الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن الناس من يستجيز وضع الحكايات المرغبة في الطاعات ويزعم أن قصده فيها دعوة الخلق إلى الحق فهذه من نزعات الشيطان فإن في الصدق مندوحة عن الكذب وفيما ذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم غنية عن الاختراع في الوعظ كيف وقد كره تكلف السجع وعد ذلك من التصنع .

قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لابنه عمر وقد سمعه يسجع هذا الذي يبغضك إلي لا قضيت حاجتك أبدا حتى تتوب وقد كان جاءه في حاجة وقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة في سجع من ثلاث كلمات إياك والسجع يا ابن رواحة فكأن السجع المحذور المتكلف ما زاد على كلمتين ولذلك لما قال الرجل في دية الجنين : كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك يطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم أسجع كسجع الأعراب .

التالي السابق


(ومن الناس من يستجيز) أي: يجوز (وضع الحكايات المرغبة في الطاعات) المزهدة عن الدنيا وآفاتها (ويزعم أن قصده فيه) حسن وهو (دعوة الخلق إلى الحق) وترغيبهم إليه وردعهم عن الدنيا الفانية، وأعظم من ذلك من جوز وضع الأحاديث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأباح روايتها في الترغيب والترهيب تعلقا بما ورد في بعض روايات حديث: من كذب علي متعمدا ليضل به الناس فليتبوأ مقعده من النار.

فاعلم أن كل ذلك باطل باتفاق الأئمة (وهذا) الذي صار إليه بما زعمه لا شك في أنه (من نزعات الشيطان) سول لهم بذلك وحسنه (فإن في الصدق مندوحة عن الكذب) أي: سعة، ومنه حديث عمران بن الحصين -رضي الله عنه- إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. أي: في التعريض في القول من الاتساع ما يغني الرجل عن الاضطرار إلى الكذب المحض، وفي كتاب لحن العوام للزبيدي: يقال له عن هذا مندوحة ومنتدح أي: متسع، وهو الندح أيضا، وقال أبو عبيد: المندوحة الفسحة والسعة (وفيما ذكر الله سبحانه) في كتابه العزيز من القصص العجيبة (و) ذكره (رسوله) -صلى الله عليه وسلم- من الأحاديث التي نقلها الثقات (غنية عن الاختراع) أي: الابتداع (في الوعظ) والتذكير (كيف وقد كره تكلف السجع) وهو الكلام المقفى الموزون (وعد ذلك من التصنع) أي: التكلف (قال سعد بن أبي وقاص) مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري فارس الإسلام وأحد العشرة، روى عنه بنوه إبراهيم وعمر ومحمد وعامر ومصعب وعائشة، أسلم سابع سبعة توفي سنة 55 (لابنه عمر) روى عنه ابنه إبراهيم وأبو إسحاق وأرسل عنه الزهري وقتادة قال ابن معين: كيف يكون من قتل الحسين ثقة قتله المختار سنة 67 (وقد سمعه يسجع) في كلام، وفي نسخة: يتسجع (هذا الذي يبغضك إلي لا قضيت حاجتك أبدا) إذ رأى ذلك بدعة حدثت في الأقوال (وقد كان جاءه في حاجة) يتقضاها منه فقال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما أوتي امرؤ شرا من طلاقة في لسانه. أورده صاحب القوت ثم قال: (وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن رواحة) ابن ثعلبة الأنصاري من بني الحارث بن الخزرج أبو محمد الأمير بدري نقيب استشهد بمؤتة، روى عنه أنس بن مالك وابن عباس وأرسل عنه جماعة (في سجع) ونص القوت: حين سجع فوالى (بين ثلاث كلمات) أي: تابع بينها (إياك والسجع يا ابن رواحة) .

قال العراقي: لم أجده مرفوعا ولأحمد وأبي يعلى وابن السني وأبي نعيم في كتابيهما رياضة المتعلمين بإسناد صحيح من رواية الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لكاتب: إياك والسجع فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا لا يسجعون زاد ابن السني بعد قوله: إياك والسجع لا تسجع، ورواه ابن حبان في صحيحه من رواية الشعبي عن ابن أبي [ ص: 247 ] السائب قاص أهل المدينة، قال: قالت عائشة، فذكر كلاما لها وفيه واجتنب السجع من الدعاء فإني عهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يكرهون ذلك، وروى البخاري من رواية عكرمة عن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فذكر الحديث وفيه وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون ذلك. اهـ .

وفي القوت ومما أحدثوا السجع في الدعاء والتقريب فيه وما لم يرد الكتاب به ولا نقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم- ولا الصحابة بل كانوا ينهون عن الاعتداء في الدعاء، وروينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياكم والسجع في الدعاء بحسب أحدكم أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، وسمع عبد الله بن مغفل ابنه يدعو بما يعمق فيه فقال: يا بني إياك والحديث إياك والاعتداء (فكان السجع المحذور) أي: الممنوع (المتكلف) المتصنع فيه (ما زاد على كلمتين) وأصل السجع صوت الحمامة وهديرها وسمي السجع في الكلام لكونه مشبها بذلك لتقارب فواصله، وسجع الرجل كلامه كما يقال نظمه إذا جعل لكلامه فواصل كقوافي الشعر ما لم يكن موزونا، وتقدم ذكر أقسامه وأنواعه في شرح الخطبة .

