الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
النظر الثاني في المصرف .

فإذا أخرج الحرام فله ثلاثة أحوال .

إما أن يكون له مالك معين ، فيجب الصرف إليه أو إلى وارثه وإن كان غائبا فينتظر حضوره أو الإيصال إليه وإن كانت له زيادة ومنفعة فلتجمع فوائده إلى وقت حضوره .

وإما أن يكون لمالك غير معين وقع اليأس من الوقوف على عيبه ، ولا يدرى أنه مات عن وارث أم لا ، فهذا لا يمكن الرد فيه للمالك ، ويوقف حتى يتضح الأمر فيه ، وربما لا يمكن الرد لكثرة الملاك كغلول الغنيمة فإنها بعد تفرق الغزاة كيف يقدر على جمعهم ، وإن قدر فكيف يفرق دينارا واحدا مثلا على ألف أو ألفين فهذا ينبغي أن يتصدق به .

وإما من مال الفيء والأموال المرصدة لمصالح المسلمين كافة فيصرف ذلك إلى القناطر والمساجد والرباطات ومصانع طريق مكة وأمثال هذه الأمور التي يشترك في الانتفاع بها كل من يمر بها من المسلمين ليكون عاما للمسلمين وحكم القسم الأول لا شبهة فيه ، أما التصدق وبناء القناطر فينبغي أن يتولاه القاضي فيسلم إليه المال إن وجد قاضيا متدينا وإن كان القاضي مستحلا فهو بالتسليم إليه ضامن لو ابتدأ به فيما لا يضمنه ، فكيف يسقط عنه به ضمان قد استقر عليه بل يحكم من أهل البلد عالما متدينا ، فإن التحكيم أولى من الانفراد ، فإن عجز فليتول ذلك بنفسه ، فإن المقصود الصرف .

وأما عين الصارف فإنما نطلبه لمصارف دقيقة في المصالح ، فلا يترك أصل الصرف بسبب العجز عن صارف هو أولى عند القدرة عليه .

فإن قيل : ما دليل جواز التصدق بما هو حرام ، وكيف يتصدق بما لا يملك ، وقد ذهب جماعة إلى أن ذلك غير جائز ; لأنه حرام وحكي عن الفضيل أنه وقع في يده درهمان ، فلما علم أنهما من غير وجههما رماهما بين الحجارة وقال : لا أتصدق إلا بالطيب ، ولا أرضى لغيري مالا أرضاه لنفسي فنقول : نعم ذلك ، له وجه واحتمال وإنما ، اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس ، أما الخير فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت إليه ، فكلمته بأنها حرام إذ قال صلى الله عليه وسلم : أطعموها الأسارى .

ولما نزل قوله تعالى : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون كذبه المشركون وقالوا للصحابة : ألا ترون ما يقول صاحبكم يزعم أن الروم ستغلب فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما حقق الله صدقه وجاء أبو بكر رضي الله عنه بما قامرهم به قال عليه الصلاة والسلام : هذا سحت فتصدق به وفرح المؤمنون بنصر الله وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في المخاطرة مع الكفار .

