الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : إذا أنت خفت على عملك العجب فانظر رضا من تطلب ؟ وفي أي ثواب ترغب ؟ ومن أي عقاب ترهب ؟ وأي عافية تشكر ؟ وأي بلاء تذكر ؟ فإنك إذا تفكرت في واحد من هذه الخصال صغر في عينك عملك فانظر كيف ذكر حقيقة الرياء وعلاج العجب وهما من كبار آفات القلب وقال الشافعي رضي الله عنه من لم يصن نفسه لم ينفعه علمه ، وقال رحمه الله من أطاع الله تعالى بالعلم نفعه سره .

وقال ما من أحد إلا له محب ومبغض فإذا كان كذلك فكن مع أهل طاعة الله عز وجل وروي أن عبد القاهر بن عبد العزيز كان رجلا صالحا ورعا وكان يسأل الشافعي رضي الله عنه عن مسائل في الورع والشافعي رحمه الله يقبل عليه لورعه وقال للشافعي يوما أيما أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين ؟ فقال الشافعي رحمه الله : التمكين درجة الأنبياء ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة فإذا امتحن صبر وإذا صبر مكن ألا ترى إن الله عز وجل امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مكنه وامتحن موسى عليه السلام ثم مكنه ، وامتحن أيوب عليه السلام ثم مكنه ، وامتحن سليمان عليه السلام ثم مكنه وآتاه ملكا والتمكين أفضل الدرجات قال الله عز وجل : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض وأيوب عليه السلام بعد المحنة العظيمة مكن ، قال الله تعالى : وآتيناه أهله ومثلهم معهم الآية فهذا الكلام من الشافعي رحمه الله يدل على تبحره في أسرار القرآن واطلاعه على مقامات السائرين إلى الله تعالى من الأنبياء والأولياء ، وكل ذلك من علوم الآخرة .

وقيل للشافعي رحمه الله : متى يكون الرجل عالما قال إذا تحقق في علم الدين فعلمه وتعرض لسائر العلوم فنظر فيما فاته فعند ذلك يكون عالما فإنه قيل لجالينوس إنك تأمر للداء الواحد بالأدوية الكثيرة المجمعة فقال : إنما المقصود منها واحد وإنما يجعل معه غيره لتسكن حدته لأن الإفراد قاتل فهذا وأمثاله مما لا يحصى يدل على علو رتبته في معرفة الله تعالى وعلوم الآخرة .

وأما إرادته بالفقه والمناظرة فيه وجه الله تعالى فيدل عليه ما روي عنه قال وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم وما نسب إلى شيء منه فانظر كيف اطلع على آفة العلم وطلب الاسم له ؟ وكيف كان منزه القلب عن الالتفات إليه مجرد النية فيه لوجه الله تعالى .

؟ وقال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحدا قط فأحببت أن يخطئ .

وقال ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ وما كلمت أحدا قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه وقال ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت محبته ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته فهذه العلامات هي التي تدل على إرادة الله تعالى بالفقه والمناظرة فانظر كيف تابعه الناس من جملة هذه الخصال الخمس على خصلة واحدة فقط ثم كيف خالفوه فيها أيضا ولهذا قال أبو ثور رحمه الله ما رأيت ولا رأى الراءون مثل الشافعي رحمه الله تعالى .

التالي السابق


(وقال الشافعي: إذا أنت خفت على عملك العجب فاذكر رضا من تطلب؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ وأي عاقبة تشكر؟ وأي بلاء تذكر؟ فإنك إذا فكرت في واحدة من هذه الخصال) الخمسة (صغر في عينيك عملك) أورده ابن كثير في ترجمته إلى قوله: ترهب، وقال بعده: فحينئذ يصغر عندك عملك (فانظر كيف ذكر حقيقة الرياء وعلاج العجب وهما من كبار آفات القلب) فدل ذلك على تبحره في معرفة علوم الآخرة (وقال الشافعي) من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه رق طبعه ومن نظر في الحساب جزل رأيه (ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه، وقال) أيضا: (ومن أطاع الله بالعلم تنبه سره) وفي نسخة: [ ص: 198 ] نفعه سره، وفي أخرى تفقه سره (وقال) أيضا ( ما من أحد إلا له محب ومبغض فإذا كان) الأمر (كذلك فكن من أهل طاعة الله) مصلحا بينك وبين الله فالمحب لك يسعد ويرحم والمبغض يمقت ويرجم (ويروى أن عبد القادر بن عبد العزيز كان رجلا صالحا ورعا) أعرف من حاله شيئا (وكان يسأل الشافعي عن مسائل في الورع) والاحتياط (والشافعي يقبل عليه لورعه) وصلاحه (فقال) له يوما (أيما أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين؟) وهو ثلاث مقامات للعارفين (فقال الشافعي: التمكين درجة الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام، وهو غاية قصد الكاملين ويعبر عنه بالاستقامة أيضا (ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة) والابتلاء (فإذا امتحن) العبد (صبر) على المحنة (وإذا صبر تمكن) وفي نسخة: مكن .