(ولذلك) قال -صلى الله عليه وسلم- (لما قال ذلك الرجل) من عصبة القاتلة يقال هو حمل بن النابغة الهذلي (في دية الجنين: كيف ندي) أي: نعطي دية (من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل) الاستهلال أول صوت المولود (ومثل ذلك يطل) أي يهدر (فقال -صلى الله عليه وسلم- أسجع كسجع الأعراب) وهم أهل البادية وكانوا يستعلمون الأسجاع في كلامهم قال العراقي: ورد من حديث المغيرة بن شعبة وأبي هريرة وابن عباس وجابر وأسامة بن عمير الهذلي وحمل بن مالك وعويم بن ساعدة الهذلي -رضي الله عنهم- أما حديث المغيرة فرواه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية عبيد بن فضيلة الخزاعي عن المغيرة بن شعبة قال: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط، فذكر الحديث، وفيه: فقال رجل من عصبة القاتلة: الغرم دية من لا أكل ولا شرب ولا استهل فمثل ذلك يطل. الحديث بلفظ مسلم وفي رواية له أندي من لا طعم ولا شرب ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك يطل. الحديث، وأصل الحديث عن البخاري والترمذي وابن ماجه مختصرا دون ذكر السجع المذكور، وأما حديث أبي هريرة فرواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من رواية ابن شهاب، عن ابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: اقتتلت امرأتان من هذيل. الحديث، وفيه: فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : إنما هذا من إخوان الكهان. من أجل سجعه الذي سجع، لفظ مسلم، ولم يسم البخاري الرجل، فإنما قال: فقال ولي المرأة، ولم يقل من أجل سجعه الذي سجع، قلت: وأخرجه مسلم أيضا من رواية معمر عن الزهري، وفيه فقال قائل: كيف نفعل ولم يسم حمل بن مالك. اهـ .

ثم قال العراقي: ورواه الترمذي وابن ماجه من رواية محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة ففيه فقال الذي قضي عليه: أنعطي من لا شرب ولا أكل ولا صاح فاستهل فمثل ذلك يطل؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : إن هذا ليقول بقول الشاعر، وأما حديث ابن عباس فرواه أبو داود والنسائي من رواية أسباط عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت امرأتان جارتان كان بينهما صخب. الحديث، وفيه فقال أبو القاتلة: إنه والله ما استهل ولا شرب ولا أكل فمثله يطل؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أسجع الجاهلية وكهانتها؟ إن في الصبي غرة، قال ابن عباس: كانت إحداهما مليكة والأخرى أم عفيف، لفظ النسائي، ولم يقل أبو داود: ولا أكل، وقال فيه عن ابن عباس في قصة حمل فأدخله المزي في الأطراف في حديث حمل، ولم يذكره في حديث ابن عباس وليس بجيد، وأما حديث جابر فرواه أبو يعلى في مسنده من رواية مجالد بن سعيد قال: حدثني الشعبي عن جابر أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، الحديث. وفيه فخاف عاقلة القاتلة أن يضمنهم قال: فقالوا يا رسول الله [ ص: 248 ] لا شرب ولا أكل ولا صاح فاستهل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسجع الجاهلية؟ والحديث عند أبي داود وابن ماجه، وليس فيه ذكر السجع المذكور، وأما حديث أسامة بن عمير وهو والد أبي المليح فرواه الطبراني بإسناد جيد من رواية أيوب قال: سمعت أبا المليح عن أبيه وكان قد صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كانت فينا امرأتان ضربت إحداهما الأخرى. الحديث، وفيه فقال رجل من أهل القاتلة: كيف نعقل يا رسول الله من لا أكل ولا شرب ولا صاح فاستهل، فمثل ذلك يطل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أسجاعة أنت؟ الحديث، وفي رواية له من رواية سلمة بن تمام عن أبي المليح أن الذي قال السجع رجل يقال له: عمران بن عويمر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعني من رجز الأعراب، وأما حديث حمل بن مالك بن النابغة فرواه الطبراني من رواية مجاهد عن الهذلي أنه كان عنده امرأة فتزوج عليها أخرى فذكر الحديث، وفيه: فجاء وليها فقال: أندى من لا أكل ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟ فقال: رجز الأعراب. وأما حديث عويم الهذلي فرواه الطبراني من رواية محمد بن سليمان بن مسمول عن عمرو بن تميم بن عويم عن أبيه عن جده قال: كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها: أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن النابغة فضربت أم عفيف مليكة بمسطح بيتها، وهي حامل فقتلتها وذا بطنها فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها بالدية، وفي جنينها بالغرة عبد أو أمة، فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل فمثل هذا يطل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أسجع كسجع الجاهلية؟ ورواه ابن منده في معرفة الصحابة ومحمد بن سليمان بن مسمول ضعيف وعمرو بن تميم وأبوه لم أجد لهما ذكرا في مظان وجودهما .




الخدمات العلمية