التالي السابق


(النظر الثاني في المصرف، فإذا أخرج الحرام) من ماله (فله ثلاثة أحوال، إما أن يكون له مالك معين، فيجب الصرف إليه أو إلى وارثه) [ ص: 100 ] أي: وارث المالك إن كان المالك ميتا، (وإن كان) المالك أو وارثه (غائبا) إلى جهة (فينتظر حضوره) إن أمكن أو الإيصال (إليه) في الموضع الذي هو فيه إن أمكن، (فإن كانت له زيادة) حصلت من الارتفاع، (أو منفعة فلتجتمع فوائده) المتحصلة، (إلى وقت حضوره) أو إيصالها إليه، (وإما أن يكون لمالك غير معين وقع اليأس من الوقوف على عينه، ولا يدرى أنه مات عن وارث أم لا، فهذا لا يمكن الرد فيه للمالك، ويوقف) المال (حتى يتضح الأمر فيه، وربما لم يكن الرد لكثرة الملاك) ، وهذا ( كغلول الغنيمة ) أي: ما أخذه منها بطريق الخيانة قبل القسمة، (فإنها بعد تفرق الغزاة) إلى أوطانهم (كيف يقدر على جمعهم، وإن قدر كيف يفرق دينارا واحدا مثلا على ألف) رجل (وألفين) أو أكثر أو أقل، (فهذا ينبغي أن يتصدق به) على الفقراء، (وإما أن يكون من مال الفيء والأموال المرصدة) أي: المحبسة (لمصالح المسلمين كافة فيصرف ذلك إلى) تعمير (القناطر) والجسور (والمساجد) ، وما في حكمها من الزوايا، (والرباطات) لأهل العلم والصوفية، (ومصانع طريق مكة ) شرفها الله تعالى، وهي مخازن المياه، (وأمثال هذه الأمور التي يشترك في الانتفاع بها كل من يمر بها من المسلمين ليكون عاما للمسلمين وحكم القسم الأول لا شبهة فيه، أما التصدق) على الفقراء (وبناء القناطر) ، وتعمير المساجد والمصانع، (فينبغي أن يتولاه القاضي) ، فإنه الحاكم الشرعي، (فليسلم إليه المال) المذكور (إن وجد قاضيا متدينا) حافظا لدينه، (وإن كان القاضي مستحلا) للأموال بغير وجه شرعي، (فهو بالتسليم إليه ضامن) للمال، (ولو ابتدأ به فيما لا يضمنه، فكيف يسقط عنه ضمان قد استقر عليه) في ذمته، (بل يحكم من أهل البلد عالما متدينا، فإن التحكيم أولى من الانفراد، فإن عجز عن ذلك فليتول ذلك بنفسه، فإن المقصود) الأصلي (الصرف) أي: صرف المال إلى مصرفه، (فأما عين صارف فإنما يطلبه لمصارفات دقيقة في المصالح، فلا يترك أصل الصرف) الذي هو المقصود (بسبب العجز عن مصارف هو أولى عند القدرة عليه، فإن قيل: ما دليل جواز التصرف) على الفقراء (بما هو حرام، وكيف يتصدق بما لا يملك، وقد ذهب جماعة) من السلف (أن ذلك غير جائز; لأنه حرام) ، ويدل لذلك ما (حكي عن الفضيل) بن عياض رضي الله عنه (أنه وقع في يده درهمان، فلما علم أنهما من غير وجهه رماهما بين الحجارة وقال: لا أتصدق إلا بالطيب، ولا أرضى لغيري بما لا أرضاه لنفسي) ، وأصله قوله تعالى: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ، ويدل له أيضا حديث عائشة المتقدم في كراهة أكل الضب، وفيه: "إنا لا نطعمهم مما لا نأكل" ، ففيه استحباب أن لا يطعم المساكين مما لا يأكل، (فنقول: نعم، له وجه واحتمال، ولكنا اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس، أما الخبر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة المصلية) أي: المشوية على النار (التي قدمت إليه، فكلمته بأنها حرام إذ قال: أطعموها الأسارى) ، قال العراقي : رواه أحمد من حديث رجل من الأنصار قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما رجعنا لقينا راعي امرأة من قريش فقال: إن فلانة تدعوك ومن معك في طعام" . الحديث، وفيه: "فقال: أجد لهم شاة أخذت بغير إذن أهلها" ، وفيه: "فقال: أطعموها الأسارى" . وإسناده جيد اهـ .

قلت: رواه من طريق ابن إدريس وزائدة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار، وهكذا رواه أبو داود أيضا من هذا الطريق، ولفظه: "خرجنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم استقبله راعي امرأة وجيء بالطعام، فوضع يده فلاك لقمة في فيه، قال: إني أجد شاة أخذت بغير إذن أهلها، فقالت المرأة: إني لم أجد شاة أشتريها، فأرسلت إلى جاري فلم أجده فأرسلت [ ص: 101 ] إلى امرأة فأرسلت لي شاة له، قال: فأطعميه الأسارى" . ورواه محمد بن الحسن في الآثار عن أبي حنيفة ، عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه، عن رجل من الأنصار "أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قوما من الأنصار في دارهم، فذبحوا له شاة، فصنعوا له منها طعاما، فأخذ من اللحم شيئا فلاكه فمضغه ساعة لا يسيغه، فقال: ما شأن هذا اللحم؟ قالوا: شاة لفلان ذبحناها حتى يجيء فنرضيه عن ثمنها قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطعموها الأسارى" ، ورواه الكلاعي من طريق محمد بن خالد الذهبي عن أبي حنيفة ، عن عاصم بن كليب عن أبيه، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا رواه الطحاوي من طريق زهير بن معاوية عن عاصم إلا أنه لم يقل فيه: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وكذا رواه أبو محمد الحارثي الحافظ في مسنده عن محمد بن الحسن البزاز البلخي ، وإبراهيم بن معقل بن الحجاج النسفي ، ومحمد بن إبراهيم بن زياد الرازي ، كلهم عن بشر بن الوليد ، عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ، عن عاصم بن كليب ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبي موسى الأشعري ، ورواه الحارثي أيضا من وجهتين من طريق ابن عاصم النبيل ، ويزيد بن زريع ، والحسن بن فرات وسعيد بن أبي الجهم ، ومحمد بن مسروق ، والحسن بن زياد ، كلهم عن أبي حنيفة بهذا الإسناد، ورواه أيضا من طريق حمزة بن حبيب الزيات عن أبي حنيفة بالإسناد المذكور بلفظ: "صنع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما فدعاه، فقام وقمنا معه، فلما وضع الطعام تناول منه شيئا وتناولنا، فأخذ بضعة فلاكها في فيه طويلا، فجعل لا يستطيع أن يأكلها، قال: فرماها من فمه، فلما رأيناه قد صنع ذلك أمسكنا عنه أيضا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الطعام، فقال: أخبرني عن لحمك هذا من أين هو؟ قال: يا رسول الله شاة كانت لصاحب لنا، فلم يكن عندنا ما نشتريها منه، وعجلنا وذبحناها فصنعناها لك حتى يجيء، فنعطيه ثمنها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برفع الطعام وأمر أن يطعموه الأسارى" .