ثم استدل عليه فقال (ألا ترى أن الله تعالى امتحن إبراهيم) عليه السلام، بأنواع المحن (ثم مكنه) بعد (وامتحن موسى) عليه السلام، كذلك (ثم مكنه، وامتحن أيوب) عليه السلام كذلك (ثم مكنه، وامتحن سليمان) عليه السلام كذلك (ثم آتاه ملكا) ومكنه فيه (صلوات الله عليهم أجمعين) وإليه يشير قوله تعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، وقوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا الآية، (والتمكين أفضل الدرجات) لأنه حال أهل الوصول (قال الله تعالى: وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ) ، وذلك بعد أن امتحن بالسجن والجب والأسر، وغير ذلك (وأيوب) عليه السلام (بعد المحنة العظيمة) المشهورة في كتب النفائس (مكن، قال الله تعالى: وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) إلى آخر (الآية) وهو قوله -عز وجل- رحمة من عندنا وذكرى للعابدين .

(فهذا الكلام من الشافعي يدل على تبحره في) معرفة (أسرار القرآن) وروى الربيع قال: كنت يوما عند الشافعي إذ جاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قوله - عز وجل- كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، فكتب: لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، قلت له: أوتدين بهذا يا سيدي؟ فقال: والله لو لم يؤمن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا، وقد رواه إبراهيم بن محمد بن هرم عن الشافعي فهذا أيضا يدل على تبحره في أسرار القرآن (و) يدل ذلك أيضا على (اطلاعه على مقامات السائرين إلى الله -عز وجل- من الأنبياء والأولياء وغير ذلك، وكل ذلك من علوم الآخرة) لا تعلق له بعلوم الدنيا أصلا .

(وقيل للشافعي: متى يكون الرجل عالما) أي كاملا في العلم (قال إذا تحقق في علم يعلمه) أي: عرفه معرفة جيدة (وتعرض) بعد ذلك (لسائر العلوم فنظر فيها) بإمعان (فإنه قيل لجالينوس) أحد حكماء اليونان: (إنك تأمر للداء الواحد بالأدوية الكثيرة المجتمعة) مع اختلاف طبائعها (قال: إنما المقصود منها) أي: من تلك الأدوية (واحد) أي: جزء واحد مضاد لذلك الداء (وإنما يجعل معه غيره) بالإضافة عليه (يسكن حدته) وقوته ولقد صدق فيما قال (لأن الإفراد قاتل) بما فيه من الحدة والقوة، فإذا لاقى الدواء الواحد حدة الداء تصاكا وعجز المريض عن تحمله، وإنما يداوى بما يلائم المريض فكذلك الانفراد في العلم الواحد يورث حدة المزاج، فإذا صاحبته علوم أخر فإنما تكون ملائمة له مسكنة لحدته، ولكن الواحد هو المقصود بالذات .

(فهذا وأمثاله مما لا يحصى) مما نقل عنه (يدل على عظم رتبته) وجلالة قدره (في معرفة الله سبحانه و) في (علوم الآخرة، وأما إرادته بالفقه خاصة وبالمناظرة فيه) مع الأقران (وجه الله) تعالى وهي الخصلة الرابعة (يدل عليه ما روي عنه أنه قال وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم وما نسب إلى منه شيء) قال ابن حاتم: حدثنا الربيع، قال: سمعت الشافعي ودخلت عليه وهو مريض فذكر ما وضع من كتبه، فقال: وددت أن الخلق تعلمه ولا ينسب إلي منه شيء أبدا، وحدثنا أبي، قال: حدثنا حرملة، قال: سمعت الشافعي يقول: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أوجر عليه ولا [ ص: 199 ] يحمدوني (فانظر كيف اطلع على آفة العلم وطلب الاسم به؟ وكيف كان منزه القلب عن الالتفات إليه بمجرد النية فيه لوجه الله تعالى؟ وقال الشافعي: ما ناظرت أحدا قط فأحببت أن يخطأ) وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول: سمعت الربيع بن سليمان المرادي يقول: دخلت على الشافعي وهو مريض فسألني عن أصحابنا فقلت له: إنهم يتكلمون، فقال لي الشافعي: ما ناظرت أحدا قط على الغلبة وبودي أن جميع الخلق تعلموا هذا الكتاب يعني كتبه على أن لا ينسب إلي منه شيء، قال هذا الكلام يوم الأحد ومات هو يوم الخميس، وانصرفنا من جنازته ليلة الجمعة فرأينا هلال شعبان سنة أربع ومائتين .

