الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم في القرن الرابع حدثت مصنفات الكلام وكثر الخوض في الجدال والغوص في إبطال المقالات ثم مال الناس إليه وإلى القصص والوعظ بها فأخذ علم اليقين في الاندراس من ذلك الزمان فصار بعد ذلك يستغرب علم القلوب ، والتفتيش عن صفات النفس ومكايد الشيطان وأعرض عن ذلك إلا الأقلون فصار يسمى المجادل المتكلم عالما ، والقاص المزخرف كلامه بالعبارات المسجعة عالما وهذا لأن العوام هم المستمعون إليهم فكان لا يتميز لهم حقيقة العلم من غيره ولم تكن سيرة الصحابة رضي الله عنهم وعلومهم ظاهرة عندهم حتى كانوا يعرفون بها مباينة هؤلاء لهم فاستمر عليهم اسم العلماء ، وتوارث اللقب خلف عن . سلف ، وأصبح علم الآخرة مطويا وغاب عنهم الفرق بين العلم والكلام إلا عن الخواص منهم كانوا إذا قيل لهم : فلان أعلم أم فلان يقولون : فلان أكثر علما ، وفلان أكثر كلاما .

فكان الخواص يدركون الفرق بين العلم وبين القدرة على الكلام .

هكذا ضعف الدين في قرون سالفة فكيف الظن بزمانك هذا وقد انتهى الأمر إلى أن مظهر الإنكار يستهدف لنسبته إلى الجنون فالأولى أن يشتغل الإنسان بنفسه ويسكت .

التالي السابق


(ثم) بعد سنة مائتين وبعد تقضي ثلاثة قرون، (في القرن الرابع) المرفوض (حدثت) وظهرت (مصنفات الكلام) ، وكتب المتكلمين بالرأي والمعقول والقياس، (وكثر الخوض في الجدال) مع القدرية والجهمية والروافض، (والغوص في إبطال المقالات) بالبراهين والأدلة، (ثم مال الناس إليه) ، أخذا وتحصيلا، (وإلى القصص والوعظ بها) على الكراسي، (فأخذ علم اليقين) والمعرفة، وفي نسخة: علم التيقن (في الاندراس) والاضمحلال، وغابت معرفة الموقنين من علم التقوى وإلهام الرشد، فخلف من بعدهم خلف فلم نزل في الخلوف إلى هذا الوقت، (فصار بعد ذلك يستغرب علم القلوب، والتفتيش عن صفات النفس) الأمارة (ومكايد الشيطان) وحيله (وأعرض عن ذلك إلا الأقلون) من القليل، ثم اختلط الأمر بعد ذلك في زمانك هذا، (فصار المجادل) والمتكلم يسمى (عالما، والقاص المزخرف كلامه بالعبارات المسجعة) الرائقة، (عالما) عارفا، والراوي للحديث والناقل له، يسمى عالما من غير فقه في دين ولا بصيرة من يقين، قال صاحب القوت، وروينا عن ابن أبي عبلة، قال: كنا نجلس إلى عطاء الخراساني بعد الصبح، فيتكلم علينا فاستبس ذات غداة فتكلم رجل من المؤذنين لا بأس به بمثل ما كان يتكلم بهعطاء فأنكر صوته رجاء بن حيوة، فقال: من هذا المتكلم؟ فقال: أنا فلان، فقال: اسكت، فإنه يكره أن يسمع العلم إلا من أهله الزاهدين في الدنيا، وكرهوا أن يسمعوه من أبناء الدنيا، وزعموا أنه لا يليق بهم. اهـ .

(وهذا لأن العوام) من الناس، (هم المستمعون إليهم) في حلق دروسهم (وكان لا يتميز لهم حقيقة العلم عن غيره) ; لقصور مرتبتهم، (ولم تكن سيرة الصحابة) وطريقتهم، (وعلومهم) وما كانوا عليه (ظاهرة عندهم حتى كانوا يعرفون بها) أي بتلك السيرة، وفي نسخة به (مباينة هؤلاء لهم) في الأقوال والأحوال (فاستمر عليهم اسم العلماء، وتوارث اللقب خلف عن خلف، وأصبح علم الآخرة مطويا) .

وفي القوت: ثم درس معرفة هذا أيضا، فصار كل من نطق بكلام وصفه غريب على السامعين لا يعرف حقه من باطله يسمى عالما، وكل كلام مستحسن مزخرف رونقه لا أصل له يسمى عالما لجهل العامة بالعلم، أي شيء هو ولقلة معرفة السامع يوصف من سلف من العلماء، كيف كانوا فصار كثير من متكلمي الزمان فتنة المفتين، وصار كثير من الرأي والمعقول الذي حقيقته جهل كأنه علم عند الجاهلين، (وغاب عنهم الفرق بين العلم والكلام) وبين المتكلم والعالم (الأعلى الخواص منهم كانوا إذا قيل لهم: فلان أعلم من فلان) ، وفي نسخة أم فلان (يقولون: فلان أكثر علما، وفلان أكثر كلاما، فكان الخواص) منهم (يدركون الفرق) والتمييز (بين العلم وبين القدرة على الكلام) ، وبين العالم والمتكلم، وخصوص الجهال يشبهون العلماء، فيشتبهون على مجالسهم في الحال، فأعلم الناس في زمانك أعرفهم بسيرة المتقين، وأعلمهم بطرائق السالكين، ثم أعلمهم بالعلم أي شيء هو، وبالعلم من هو وبالمتعلم من هو، وهذا كالفرض على طالبي العلم، أن يعرفوه حتى يطلبوه، إذ لا يصح طلب ما لا يعرف ثم معرفة العالم من هو ليطلبوا عنده العلم، إذ العلم عرض لا يقوم إلا بجسيم فلا يوجد إلا عند أهله، (هكذا ضعف الدين في قرون سالفة فكيف الظن بزمانك هذا) في القرن الخامس، (وقد انتهى الأمر إلى أن مظهر الإنكار) في شيء من ذلك (يستهدف) ويرمي (بنفسه إلى الجنون) وقلة العقل، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، (فالأولى أن يشتغل الإنسان بنفسه) في توجهه إلى المولى جل وعز (ويسكت) فإنه لا فائدة في نصيحته [ ص: 436 ] ولا سامع لها، ولا حامل لحديثه، ولا ناقل له، ويفوض أمره إلى الله تعالى، فهو المطلع على سرائر عباده، وهو المجازي لهم .




الخدمات العلمية