الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وطرق السلف قد اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي وكلهم اتفقوا على إظهار البغض للظلمة والمبتدعة وكل من عصى الله بمعصية متعدية منه إلى غيره ، فأما من عصى الله في نفسه ، فمنهم من نظر بعين الرحمة إلى العصاة كلهم ومنهم من شدد الإنكار واختار المهاجرة .

فقد كان أحمد بن حنبل يهجر الأكابر في أدنى كلمة حتى هجر يحيى بن معين لقوله : إني لا أسأل أحدا شيئا ولو حمل السلطان إلي شيئا لأخذته .

وهجر الحارث المحاسبي في تصنيفه في الرد على المعتزلة ، وقال : إنك لا بد تورد أولا شبهتهم وتحمل الناس على التفكر فيها ثم ترد عليهم وهجر أبا ثور في تأويله قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم على صورته .

" وهذا أمر يختلف باختلاف النية وتختلف النية باختلاف الحال ، فإن كان الغالب على القلب النظر إلى اضطرار الخلق وعجزهم وأنهم مسخرون لما قدروا له أورث هذا تساهلا في المعاداة والبغض وله وجه ولكن قد تلتبس به المداهنة فأكثر البواعث على الإغضاء عن المعاصي المداهنة ومراعاة القلوب والخوف من وحشتها ونفارها وقد يلبس الشيطان ذلك على الغبي الأحمق بأنه ينظر بعين الرحمة ومحك ذلك أن ينظر إليه بعين الرحمة إن جنى على خاص حقه ، ويقول إنه قد سخر له والقدر لا ينفع منه الحذر وكيف لا يفعله وقد كتب عليه فمثل هذا قد تصح له نية في الإغماض عن الجناية على حق الله وإن كان يغتاظ عند الجناية على حقه ويترحم عند الجناية على حق الله فهذا مداهن مغرور بمكيدة من مكايد الشيطان فليتنبه له .

التالي السابق


(وطرق السلف قد اختلفت في إظهار البغض لله مع [ ص: 194 ] أهل المعاصي) صغيرة أو كبيرة (وكلهم اتفقوا على إظهار البغض للظلمة والمبتدعة) أي: المتدينين بالبدع السيئة وكل من عصى الله تعالى (بمعصية متعدية إلى غيره، فأما من عصى الله تعالى في نفسه، فمنهم من نظر بعين الرحمة إلى العصاة كلهم) نظرا إلى سعة رحمة الله وجميل إحسانه (ومنهم من شدد الإنكار عليه واختار المهاجرة) عن مجالسته ومكالمته (فقد كان أحمد بن حنبل) -رحمه الله تعالى- (يهجر الأكابر في أدنى كلمة) يسمعها منه أو تبلغه عنه (حتى هجر يحيى بن معين) الإمام المشهور (لقوله: إني لا أسأل أحدا شيئا ولو حمل السلطان إلي شيئا لأخذته) .

وفي رواية: "ولو أعطاني السلطان شيئا لأخذته" وقد تقدم ذلك في الكتاب الذي قبله (وهجر الحارث) بن أسد (المحاسبي) -رحمه الله تعالى- (في تصنيفه الرد على المعتزلة، وقال: إنك تورد أولا شبهتهم) التي تحكموا بها (وتحمل الناس على التفكير فيها ثم ترد عليهم) فربما غبي بالطبع وتثبت تلك الشبهة على ذهنه ولا يفهم الرد فيكون سببا لفساد اعتقاده، وقد تقدم ذلك في كتاب العلم (وهجر أبا ثور) صاحب الشافعي (في تأويله قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله خلق آدم على صورته") .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

قلت: وقد تقدم الكلام عليه في كتاب قواعد العقائد (وهذا أمر يختلف باختلاف النية وتختلف النية باختلاف الحال، فإن كان الغالب على القلب النظر إلى اضطرار الخلق وعجزهم) الذي جبلوا عليه (وأنهم مسخرون لما قدر لهم) من الأزل (أورث هذا تساهلا في المعادلة والبغض له وجه) يلمح إلى الجواز (ولكن قد تلتبس به المداهنة) وهي ترك دفع منكر وهو قادر عليه لقلة مبالاة بالدين أو حفظا لجانب مرتكبه (فأكبر البواعث على الإغضاء عن المعاصي المداهنة ومراعاة القلوب والخوف من وحشتها ونفارها) عنه (وقد يلبس الشيطان ذلك على الغبي الأحمق) ويسوله عليه (بأنه نظر بعين الرحمة) الإلهية (ومحل ذلك أن ينظر بعين الرحمة إن جنى على خاص حقه، ويقول أنه قد سخر له والقدر لا ينفع منه الحذر) ومنه القول المشهور: لا ينفع حذر من قدر، وقول العامة: المقدور ما منه هروب .

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث خالد بن رافع رفعه: لا تكثر همك ما يقدر يكون. وخالد بن رافع مختلف في صحبته. ورواه الأصبهاني في الترغيب من حديث مالك بن عمر به مرسلا (فكيف لا يفعله وقد كتب عليه، فبمثل هذا قد تصح له نية في الإغماض على الجناية على حق الله) تعالى (وإن كان يغتاظ) ويغضب (عند الجناية على حقه) خاصة (ويترحم عند الجناية على حق الله) تعالى (فهذا مداهن مغرور) قد غره الأماني (بمكيدة من مكايد الشيطان فلينتبه له) فإنه من الدقائق .




الخدمات العلمية