الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وللمرأة أن تلبس كل مخيط بعد أن لا تستر وجهها بما يماسه فإن إحرامها في وجهها .

التالي السابق


(وللمرأة أن تلبس كل مخيط ) من القميص ، والسراويل ، والخف (بعد أن لا تستر وجهها بما يماسه فإن إحرامها في وجهها) ، أي : أن الوجه في حق المرأة كالرأس في حق الرجل ، ويعبر عن ذلك بأن إحرام الرجل في رأسه ، وإحرام المرأة في وجهها الأصل في ذلك ما روى البخاري من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعا : لا تنتقب المرأة ، ولا تلبس القفازين ، ونقل البيهقي عن الحاكم عن أبي علي الحافظ أن لا تنتقب المرأة من قول ابن عمر أدرج في الخبر ، وقال صاحب الإمام هذا يحتاج إلى دليل ، وقد حكى ابن المنذر أيضا الخلاف هل هو من قول ابن عمر ، أو من حديثه ، وقد رواه مالك في الموطأ عن نافع ، عن ابن عمر موقوفا وله طرق في البخاري موصولة ، ومعلقة .

ثم إن قوله : فإن إحرامها في وجهها هو لفظ حديث أخرجه البيهقي في المعرفة عن ابن عمر قال : إحرام المرأة في وجهها ، وإحرام الرجل في رأسه . وأخرج الدارقطني ، والطبراني ، والعقيلي ، وابن عدي من حديثه بلفظ : ليس [ ص: 314 ] على المرأة إحرام إلا في وجهها . وإسناده ضعيف ، وقال العقيلي : لا يتابع على رفعه إنما يروى موقوفا ، وقال الدارقطني في العلل : الصواب وقفه ، وليس للرجل لبس القفازين ، كما ليس له لبس الخفين ، وهل للمرأة فيه قولان ؛ أحدهما لا يجوز . قاله في الأم ، والإملاء ، وبه قال مالك ، وأحمد ، والثاني : وهو منقول المزني : نعم ، وبه قال أبو حنيفة ، وفي الوجيز أنه أصح القولين لكن أكثر النقلة على ترجيح القول الأول ، منهم صاحب التهذيب ، والقاضي الروياني ، فإن جوزنا لها لبسهما فلا فدية إذا لبست ، وإلا وجبت الفدية ، ولو اختضبت بالحناء ، وألقت على يدها خرقة فوقها ، أو ألقتها على اليد من غير حناء ، فعن الشيخ أبي حامد أنها إن لم تشد الخرقة ، فلا فدية ، وإن شدت فعلى قولي القفازين ، ورتب الأكثرون ، فقالوا : إن قلنا : لها لبس القفازين ، فلا فدية عليها ، وإن منعنا ففي وجوب الفدية هنا قولان ؛ أحدهما يجب ، ويروى هذا عن الأم ، والثاني : لا يجب ، ويروى عن الإملاء ، والقولان على ما ذكر القاضي أبو الطيب ، وغيره مبنيان على المعنى المحرم لبس القفازين فيه ، ولأن مستخرجان ؛ أحدهما أن المحرم تعلق الإحرام بيدها كتعلقه بوجهها ؛ لأن كل واحد منهما ليس بعورة ، وإنما جاز الستر بالكمين للضرورة ، فعلى هذا تجب الفدية في صورة الخرقة ، والثاني : إن المحرم كون القفازين ملبوسين معمولين لما ليس بعورة من الأعضاء ، فألحقتا بالخفين في حق الرجل ، فعلى هذا لا فدية في الخرقة ، وهذا أصح القولين .

وإذا أوجبنا الفدية تعليلا بالمعنى الأول ، فهل تجب الفدية بمجرد الحناء ؟ فيه ما سبق من القولين في الرجل إذا خضب رأسه بالحناء ، ولو اتخذ الرجل لساعده ، أو لعضو آخر شيئا مخيطا ، أو للحية خريطة يقلبها إذا اختضب ، فهل يلتحق بالقفازين ؟ فيه تردد عن الشيخ أبي محمد ، والأصح الالتحاق ، وبه أجاب كثيرون ، ووجه المنع أن المقصود اجتناب الملابس المعتادة ، وهذا ليس بمعتاد ، والله أعلم .



(تنبيه)

وإذا ستر الخنثى المشكل رأسه ، أو وجهه ، فلا فدية لاحتمال أنه امرأة في الصورة الأولى رجل في الثانية ، وإن سترهما معا وجبت . قاله الرافعي . قلت ليس في هذا الكلام تعرض للمقدار الذي يجب عليه ستره ، وقال القاضي أبو الطيب في التعليق لا خلاف أنا نأمره بالتستر ، ولبس المخيط كما نأمره في صلاته أن يستتر كالمرأة . قال : والأصل فيه عدم الفدية على الأصح ؛ لأن الأصل براءة ذمته ، وقيل : تلزمه للاحتياط ، وفي البيان عن العجلي : إنه يمنع من كشف الرأس ، والوجه ، والله أعلم .