وقال الطبراني في معجميه: حدثنا أحمد بن القاسم ، حدثنا بشر بن الوليد ، حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة بالإسناد المذكور، وكذا رواه طلحة وابن المظفر ، وابن عبد الباقي من طريق بشر ، قال الحافظ في تخريج أحاديث الهداية: وهذا معلول، والمحفوظ ما رواه محمد بن الحسن عن أبي حنيفة اهـ، وقد استدل به أصحابنا على أن الشاة إذا ذبحت بغير إذن مالكها لا يجوز الانتفاع بها قبل أداء الضمان، قال محمد بن الحسن في الآثار بعد أن أخرج هذا الحديث: وبه نأخذ ولو كان اللحم على حاله الأولى لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعموها الأسارى، ولكنه رآه قد خرج عن ملك الأول، وكره أكله; لأنه لم يضمن لصاحبه الذي أخذت شاته، ومن ضمن شيئا صار له غصب من وجه، فأحب إلينا أن يتصدق به ولا يأكله، وكذلك ربحه، والأسارى عندنا هم أهل السجن المحتاجون، وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى اهـ. وقال الزيلعي في شرح الكنز: والضابط في هذه المسألة أنه متى تغيرت العين المقصودة بفعل الغاصب حتى زال اسمها، وأعظم منافعها، أو اختلطت بملك الغاصب بحيث لا يمكن تمييزها أصلا أو إلا بحرج زال ملك المغصوب منه عنها، وملكها الغاصب وضمنها، ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها إلا الفضة والذهب، ألا ترى ما نحن فيه، قد تبدلت العين وتجدد لها اسم آخر فصارت كعين أخرى حصلها بكسبه فيملكها غير أنه لا يجوز له الانتفاع به قبل أن يؤدي الضمان كيلا يلزم منه فتح باب الغصب، وفي منعه حسم مادته، ولو جاز الانتفاع أو لم يملكه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأطعموه الأسارى" ، والقياس أن يجوز الانتفاع به وهو قول زفر والحسن بن زياد ، وروايته عن أبي حنيفة لوجود الملك المطلق للتصرف، ولهذا ينفذ تصرفه فيه كالتمليك لغيره، ووجه الاستحسان ما بيناه، ونفاذ تصرفه فيه لوجود الملك، وذلك لا يدل على الحل ألا ترى أن المشتري شراء فاسدا ينفذ تصرفه فيه مع أنه لا يحل له الانتفاع به، ثم إذا دفع القيمة إليه وأخذه أو حكم الحاكم بالقيمة، أو تراضيا على مقدار، حل له الانتفاع لوجود الرضا من المغصوب منه; لأن الحاكم لا يحكم إلا بطلبه، فحصلت المبادلة بالتراضي .

(ولما نزل قوله تعالى: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون كذبه المشركون [ ص: 102 ] وقالوا للصديق رضي الله عنه: ألا ترى ما يقول صاحبكم) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، (يزعم أن الروم ستغلب) الفرس ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب غلبة الروم لكونهم أهل كتاب، والمشركون كانوا يحبون غلبة الفرس لكونهم عبدة الأوثان، (فخاطرهم أبو بكر ) رضي الله عنه، أي: راهنهم على مال (بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حقق الله صدقه) ، وغلبت الروم الفرس وجاءت البشائر، (جاء أبو بكر ) رضي الله عنه (بما راهنهم به) من الأموال، (فقال صلى الله عليه وسلم: هذا سحت فتصدق به) ، والسحت كل مال حرام لا يحل كسبه ولا أكله ، وقيل: هو الحرام الذي يلزم صاحبه العار، كأنه يسحت دينه ومروءته، وتسمى الرشوة سحتا. وروي: "كسب الحجام سحت" ; لكونه ساحتا للمروءة لا للدين ألا تراه أذن في إطعامه الناضج والمملوك .

