخارجية بلا تفاوت .

ولا يصح إيمان أحد حتى يتبع السنن كما يتبع القرآن ، كيف وقد جاءنا بهذه من جاء بالقرآن ، ولم نعلم بالقرآن إلا ببيان الرسول؟

فإذا لم يقبل أحد بيانه صلى الله عليه وسلم ، فإنه غير قابل للقرآن أيضا .

وقد روى العرباض بن سارية - رضي الله عنه - : أنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أيحسب أحدكم متكئا على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله! قد أمرت ووعظت ، ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن ، أو أكثر» ; أي : بل أكثر منه . الحديث رواه أبو داود .

[ ص: 67 ] وفي إسناده أشعث بن شعبة المصيصي قد تكلم فيه ، ولكن يشهد له الحديث المتقدم وما ورد في معناه .

وهذا نص في أن الحديث مثل القرآن ، وحكم كلام الرسول هو حكم كلام الله ، وأن الاعتصام والعمل بهما جميعا واجب على الأمة ، لا يجوز لأحد أن يترك حديثا قناعة بالقرآن وكذلك القرآن قناعة بالحديث ، بل الذي يجب أن يأخذ بهما جميعا ، ولا يأخذ بغيرهما; فإن أصل الأصول الإسلامية هو هذان الأصلان ، لا ثالث لهما ، ولا رابع ، وإنما يستأنس بالإجماع وبالقياس للمتابعة والشهادة; لأنهما أصلان مستقلان [لا] يبنى عليهما شيء من أحكام الإسلام; فإنه لا قائل بذلك أحد ممن يعتد به من العلماء الأعلام ، والله أعلم .

وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أكل طيبا ، وعمل في سنة ، وأمن الناس بوائقه ، دخل الجنة» .

«البائقة» : الداهية ، وهي المحنة العظيمة . والمراد هنا : الشرور .

والمعنى : من أكل الحلال ، واجتنب الحرام ، وعمل على وفق الحديث والقرآن ، والناس من شره في أمان ، فهو مستحق لدخول الجنان .

قال في الترجمة : أي : عمل به لكونه سنة ، وإن كان قليلا؟ .

فقال رجل : يا رسول الله! إن هذا اليوم لكثير في الناس ، قال : «سيكون في قرون بعدي» ، المراد بالقرن : أهل العصر ، وكل عصر بعد من زمان النبي صلى الله عليه وسلم كان الصلحاء فيه أقل ممن قبلهم ، ولهذا قال : «خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» ، والمراد بقوله : سيكون زمان العمل بالحديث من غرباء الإسلام ، وفيه إخبار بأن الخير لا ينقطع من أمته صلى الله عليه وسلم مطلقا ، وإن تفاوت بالقلة والكثرة ، وأنه يكون في آخر الزمان جماعات تقوم على طريقة التقوى والسنة المطهرة كما في الترجمة وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به ، هلك» ، وعوقب عليه : «ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به ، نجا» رواه الترمذي .

[ ص: 68 ] أي : نجا من العذاب ، وأثيب عليه .

وقال في الترجمة : وهذا في السنن ، ونوافل الخيرات ، وإلا ، لا وجه للترك في الفرائض والواجبات .

وقال في «المرقاة» : ما أمر به; أي : من المعروف والنهي عن المنكر; إذ لا يجوز صرف هذا القول إلى عموم المأمورات لأنه عرف أن مسلما لا يعذر فيما يهمل من الفرض الذي تعلق بخاصة نفسه .

والمراد «بهلك» : أن الدين اليوم عزيز ، والحق ظاهر ، وفي أنصاره كثرة ، فالترك يكون تقصيرا منكم ، فلا يعذر أحد منكم في التهاون .

ثم يأتي زمان يضعف فيه الإسلام ، من عمل منهم بعشر ما أمر به ، نجا; لانتفاء تلك المعاني المذكورة . انتهى .

والحاصل : أن قليل العمل في زمان كثير الفتن ، يوجب النجاة .

ثم بين صلى الله عليه وسلم في حديث آخر ، رواه ابن عباس مرفوعا : «الأمر ثلاثة : 1- أمر بين رشده فاتبعه ، 2- وأمر بين غيه ، فاجتنبه ، 3- وأمر اختلف فيه ، فكله إلى الله - عز وجل -» رواه أحمد .

والمراد بالأمر البين رشده وغيه : ما علمت كونه حقا بالنص من الكتاب والسنة .

وما لم يثبت حكمه به ، فلا تقل فيه شيئا ، وفوض أمره إلى الله .

والمراد بالأمر المختلف : ما اشتبه وخفي حكمه ، أو ما اختلف الناس فيه من تلقاء أنفسهم .

قال السيد : والأولى : أن يفسر هذا الحديث بما ورد في حديث أبي ثعلبة الخشني يرفعه : «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم حرمات فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيان - أي : بل من رحمة وإحسان - فلا تبحثوا عنها» ; أي : لا تفتشوا عنها . رواه الدارقطني .

[ ص: 69 ] والحاصل : أن الأمر المشتبه ينبغي الاحتراز عنه استبراء للدين والعرض ، والمحكم منه واجب العمل .

ويزيده إيضاحا حديث النعمان بن بشير مرفوعا : «الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات ، فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات ، وقع في الحرام» الحديث . وهو متفق عليه ، وسيأتي لهذا الحديث شرح مستوفى استقلالا - إن شاء الله تعالى - .

التالي السابق


الخدمات العلمية