(فصل)

في المسارعة إلى البيان عند الحاجة ، واعتبار احتزام المحرم ، أخرج أبو داود عن صالح بن حسان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا محرما محتزما بحبل أبرق ، فقال : يا صاحب الحبل ألقه فيحتجون بمثل هذا الحديث أن المحرم لا يحتزم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال ألقه ؛ لأنك محرم ، فما علل الإلقاء بشيء ، فيحتمل أن يكون لكونه محرما ، ويحتمل أن يكون لأمر آخر ، وهو أن يكون ذلك الحبل إما مغصوبا عنده ، وإما للتشبيه بالزنار الذي جعل علامة للنصارى ، فاعلم أن الاحتزام مأخوذ من الحزم ، وهو الاجتهاد في الأخذ بالأمور التي يكون في الأخذ بها حصول السعادة للإنسان ، ومرضاة الرب إذا كان الحزم على الوجه المشروع ، والحبل إذا كان حبل الله ، وهو السبب الموصل إلى إدراك السعادة ، فإن كان ذلك المحتزم احتزم بحبل الله معلما بأخذ الشدائد ، والأمور المهمة ، وقال له ألقه فإنما ذلك مثل قوله : من يشاد هذا الدين يغلبه ، وإن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، وكان كثيرا ما يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفق ، وقال إن الله يحب الرفق في الأمر كله ، والحزم ضد الرفق ، فإن الحزم سوء الظن ، وقد نهينا عن سوء الظن ، والأمر أيسر مما يتخيله الحازم ، وهو يناقض المعرفة ؛ فإنه لا يؤثر في القدر الكائن ، والأمر الشديد إذا تقسم على الجماعة هان هذا اعتباره الذي يحتاج إليه ، ولا سيما المحرم ؛ فإنه محجور عليه فزاد بالحبل احتجارا على احتجار فكأنه قال له يكفيك ما أنت عليه من الاحتجار فلا تزد ، فما كان أرفقه بأمته - صلى الله عليه وسلم - وإنما رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهميان للمحرم لأن نفقته فيه الذي أمره الله أن يتزود بها إذا أراد الحج ، فقال : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، فالتقوى هنا ما يتخذه الحاج من الزاد ليقي به وجهه من السؤال ، ويتفرغ [ ص: 315 ] لعبادة ربه ، هذا هو التقوى المعروف ، ولهذا ألحقه ، بقوله : عقيب ذلك ، واتقون يا أولي الألباب ، فأوصاه أيضا مع تقوى الزاد بالتقوى فيه ، وهو أن لا يكون إلا من وجه طيب ولما كان الهميان محلا له وظرفا ووعاء ، وهو مأمور به في الاستحباب رخص له في الاحتزام به فإنه من الحزم أن تكون نفقة الرجل صحبته ، فإن ذلك أبعد من الآفات التي يمكن أن تطرأ عليه فتتلفه .

ذكر ابن عدي الجرجاني من حديث ابن عباس قال : رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهميان للمحرم . وإن كان هذا الحديث لا يصح عند أهل الحديث ، وهو صحيح عند أهل الكشف .



(فصل)

في اعتبار إحرام المرأة في وجهها هو رجوع إلى الأصل ، فإن الأصل أن لا حجاب ، ولا ستر ، والأصل ثبوت المعنى لا وجودها ولم تزل بهذا النعت موصوفة ، وبقبولها لسماع الكلام إذا خوطبت صفوته ، فهي مستعدة لقبول نعت الوجود مسارعة لمشاهدة المعبود ، فلما قال لها كن ، فكانت ، فبانت لنفسها ، وما بانت ، فوجدت غير محجور عليها في صورة موجدها ذليلة في عين مشهدها لا تدري ما الحجاب ، ولا تعرفه ، فلما بانت للأعيان ، وأثرت الطبيعة الشح في الحيوان ووفره في حقيقة الإنسان لما ركبه الله عليه في نشأته من وفور العقل ، وتحكيم القوى الروحانية ، والحسية منه انجرت الغيرة المصاحبة للشح ، والوهم أقوى فيه مما سواه ، والعقل ليس بينه وبين الغيرة مناسبة في الحقيقة ، ولهذا خلقه الله في الإنسان لدفع سلطان الشهوة ، والهوى الموجبين لحكم الغيرة فيه ، فإن الغيرة من مشاهدة الغير المماثل المزاحم له فيما يروم تحصيله ، أو هو حاصل له من الأمور التي إذا ظفر به واحد لم يكن عند غيره ، وهو مجبول على الحرص ، والطمع أن يكون كل شيء له ، وتحت حكمه لإظهار حكم سلطان الصورة التي خلق عليها ، وللغيرة موطن مخصوص شرعه له لا يتعداه ، فكل غيرة تتعدى ذلك الحد ، فهي خارجة عن حكم العقل منبعثة عن شح الطبيعة ، وحكم الهوى ، فمن غار الغيرة الإيمانية في زعمه ، فحكمه أن لا يظهر منه ، ولا يقوم به ذلك الأمر الذي غار عليه حين رآه في غيره ، فإن قام به فما تلك غيرة الإيمان وذلك من شح الطبيعة ، فوقاه الله منه ، فليس بمفلح في غيرته ، وما أكثر وقوع هذا من المحجوبين حين غلبت أهواؤهم ، والله أعلم .




الخدمات العلمية