الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

        ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

        [ ص: 35 ] معرفة الأصلح وكيفية تمامها

        والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح ، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ، ومعرفة طريق المقصود ، فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر .

        فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا ، دون الدين ، قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد ، وكان من يطلب رئاسة نفسه ، يؤثر تقديم من يقيم رئاسته ، وقد كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم ، هم أمراء الحرب ، الذين هم نواب ذي السلطان على الجند ، ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة ، قدمه المسلمون في إمارة الحرب وغيرها .

        وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على حرب ، كان هو الذي يؤمره للصلاة بأصحابه ، وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة ، كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة ، وعثمان بن أبي العاص على الطائف وعليا ومعاذا ، وأبا موسى على اليمن وعمرو بن حزم على نجران كان نائبه هو الذي يصلي بهم ، ويقيم فيهم الحدود وغيرها ، مما يفعله أمير الحرب ، وكذلك خلفاؤه بعده ، ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين ، وذلك ; لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد .

        ولهذا كانت أكثر الأحاديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد ، وكان إذا عاد مريضا ، [ ص: 36 ] يقول : { اللهم اشف عبدك ، يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا } .

        { ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن ، قال : يا معاذ إن أهم أمرك عندي الصلاة } .

        وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله : إن أهم أموركم عندي الصلاة ، فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه ، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة [ ص: 37 ]

        وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الصلاة عماد الدين } .

        فإذا أقام المتولي عماد الدين ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات ، كما قال الله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } .

        وقال سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ، إن الله مع الصابرين } وقال لنبيه : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا ، نحن نرزقك ، والعاقبة للتقوى } .

        وقال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }

        فالمقصود الواجب بالولايات : إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا ، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم .

        وهو نوعان : قسم المال بين مستحقيه ، وعقوبات المتعدين ، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه .

        ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول : إنما بعثت عمالي إليكم ، ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ، ويقيموا بينكم دينكم

        فلما تغيرت الرعية من وجه ، والرعاة من وجه ، تناقضت الأمور ، فإذا اجتهد الراعي في [ ص: 38 ] إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان ، كان من أفضل أهل زمانه ، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله ، فقد روي { يوم من إمام عادل ، أفضل من عبادة ستين سنة }

        وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : { أحب الخلق إلى الله إمام عادل ، وأبغضهم إليه إمام جائر } وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى [ ص: 39 ] نفسها ، فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه } .

        وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أهل الجنة ثلاثة : سلطان مقسط ، ورجل رحيم القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل غني عفيف متصدق } وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { : الساعي على الصدقة بالحق ، كالمجاهد في سبيل الله }

        وقد قال الله تعالى ، لما أمر بالجهاد : { وقاتلوهم [ ص: 40 ] حتى لا تكون فتنة ، ويكون الدين كله لله } .

        { وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } أخرجاه في الصحيحين .

        فالمقصود أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه ، وهكذا قال الله تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } فالمقصود من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، أن يقوم الناس بالقسط ، في حقوق الله ، وحقوق خلقه .

        ثم قال تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله [ ص: 41 ] من ينصره ورسله بالغيب } .

        فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد ، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف .

        وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف } فإذا كان هذا هو المقصود ، فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب ، وينظر إلى الرجلين ، أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي ، فإذا كانت الولاية مثلا ، إمامة صلاة فقط ، قدم من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : { يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء ، فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل في سلطانه ، ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه } ، رواه مسلم

        فإذا تكافأ رجلان ، أو خفي أصلحهما أقرع بينهما ، كما أقرع سعد بن أبي وقاص بين الناس يوم القادسية ، لما تشاجروا على الأذان ، متابعة لقوله صلى الله عليه وسلم { لو يعلم الناس ما في النداء [ ص: 42 ] والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا } .

        فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر ، وبفعله - وهو ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر - كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية