الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويضع رأس الإبهام إلى جهة القبلة إن لم يشق عليه .

ثم يقول : السلام عليكم ورحمة الله ويلتفت يمينا بحيث يرى خده الأيمن من وراءه من الجانب اليمين ويلتفت شمالا كذلك .

ويسلم تسليمة ثانية وينوي الخروج من الصلاة بالسلام .

التالي السابق


(ويضع) ، وفي نسخة: ويخرج، (رأس الإبهام) ، أي: من الرجل اليسرى (إلى جهة القبلة إن لم يشق عليه) ذلك، ثم شرع في ذكر الركن السابع الذي هو السلام، فقال: (ثم يقول: السلام عليكم) ، وهذا هو الأقل، ولا بد من هذا النظم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك كان يسلم، وهو كاف؛ لأنه تسليم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "وتحليلها التسليم" ولو قال: "سلام عليكم"، فوجهان؛ أحدهما أنه لا يجزئه؛ لأنه نقص الألف واللام، والثاني يجزئه كما في التشهد، وقال النووي في "الروضة": الأصح عند الجمهور لا يجزئه وهو المنصوص اهـ .

وكذا لا يجزئ قوله: السلام عليك، ولا: سلامي عليك، ولا: سلام الله عليكم، ولا: السلام عليهم، وما لا يجزئ فتبطل صلاته إذا قال عمدا، ويجب على المصلي أن يوقع السلام في حالة القعود إذا قدر عليه، هذا في أقل السلام، فأما الأكمل فهو أن يقول: السلام عليكم (ورحمة الله) ، وهل يزيد على مرة واحدة؟ الجديد أنه يستحب أن يقوله المصلي مرتين، ويحكى عن القديم قولان؛ أحدهما أن المستحب تسليمة واحدة، ويفرق في حق الإمام بين أن يكون في القوم كثرة، أو كان حول المسجد لغط، فيستحب أن يسلم تسليمتين ليحصل الإبلاغ، وإن قلوا ولا لغط، فيقتصر على تسليمة واحدة فيجعلها تلقاء وجهه، (وإن) قلنا: بالصحيح، وهو أن يسلم تسليمتين، فالمستحب أن (يلتفت) في الأولى (يمينا) ، أي: عن يمينه (بحيث يرى) بفتح حرف المضارعة، وقوله: (خده الأيمن) ، مفعوله، والفاعل هو قوله: (من وراءه من الجانب الآخر) ؛وفي نسخة: من جانب اليمين، (ويلتفت شمالا كذلك، ويسلم تسليمة) ، وفي نسخة زيادة: ثانية، قال الرافعي : وينبغي أن يبتدئ بها مستقبل القبلة ثم يلتفت بحيث يكون انقضاؤها مع تمام [ ص: 84 ] الالتفات، ويلتفت -قال الشافعي رضي الله عنه في "المختصر"- بحيث يرى خداه، وحكى الشارحون أن الأصحاب اختلفوا في معناه، فمنهم من قال معناه: حتى يرى من كل جانب خداه، ومنهم من قال: حتى يرى من كل جانب خده، وهو الصحيح لما روي أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، ويسلم على يساره: السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيسر".

قلت: رواه النسائي من حديث ابن مسعود، وكذا رواه أحمد وابن حبان ، والدارقطني وغيرهم، وأصله في صحيح مسلم، وقد روي في الباب من طريق ثلاثة عشر صحابيا غير ابن مسعود وهم: سعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وسهل بن سعد، وحذيفة، وعدي بن عميرة، وطلق بن علي، والمغيرة بن شعبة، وواثلة بن الأسقع، ووائل بن حجر، ويعقوب بن الحصين، وأبو رمثة البلوي، وجابر بن سمرة رضي الله عنهم، ذكرهم الطحاوي، وتبعه الحافظ في "التخريج"، وبذلك أخذ الشافعي وأبو حنيفة وصاحباه، قال الحافظ: ووقع في صحيح ابن حبان في حديث ابن مسعود زيادة: "وبركاته"، وهي عند ابن ماجه أيضا، وهي عند أبي داود في حديث وائل بن حجر، فيتعجب من ابن الصلاح؛ حيث يقول: إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث إلا في رواية وائل بن حجر، اهـ .

فما في كتب بعض أصحابنا أنه بدعة وليس فيه شيء ثابت محل نظر، وقال مالك : يسلم تسليمة واحدة سواء فيه الإمام والمنفرد، ودليله حديث عائشة رضي الله عنها: "كان يسلم تسليمة واحدة"، رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان ، والحاكم والدارقطني، وقال ابن عبد البر : لا يصح مرفوعا، وقال الحاكم: رواه وهب عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة موقوفا، وهذا سند صحيح، وقال العقيلي : لا يصح في تسليمة واحدة شيء، وحمله القائلون بالتسليمتين على قيام الليل؛ إذ قد ورد فيه في بعض رواياته: "يرفع بها صوته حتى يوقظنا بها"، وقد جاء التصريح بأنه في صلاة في سياق ابن حبان في الصحيح، وابن العباس السراج في مسنده، والذين رووا عنه التسليمتين، ورأوا ما شهدوا في الفرض والنفل، وحديث عائشة ليس صريحا في الاقتصار على تسليمة واحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة يوقظهم بها، ولم تنف الأخرى، بل سكتت عنها، وليس سكوتها عنها مقدما على رواية من حفظها وضبطها، وهم أكثر عددا، وأحاديثهم أصح، (وينوي الخروج من الصلاة بالسلام) قال الرافعي : وهل يجب أن ينوي الخروج من الصلاة بسلامه؟ فيه وجهان: أحدهما، نعم، وبه قال ابن سريج وابن القاص، ويحكى عن ظاهر نصه في البويطي؛ لأنه ذكر واجب في آخر الصلاة، فتجب فيه النية كالتكبير، ولأن لفظ السلام يناقض الصلاة في وصفه من حيث هو خطاب الآدميين، ولهذا لو سلم قصدا في الصلاة بطلت صلاته، فإذا لم تكن نية صارفة إلى قصد التحلل صار مناقضا، والثاني لا يجب ذلك، وبه قال أبو جعفر بن الوكيل، وأبو الحسين بن القطان، ووجهه القياس على سائر العبادات لا تجب فيها نية الخروج، ولا النية تليق بالإقدام دون الترك، وهذا هو الأصح عند القفال، واختيار معظم المتأخرين، وحملوا نصه على الاستحباب، وإن قلنا: يجب نية الخروج فلا يحتاج إلى تعيين الصلاة عند الخروج بخلاف حالة الشروع، فإن الخروج لا يكون إلا عن المشروع فيه، ولو عين غير ما هو فيه عمدا بطلت صلاته على هذا الوجه، ولو سها سجد للسهو وسلم ثانيا مع النية، بخلاف ما إذا قلنا لا يجب نية الخروج، فإنه لا يضر الخطأ في التعيين، وعلى وجه الوجوب ينبغي أن ينوي الخروج مقترنا بالتسليمة الأولى، ولو سلم ولم ينو بطلت صلاته، ولو نوى الخروج قبل السلام بطلت صلاته أيضا، ولو نوى قبله الخروج عنده فقد قال في "النهاية": لا تبطل صلاته ولا نيته، بل يأتي بالنية مع السلام، اهـ كلام الرافعي .


(فصل)

قال ابن هبيرة في "الإفصاح": واتفقوا على أن الإتيان بالسلام مشروع، ثم اختلفوا في عدده، فقال أبو حنيفة وأحمد : هو تسليمتان، وقال مالك : واحدة ولا فرق بين أن يكون إماما أو منفردا، وللشافعي قولان: الذي في "المختصر" و"الأم" كمذهب أبي حنيفة وأحمد، والقديم: إن كان الناس قليلا وسكتوا أحببت [ ص: 85 ] أن يسلم تسليمة واحدة، وإن كان حول المسجد ضجة، فالمستحب أن يسلم تسليمتين، واختلفوا، هل السلام من الصلاة أم لا؟ فقال مالك والشافعي : التسليمة الأولى فرض على الإمام والمنفرد، وقال الشافعي : وعلى المأموم أيضا، وقال أبو حنيفة : ليست بفرض في الجملة، واختلف أصحابه في الخروج من الصلاة، هل هو فرض أم لا؟ فمنهم من قال: الخروج من الصلاة بكل ما ينافيها بتعمده فرض لغيره لا لعينه، ولا يكون من الصلاة، وممن قال بهذا أبو سعيد البردعي، ومنهم من قال: ليس بفرض في الجملة، منهم أبو الحسين الكرخي، وليس عن أبي حنيفة في هذا نص يعتمد عليه، وعن أحمد روايتان؛ المشهورة منهما أن التسليمتين جميعا واجبتان، والأخرى أن الثانية سنة والواجبة الأولى، واختلفوا في وجوب نية الخروج من الصلاة، فقال مالك والشافعي في الظاهر من نصه، والبويطي وأحمد بوجوبها .

وأما مذهب أبي حنيفة فقد تقدم، وفي الجملة فيجب عند أكثرهم أن يقصد المصلي فعلا ينافي الصلاة، فيصير به خارجا منها اهـ .



(فصل)

تقدم أن دليل الشافعي رضي الله عنه في ركنية السلام حديث علي : "وتحليلها التسليم"، قال البيهقي : وروينا مثل ذلك في حديث أبي سعيد الخدري اهـ .

وهو يحصل بالأولى أما الثانية فسنة، وقد تستنبط الفرضية من التعبير بلفظ "كان" في حديث أم سلمة عند البخاري : "كان إذا سلم...."الحديث، المشعر بتحقيق مواظبته عليه السلام، فلا يصح التحلل إلا به؛ لأنه ركن، وقال أبو حنيفة : يجب الخروج من الصلاة به ولا نفرضه لقوله عليه السلام: "إذا قعد الإمام في آخر صلاته، ثم أحدث قبل أن يسلم، فقد تمت صلاته". وفي رواية: "إذا جلس مقدار التشهد". رواه عاصم بن حمزة عن علي، وأورده البيهقي في "السنن"، وضعفه، قال عاصم بن ضمرة : ليس بالقوي، وعلي لا يخالف ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت: نتكلم مع البيهقي هنا بإنصاف، فنقول: أما حديث علي الذي فيه: "وتحليلها التسليم" في سنده ابن عقيل . قال البيهقي نفسه في باب: لا يتطهر بالمستعمل: أهل العلم مختلفون في الاحتجاج برواياته، وحديث أبي سعيد الخدري في سنده أبو سفيان طريف بن شهاب السعدي، قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنه ضعيف الحديث، كذا نقله في "الإمام"، وقال البيهقي نفسه في باب: الماء الكثير لا ينجس ما لم يتغير: ليس بالقوي، ثم على تقدير صحة الحديث لا يدل على أن الخروج من الصلاة لا يكون إلا بالتسليم إلا بضرب من دليل الخطاب، وهو مفهوم ضعيف عند الأكثر، قاله ابن عبد البر . وأما عاصم بن حمزة فقد وثقه ابن المديني، وأحمد، وروى له أصحاب السنن الأربعة، وقوله: وعلي لا يخالف ما رواه... لخصمه أن يعكس الأمر، ويجعل قوله دليلا على نسخ ما رواه؛ إذ لا يظن به أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم، إلا وقد ثبت عنده نسخ ما رواه، وهذا على تقدير تسليم صحة الحديث، وثبوت دلالته على ما ادعاه، وقد روي عن جماعة من السلف كقول علي، فروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن عطاء فيمن أحدث في صلاته قبل أن يتشهد قال: حسبه فلا يعيد، وعن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء : إذا رفع الإمام رأسه من السجود في آخر صلاته، فقد تمت صلاته، وإن أحدث، وعن قتادة عن ابن المسيب فيمن يحدث بين ظهراني صلاته، قال: إذا قضى الركوع والسجود فقد تمت صلاته .

وعن الثوري عن منصور قال: قلت لإبراهيم: الرجل يحدث حين يفرغ من السجود في الرابعة وقبل التشهد، قال: تمت صلاته، وقد روى أبو داود من حديث أبي سعيد رفعه: "إذا شك أحدكم في صلاته فليلغ الشك، وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة، والسجدتان مرغما للشيطان"، الحديث، فلو كان السلام ركنا واجبا لم يصح النفل مع بقائه، وروى الجماعة من حديث عبد الله بن بحينة "أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين ولم يجلس، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه، سجد سجدتين، ثم سلم"؛ فدل على أن الصلاة تنقضي قبل التسليم وبدونه، والله أعلم .



(تنبيه) :

قد ورد في آخر حديث ابن مسعود في التشهد: إذا فعلت هذا فقد قضيت صلاتك". فقد رويت هذه الزيادة موصولة بالحديث، وأنه من [ ص: 86 ] كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يجعلها موقوفة على ابن مسعود، وذكر البيهقي عن شيخه أبي علي النيسابوري أن زهيرا وهم في روايته عن الحسن بن الحر وأدرج في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس من كلامه، وهذا إنما هو من كلام ابن مسعود، كذلك رواه عبد الرحمن بن ثابت عن ثوبان عن الحسن بن الحر، ثم أخرجه البيهقي من طريق غسان بن الربيع، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت فذكره، وفي آخره قال أبو مسعود : إذا فرغت من هذا، فقد قضيت صلاتك.

قلت: في هذا السند نظر، غسان هذا ضعفه الدارقطني وغيره، كما نقله الذهبي وعبد الرحمن بن ثابت، ذكر البيهقي نفسه في باب تكبيرات العيد أن ابن معين ضعفه، وبمثل هذا لا تعلل رواية الجماعة الذين جعلوا هذا الكلام متصلا بالحديث، وعلى تقدير صحة السند الذي روي فيه موقوفا، فرواية من وقف لا تعلل بها رواية من رفع؛ لأن الرفع زيادة مقبولة على ما عرف من مذاهب أهل الفقه والأصول، فيحمل على أن ابن مسعود سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فرواه كذلك مرة، وأفتى به مرة أخرى، وهذا أولى من جعله من كلامه؛ إذ فيه تخطئة الجماعة الذين وصلوه، والله أعلم .




الخدمات العلمية