قال الواحدي في تفسيره لقوله تعالى: أكالون للسحت أجمعوا على أن المراد بالسحت هذا الرشوة في الحكم، وقالوا: نزلت الآية في حكام اليهود كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم، وأما اشتقاق السحت، فقال الزجاج: إن الرشا التي يأخذونها يسحتهم الله بها بعذاب، أي: يستأصلهم، وقال أبو الليث : لأنه يسحت مروءة الإنسان، قال السبكي : وحاصله أن السحت حرام خاص، ليس كل حرام يقال له سحت، بل الحرام الشديد الذي يذهب المروءة، ولا يقدم عليه إلا من به شره عظيم، ورشوة الحاكم من هذا القبيل لذلك سماها الله تعالى سحتا، (ففرح المؤمنون بنصر الله) أهل الكتاب على المجوس، (وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه في المخاطرة مع الكفار) .

قال العراقي : الحديث المذكور، رواه البيهقي في الدلائل من حديث ابن عباس ، وليس فيه أن ذلك كان بإذنه صلى الله عليه وسلم وهو عند الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه دون قوله أيضا: هذا سحت فتصدق به، اهـ، قلت: الأقرب إلى سياق المصنف ما أخرجه أبو يعلى وابن أبي حاتم ، وابن مردويه وابن عساكر من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لما نزلت: الم غلبت الروم الآية، قال المشركون لأبي بكر رضي الله عنه: ألا ترى ما يقول صاحبك، يزعم أن الروم تغلب فارسا ، قال: صدق صاحبي، قالوا: هل لك أن نخاطرك، فجعل بينه وبينهم أجلا، فحل الأجل قبل أن تغلب الروم فارسا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فساءه فكرهه، وقال لأبي بكر : ما دعاك إلى هذا؟ قال: تصديقا لله ورسوله، قال: تعرض لهم وأعظم الخطر، واجعله إلى بضع سنين، فأتاهم أبو بكر فقال: هل لكم في العود، فإن العود أحمد، قالوا: نعم، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارسا وربطوا خيولهم بالمدائن ، وبنوا الرومية، فقمر أبو بكر فجاء به يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سحت، تصدق به" .

وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه العراقي وأن الترمذي حسنه، والحاكم صححه، فقد رواه أحمد والطبراني في الكبير، وابن مردويه والضياء في المختارة، ولفظهم عنه في قوله تعالى: الم غلبت الروم قال: غلبت وغلبت، قال: "كان المشركون يكرهون أن تظهر الروم على فارس ; لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر رضي الله عنه، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل بينهم أجلا خمس سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم" . الحديث .

وأخرج ابن جويبر من حديث ابن مسعود نحوه، وفيه: "قالوا: هل لك أن نقامرك، فبايعوه على أربعة قلائص إلى سبع سنين، ولم يكن شيء، ففرح المشركون بذلك، وشق على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم بضع سنين عندكم؟ قالوا: دون العشر، قال: اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل، قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك" . فأخرجه الترمذي وصححه، والدارقطني في الأفراد، والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل، والبيهقي في الشعب من حديث نيار بن مكرم السلمي ، قال: لما نزلت هذه الآية خرج أبو بكر رضي الله عنه يسبح في نواحي مكة بها فقال ناس من قريش لأبي بكر : ذاك بيننا وبينكم، يزعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارسا في بضع سنين أولا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن [ ص: 103 ] أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، فقالوا لأبي بكر : لم نجعل البضع ثلاث سنوات إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطى ننتهي إليه، قال: فسموا بينهم ست سنين، فمضت الست قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على الفرس ، فعاب المسلمون على أبي بكر بتسميته ست سنين قال: لأن الله تعالى قال: في بضع سنين ، فأسلم عند ذلك ناس كثير .

وأخرج ابن جرير وابن أبي الحاتم والبيهقي عن قتادة قال: "لما أنزل الله هذه الآية صدق المسلمون ربهم وعرفوا أن الروم ستظهر على فارس ، فاقتمروا هم والمشركون خمس قلائص وأجلوا بينهم خمس سنين، فولي قمار المسلمين أبو بكر رضي الله عنه، وولي قمار المشركين أبي بن خلف ، وذلك قبل أن ينهى عن القمار، فجاء الأجل ولم تظهر الروم على فارس ، فسأل المشركون قمارهم، فذكر ذلك الأصحاب للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألم تكونوا أحقاء أن تؤجلوا أجلا دون العشر، فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر، فزايدوهم ومادوهم في الأجل، فأظهر الروم على فارس عند رأس السبع من قمارهم الأول، وكان ذلك مرجعهم من الحديبية ، وكان مما شد الله به الإسلام فهو قوله: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .

وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: لما أنزل الله هذه الآيات خرج أبو بكر إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا، فلا تفرحوا ولا يقر الله عينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت، فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله، قال: أناصبك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ما هذا ذكرت إنما البضع من الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر وماده في الأجل، فخرج أبو بكر ، فلقي أبيا فقال: لعلك ندمت، قال: لا، قال: تعال أزايدك في الخطر، وأمادك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت .




الخدمات العلمية