الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت فبماذا : يمكن إظهار البغض ؟ فأقول : أما في القول فبكف اللسان عن مكالمته ومحادثته مرة وبالاستخفاف والتغليظ في القول أخرى .

وأما في الفعل فبقطع السعي في إعانته مرة وبالسعي في إساءته وإفساده مآربه أخرى .

وبعض هذا أشد من بعض وهي ، بحسب درجات الفسق والمعصية الصادرة منه .

، أما ما يجري مجرى الهفوة التي يعلم أنه متندم عليها ولا يصر عليها فالأولى فيه الستر والإغماض .

أما ما أصر عليه من صغيرة أو كبيرة ، فإن كان ممن تأكدت بينك وبينه مودة وصحبة وأخوة فله حكم آخر وسيأتي وفيه خلاف بين العلماء وأما إذا لم تتأكد أخوة وصحبة فلا بد من إظهار أثر البغض إما في الإعراض والتباعد عنه وقلة الالتفات إليه وإما في الاستخفاف وتغليظ القول عليه .

وهذا أشد من الإعراض وهو بحسب غلظ المعصية وخفتها وكذلك في الفعل أيضا رتبتان إحداهما قطع المعونة والرفق والنصرة عنه وهو أقل الدرجات والأخرى السعي في إفساد أغراضه عليه كفعل الأعداء المبغضين ، وهذا لا بد منه ، ولكن فيما يفسد عليه طريق المعصية .

أما ما لا ؛ يؤثر فيه ، فلا مثاله رجل عصى الله بشرب الخمر وقد خطب امرأة لو تيسر له نكاحها لكان مغبوطا بها بالمال والجمال والجاه إلا أن ذلك لا يؤثر في منعه من شرب الخمر ولا في بعث وتحريض عليه ، فإذا قدرت على إعانته ليتم له غرضه ومقصوده وقدرت على تشويشه ليفوته غرضه فليس لك السعي في تشويشه .

أما ، الإعانة فلو تركتها إظهارا للغضب عليه في فسقه فلا بأس وليس يجب تركها ؛ إذ ربما يكون لك نية في أن تتلطف بإعانته وإظهار الشفقة عليه ليعتقد مودتك ويقبل نصحك ؛ فهذا حسن ، وإن لم يظهر لك ولكن رأيت أن تعينه على غرضه قضاء لحق إسلامه فذلك ليس بممنوع بل هو الأحسن إن كانت معصيته بالجناية على حقك أو حق من يتعلق بك .

. وفيه نزل قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى قوله تعالى : ألا تحبون أن يغفر الله لكم إذ تكلم مسطح بن أثاثة في واقعة الإفك .

فحلف أبو بكر أن يقطع عنه رفقه وقد كان يواسيه بالمال ؛ فنزلت الآية مع عظم معصية مسطح وأية معصية تزيد على التعرض لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإطالة اللسان في مثل عائشة رضي الله عنها إلا أن الصديق رضي الله عنه كان كالمجني عليه في نفسه بتلك الواقعة ، والعفو عمن ظلم والإحسان إلى من أساء من أخلاق الصديقين .

وإنما يحسن الإحسان إلى من ظلمك ، فأما من ظلم غيرك وعصى الله به فلا يحسن إحسانك إليه ؛ لأن في الإحسان إلى الظالم إساءة إلى المظلوم .

وحق المظلوم أولى بالمراعاة ، وتقوية قلبه بالإعراض ؛ عن الظالم أحب إلى الله من تقوية قلب الظالم فأما إذا كنت أنت المظلوم فالأحسن في حقك العفو والصفح .

التالي السابق


( فإن قلت: فبماذا يمكن إظهار البغض؟ فأقول: أما بالقول فكف اللسان) أي: منعه عن مكالمته ومحادثته ومنادمته (مرة وبالاستخفاف والتغليظ في القول) والتشديد عليه (أخرى، وأما بالفعل فبقطع السعي في إعانته مرة وبالسعي في إساءته وإفساد مآربه) أي: حاجاته (أخرى، وبعض هذا أشد من بعض، وهو) يختلف (بحسب درجات الفسق والمعصية الصادرة، أما ما يجري مجرى الهفوة التي يعلم أنه متندم عليها ولا يصر عليها) وإنما هي نادرة منه (فالأولى فيه الإغماض) أي: غض البصر عنه (والستر) عليه (وأما ما أصر عليها من صغيره أو كبيره، فإن كان ممن تأكدت بينك وبينه مودة وصحبة) وأخوة (فله حكم آخر وسيأتي) بيانه (وفيه خلاف بين العلماء) يذكر في محله (وأما إذا لم تتأكد أخوته وصحبته فلا بد من إظهار أثر البغض إما في الإعراض والتباعد عنه وقلة الالتفات إليه) بعدم المكالمة معه (وإما في الاستخفاف وتغليظ القول عليه) بالإنكار (وهذا أشد من الإعراض والتباعد) وهو (بحسب غلظ المعصية وخفتها وكذلك في الفعل أيضا رتبتان إحداهما قطع المعرفة) الظاهرة (والرفق) في أمر المعيشة (والنصرة) على من يعاديه والذب (عنه وهو أقل الدرجات والأخرى السعي في إفساد أغراضه عليه كفعل الأعداء المبغضين، وهذا لا بد منه، ولكن فيما يفسد عليه طريق المعصية؛ وذلك فيما يؤثر فيها، وأما ما لا يؤثر فلا) لفوات المقصود فيه (مثاله مثال رجل عصى الله) تعالى بشرب الخمر مثلا (وقد خطب امرأة لو تيسر له نكاحها لكان مغبوطا فيها بالمال والجمال والجاه إلا أن ذلك لا يؤثر في منعه من شرب الخمر ولا في بعث وتحريض عليه، فإذا قدرت على إعانته ليتم له مقصوده) من نكاح المرأة (وقدرت على تشويشه ليفوته) ذلك التشويش (غرضه فليس) إلا أن تكون (لك) نية في [ ص: 193 ] (السعي في تشويشه، وأما الإعانة فلو تركتها إظهارا للغضب عليه في فسقه فلا بأس) في ذلك (وليس يجب تركها؛ إذ ربما تكون له نية في أن يتلطف في إعانته وإظهار الشفقة عليه ليعتقد مودتك ويقبل نصحك؛ فهذا حسن، وإن لم يظهر لك ولكن رأيت أن تعينه على غرضه قضاء لحق إسلامه فكذلك ليس بممنوع بل هو الأحسن إن كانت معصيته بالجناية على حقك أو حق من يتعلق بك .

