الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه ويمكن تقبيحه أيضا .

روي أن رجلا أثنى على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد ذمه فقال عليه السلام : أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه ! فقال : والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم ؛ إنه أرضاني بالأمس ، فقلت أحسن ما علمت فيه وأغضبني اليوم ، فقلت أقبح ما علمت فيه ، فقال عليه السلام " إن من البيان لسحرا .

" وكأنه كره ذلك فشبهه بالسحر ولذلك قال في خبر آخر : البذاء والبيان شعبتان من النفاق .

وفي الحديث الآخر إن الله يكره لكم البيان كل البيان وكذلك قال الشافعي رحمه الله ما أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه .

فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل وإذا جعل مثل هذا عدلا في حق الله فبأن تراه عدلا في حق نفسك ، ومقتضى أخوتك أولى .

وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساويه يجب عليك السكوت بقلبك وذلك بترك إساءة الظن فسوء الظن غيبة بالقلب وهو منهي عنه أيضا وحده أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على وجه حسن .

فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة فلا يمكنك أن لا تعلمه وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفرسا وهو الذي يستند إلى علامة فإن ذلك يحرك الظن تحريكا ضروريا لا يقدر على دفعه وإلى ما منشؤه سوء اعتقادك فيه حتى يصدر منه فعل له وجهان فيحملك سوء الاعتقاد فيه على أن تنزله على الوجه الأردإ من غير علامة تخصه به ، وذلك جناية عليه بالباطن ، وذلك حرام في حق كل مؤمن .

إذ قال صلى الله عليه وسلم إن الله قد حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء .

وقال صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث .

التالي السابق


(وما من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه ويمكن تقبيحه أيضا) بخصال أخرى فيه (و) هذا المعنى سبب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن من البيان سحرا" إذ كل حديث (روي) وفي آخره سبب يكون أوله خرج عليه، وهو (أن رجلا أثنى على رجل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما كان من الغد ذمه فقال -صلى الله عليه وسلم-: أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه! فقال: والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم؛ إنه أرضاني بالأمس، فقلت أحسن ما علمت فيه وأغضبني اليوم، فقلت أقبح ما علمت فيه، فقال -صلى الله عليه وسلم-) عند ذلك: ("إن من البيان سحرا" وكأنه كره ذلك فشبهه بالسحر) ؛ لأن السحر حرام؛ أي: إن بعض البيان سحر؛ لأن صاحبه يكشف بحسن بيانه عن حقيقة المشكل فيستميل القلوب كما يستمال القلوب كما يستمال بالسحر، فلما كان في البيان من صنوف التركيب وغرائب التأليف ما يجذب السامع إلى حد يكاد يشغل عن غيره شبهه بالسحر الحقيقي .

قال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس أطول منه بسند ضعيف أيضا. انتهى .

قلت: إن من البيان لسحرا. رواه أحمد والبخاري في النكاح والطب، وأبو داود في الأدب والترمذي في البر، كلهم من حديث ابن عمر وعزاه صاحب المشارق إلى علي ووهم فيه، فإن البخاري لم يخرجه عنه، وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد وأبو داود بلفظ: إن من البيان سحرا أو إن من الشعر حكما، وأما القصة ففي قدوم وفد تميم وفيهم الزبرقان وعمرو بن الأهتم [ ص: 213 ] وأنهما خطبا ببلاغة وفصاحة، ثم قال الزبرقان: يا رسول الله، أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب لديهم، أمنعهم من الظلم وآخذ لهم حقوقهم وهذا يعلم ذاك، فقال عمرو: وإنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في أذينه، فقال الزبرقان: والله قد علم مني أكثر مما قال، ما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك؟! فوالله إنه للئيم الخال، حديث المال، ضعيف العطن، أحمق الولد، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا وما كذبت فيما قلت آخرا، ولكني رجل إن أرضيت قلت أحسن ما علمت، وإن أغضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والآخرة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من البيان سحرا". قال الميداني: هذا المثل في استحسان النطق وإيراد الحجة البالغة (ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- في خبر آخر: البذاء والبيان شعبتان من النفاق) البذاء كسحاب: الكلام القبيح يكون تارة من القوة الشهوية كالرفث والسخف ومن القوة الغضبية تارة، فمتى كان معه استعانة بالقوة المفكرة كان منه السباب، ومتى كان من مجرد الغضب كان صوتا مجردا لا يفيد نطقا، كما يرى ممن فار غضبه وهاج هيجانه، قاله الراغب .