(وقال) أيضا (ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ) أورده النووي في بعض مصنفاته بإسناد صحيح، قال (وما كلمت أحدا قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو لسانه) وروى النووي بإسناد له: وددت إذا ناظرت أحدا أن يظهر الحق على يديه (وقال) أيضا في مسألة (ما أوردت الحق والحجة) أي: الدليل على إثبات ذلك الحق (على أحد فقبلها مني) بالإنصاف وحسن القبول (إلا هبته) أي وقعت هيبته في قلبي (واعتقدت محبته) لخلوص نيته وميله إلى الحق، وفي نسخة: مودته (ولا كابرني) أي: نازعني (أحد على الحق ودافع الحجة) عنادا وتعنتا (إلا سقط) مقامه ( عن عيني ورفضته) أي تركت صحبته، والمكابرة هي المنازعة في مسألة لا لإظهار الصواب بل لإلزام الخصم، ويروى من وجه آخر، قال: ما عرضت الحجة على أحد فقبلها إلا عظم في عيني ولا عرضتها على أحد فردها إلا سقط من عيني .

(فهذه العلامات هي التي تدل على إرادته وجه الله تعالى بالفقه والمناظرة) دون غيره (فانظر كيف تابعه الناس من جملة هذه الخصال الخمس على خصلة واحدة فقط) وهي التشمر والمبالغة في تفاريع الفقه (ثم كيف خالفوه فيها) بعدم الإخلاص (ولهذا قال أبو ثور) إبراهيم بن خالد بن اليمان الكلبي البغدادي ويقال كنيته أبو عبد الله ولقبه أبو ثور، روى عن سفيان بن عيينة وابن علية وعبد بن حميد ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي ويزيد بن معروف وعنه مسلم خارج الصحيح، وأبو داود وابن ماجه وأبو القاسم البغوي ومحمد بن إسحاق والسراج قال ابن حبان، كان أحد أئمة الدنيا فقها، وعلما وورعا توفي سنة 240 (ما رأيت ولا رأى الراءون مثل الشافعي) أخرجه البيهقي عن الحاكم، سمعت إسحاق بن سعد بن الحسن بن سفيان يقول: سمعت أبا ثور يقول: ما رأينا مثل الشافعي ولا رأى الشافعي مثل نفسه .

وذكر ابن السبكي في ترجمة أبي ثور من طبقاته بمثل سياق المصنف وزاد كان أصحاب الحديث ونقاده يبحثون إليه فيعرضون عليه فربما وفقهم على غوامض الحديث لم يقفوا عليها فيقومون وهم يتعجبون، وقال الخطيب أخبرنا محمد بن علي المقري، أخبرنا محمد بن جعفر التميمي بالكوفة أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن حاتم بن إدريس البلخي أخبرنا نصر بن المكي، حدثنا ابن عبد الحكم قال: ما رأينا مثل الشافعي كان أصحاب الحديث ونقاده يجيئون، فساقه مثل قول أبي ثور، وزاد بعد قوله، وهم يتعجبون: ويأتيه أصحاب الفقه المخالفون والموافقون فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والدراية، ويجيئه أصحاب الأدب فيقرءون عليه الشعر فيفسره ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل، بإعرابها وغريبها ومعانيها وكان من أضبط الناس للتاريخ وكان يعينه على ذلك شيئان وفور عقل وصحة دين .

وكان ملاك أمره صحة العمل لله تعالى، وأخرج الخطيب من رواية الزبير بن بكار قال: قال لي عمي مصعب: لم تر عيناي مثل الشافعي، قال قلت: يا عم أنت تقول لم تر عيناي مثل الشافعي؟ قال: نعم لم تر عيناي مثله، وقد روي مثل هذا عن أيوب بن سويد وكان قد رأى الأوزاعي، وروي ذلك أيضا عن ابن عبد الحكم والزعفراني وغيرهما .




الخدمات العلمية