وفيه نزل قوله تعالى: ولا يأتل ) أي: لا يحلف ( أولو الفضل منكم والسعة ) في الرزق ومعرفة الله تعالى، والمراد به أبو بكر -رضي الله عنه- ( أن يؤتوا أولي القربى إلى قوله: ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) وتمام الآية بعد قوله: أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (إذ تكلم مسطح بن أثاثة) بن عباد بن المطلب بن عباد (في قصة الإفك) المشهورة المتفق عليها من حديث عائشة -رضي الله عنها- (فحلف أبو بكر) -رضي الله عنه- (أن يقطع عنه رفقه) وفي نسخة: نفقته (وقد كان يواسيه بالمال؛ فنزلت هذه الآية) من جملة الآيات في براءة عائشة؛ وهي ثمانية عشر آية (مع عظم معصية مسطح، وأي معصية تزيد على التعرض لحرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإطالة اللسان في مثل عائشة) -رضي الله عنها- .

وهذه القصة قد أخرجها عبد الرازق وأحمد والبخاري وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب، كلهم من حديث عائشة، وهي طويلة، وفيها قالت عائشة: فلما أنزل الله في براءتي إن الذين جاءوا بالإفك العشر الآيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، قال: فأنزل الله ولا يأتل أولو الفضل إلى قوله: رحيم قال أبو بكر: والله إني أحب أن يغفر الله لي؛ فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.

وأخرج البخاري والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديثها وفيه: وكان الذي تكلم فيها مسطح وحسان بن ثابت والمنافق عبد الله بن أبي، وهو الذي كان تولى كبره مع حنة بنت جحش، فقالت: فحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحا بنفقة أبدا، فأنزل الله: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة يعني أبا بكر أن يؤتوا أولي القربى والمساكين يعني: مسطحا، إلى قوله: غفور رحيم قال أبو بكر: بلى والله إنا نحب أن يغفر لنا، وعاد له بما كان يصنع.

وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه من حديث ابن رومان وفيها: "كان فيمن حدث الحديث رجل كان يحدث به أبو بكر؛ فحلف أن لا يصله؛ فأنزل الله: ولا يأتل أولو الفضل الآية، فوصله أبو بكر" .

وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عباس وفيه: "كان أبو بكر يعطي مسطحا ويصله ويبره، فحلف أبو بكر أن لا يعطيه، فنزل ولا يأتل أولو الفضل الآية، وعند الطبراني وابن مردويه من حديث ابن عمر: فبعث أبو بكر إلى مسطح: لا أوصلنك بدرهم أبدا ولا عطفت عليك بخير أبدا، ثم طرده أبو بكر وأخرجه من منزله، فنزل القرآن: ولا يأتل الآية، فقال أبو بكر: القرآن يأمرني فيك؛ لأضاعفن لك.

وعند ابن أبي حاتم والطبراني من حديث سعيد بن جبير: وكان مسطح من المهاجرين الأولين وكان ابن خالة أبي بكر وكان يتيما في حجره فقيرا، فلما حلف أبو بكر ألا يصله، فنزلت في أبي بكر ولا يأتل الآية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما تحب أن يغفر الله لك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فاعف واصفح، قال أبو بكر: عفوت وصفحت، لا أمنعه معروفا بعد اليوم (إلا أن الصديق) -رضي الله عنه- (كان كالمجني عليه في نفسه في تلك الواقعة، والعفو عمن ظلم والإحسان إلى من أساء من أخلاق الصديقين) .

كما أن الإساءة إلى من أحسن من أخلاق المتهورين (وإنما يحسن الإحسان إلى من ظلمك، فأما من ظلم غيره وعصى الله به فلا يحسن الإحسان إليه؛ لأن في الإحسان إلى الظالم إساءة إلى المظلوم) وكسرا لجانبه (وحق المظلوم أولى بالمراعاة، وتقوية قلبه؛ فالإعراض عن الظالم أحب إلى الله من تقوية قلب الظالم) بالإحسان إليه (فأما إذا كنت أنت المظلوم فالإحسان في حقك العفو) والسماح .




الخدمات العلمية