والبيان هو التعمق في إظهار الفصاحة في المنطق وتكلف البلاغة في أساليب الكلام، قال العراقي: رواه الترمذي، وقال: حسن غريب. والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث أبي أمامة، (وفي حديث آخر) قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله كره لكم البيان كل البيان) أي: لأنه يجر إلى أن يرى الواحد منا لنفسه فضلا على من تقدمه في المقال ومزية عليه في العلم أو الدرجة عند الله بفضل خص به عنهم فيحتقر من تقدمه ولا يعلم المسكين أن قلة كلام السلف إنما كان ورعا وخشية لله تعالى، ولو أرادوا الكلام وإطالته لما عجزوا، وأعني أنهم إذا ذكروا عظمة الله تلاشت عقولهم وأسكرت قلوبهم وقصرت ألسنتهم .

والبيان جمع الفصاحة في اللفظ والبلاغة في المعنى، قال العراقي: رواه ابن السني في كتاب رياضة المتعلمين من حديث أبي أمامة بسند ضعيف. انتهى. قلت: ورواه الطبراني في الكبير كذلك وفي سنده عفير بن معدان، وهو ضعيف. (ولذلك قال الشافعي) -رضي الله عنه-، ولفظ القوت: وقد قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في وصف العدالة قولا حسنا استحسنه العلماء، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول (ما أحد من المسلمين يطيع الله عز وجل فلا يعصيه ولا أحد يعصي الله عز وجل فلا يطيعه) ، ولفظ القوت: حتى لا يعصيه وحتى لا يطيعه في الموضعين (فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل) لفظ القوت: فهو العدل، قال ابن عبد الحكم: وهذا كلام الحذاق (وإذا جعل مثل ذلك حقا في عدل الله) تعالى (فبان تراه عدلا في حق نفسك، ومقتضى أخوتك أولى، وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساويه يجب عليك السكوت بقلبك وذلك بترك إساءة الظن) فيه (فسوء الظن غيبة بالقلب وهو منهي عنه أيضا) لأن لفظ الغيبة شامل للكل (وحقه) عليك (أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكنك أن تحمله على وجه حسن) أي: ما وجدت سبيلا إليه (فأما إن انكشف لك بيقين وشاهدته) بعينك (فلا يمكنك أن لا تعلمه وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن) كما هو الأليق بحال المؤمن (وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفرسا وهو أن يستند إلى علامة) تدل عليه (فإن ذلك يحرك الظن تحركا ضروريا ما يقدر على دفعه وما منشؤه سوء اعتقادك فيه حتى إذا صدر منه) ، وفي نسخة: حتى يصدر منه (فعل له وجهان فيحملك له سوء الاعتقاد على أن تنزله على الوجه الأردأ) أي: الأقبح (من غير علامة) هناك (تخصه بها، وذلك جناية عليه بالباطن، وذلك حرام في حق كل مؤمن؛ إذ قال -صلى الله عليه وسلم-) ولفظ القوت: وكذلك الفرق بين الفراسة وسوء الظن أن الفراسة ما توسمته من أخيك بدليل يظهر لك أو شاهد يبدو منه أو علامة تشهدها فيه فتنتظر من ذلك فيه ولا تنطق به إن كان سوءا ولا تظهره ولا تحكم عليه ولا تقطع به فتأثم، فسوء الظن مما تظننته من سوء رأيك فيه أو لأجل حقد في نفسك عليه أو لسوء نية تكون منك أو خبث حال فيك تعرفها من نفسك، فتحمل حال أخيك عليها وتقيسه بك، فهذا هو سوء الظن الآثم وهو غيبة القلب، وذلك المحرم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (إن الله قد حرم من المؤمن دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء) [ ص: 214 ] قال العراقي: رواه الحاكم في التاريخ من حديث ابن عباس دون قوله: وعرضه، ورجاله ثقات إلا أن أبا علي النيسابوري قال: ليس هذا عندي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو عندي من قول ابن عباس، ولابن ماجه نحوه من حديث ابن عمرو، ومسلم من حديث أبي هريرة: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". (وقال) -صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والظن) أي: احذروا اتباع الظن أو احذروا سوء الظن بمن لم يسئ الظن به، والظن تهمة تقع في القلب بلا دليل، فإنما ينشأ الظن الخبيث من القلب الخبيث، وفيه يقول الشاعر:


إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم وعادى محبيه بقول عدوه
وأصبح في ليل من الشك مظلم



(فإن الظن) أقام المظهر مقام المضمر؛ إذ القياس فإنه لزيادة تمكن المسند إليه في ذكر السامع حثا على الاجتناب (أكذب الحديث) أي: حديث النفس؛ لأنه يكون بإلقاء الشيطان في نفس الإنسان، واستشكل تسمية الظن حديثا، وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع قولا أو غيرة، وما ينشأ عن الظن يوصف الظن به مجازا، قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة. انتهى .

قلت: وكذلك رواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي، وللحديث بقية يأتي ذكرها بعده، وهو قوله: "ولا تجسسوا" إلخ .




الخدمات العلمية