الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس ومن إفراطها تصدر الجربزة والمكر والخداع والدهاء ومن تفريطها يصدر البله والغمارة والحمق والجنون ، وأعني بالغمارة قلة التجربة في الأمور مع سلامة التخيل فقد يكون الإنسان غمرا في شيء دون شيء ، والفرق بين الحمق والجنون أن الأحمق مقصوده صحيح ، ولكن سلوكه الطريق فاسد فلا تكون له روية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض ، وأما المجنون فإنه يحتار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسدا .

وأما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتودد وأمثالها وهي أخلاق محمودة .

وأما إفراطها وهو التهور فيصدر منه الصلف والبذخ .

والاستشاطة والتكبر والعجب وأما تفريطها فيصدر منه المهانة والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس والانقباض عن تناول الحق الواجب .

وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك .

فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل ، والباقي فروعها .

ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه ، فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكا مطاعا يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد ، فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد فينبغي أن يبعد كما أن الأول قريب من الملك المقرب فينبغي أن يقتدي به ويتقرب إليه فإن ، رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق ، كما قال - - وقد أشار القرآن إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين فقال تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين ، وهو ثمرة العقل ، ومنتهى الحكمة ، والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة .

والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال فقد وصف الله تعالى الصحابة فقال أشداء على الكفار رحماء بينهم إشارة إلى أن للشدة موضعا وللرحمة موضعا فليس ، الكمال في الشدة بكل حال ، ولا في الرحمة بكل حال فهذا بيان معنى الخلق وحسنه وقبحه ، وبيان أركانه وثمراته وفروعه .

التالي السابق


وقد أشار المصنف إلى ما تصدر عنه الأخلاق الجميلة من اعتدال هذه الأصول الأربعة فقال: (إذ من اعتدال قوة العقل يصدر حسن التدبير) وهو النظر لعواقب الأمور واشتقاقه يقتضي ذلك لأنه تأمل دبر الأمر ، وعليه حث، حيث قال الشاعر:


ومن ترك العواقب مهملات * فأكثر سعيه أبدا تبار



(وثقابة الرأي) أي: نفوذه في إصابة الصواب (وإصابة الظن) في الأمور بضرب من الإمارة (والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس) ويصدر عنه أيضا جودة الفهم وجودة الخاطر وجودة الخيال والذكاء والفراسة وجودة الحفظ والبلاغة والفصاحة ، وكلها من توابع قلة العقل، والضابط في ذلك أن العقل متى تقوى تولد من حسن نظره جودة الفكر وجودة الذكر ، ومن حسن فعله الفطنة وجزالة الرأي، وتولد من اجتماع أربعتها جودة الفهم وجودة الحفظ (ومن إفراطها تصدر الجربزة) والخبء (والمكر والخداع والدهاء) والنكر وغير ذلك، (ومن تفريطها يصدر البله والغفلة والغمارة والحمق والجنون ، وأعني بالغمارة قلة التجربة في الأمور مع سلامة التخيل) والمتصف به يقال له: الغمر بالضم ، وهو الذي لم يدرك شيئا ولم يجرب ، قال قطرب في مثلثه:


إن دموعي غمر * وليس عندي غمر
أي هذا الغمر * أقصر عن التعتب



* قال شارحه:


بالفتح ماء كثرا بالكسر حقد سترا
بالضم شخص ما درى شيئا ولم يجرب



(وقد يكون الإنسان غمرا في شيء دون شيء ، والفرق بين الحمق والجنون أن الأحمق) وهو الذي فقد جوهر عقله (مقصوده صحيح، ولكن سلوكه للطريق فاسد) لفساد عقله (فلا تكون له روية صحيحة في طريق الوصول إلى الغرض ، وأما المجنون فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل إيثاره واختياره فاسدا) لاستتار عقله (وأما خلق الشجاعة فيصدر عنه الكرم) والسماحة (والنجدة) وهو عدم الجزع من المخاوف (والشهامة) وهو الحرص على ما يوجب الذكر الجميل من العظائم (وكبر النفس) أي: كبر همتها ، والكبير الهمة هو الذي لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه (والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتؤدة وأمثالها وهي محمودة) والضابط فيه أن الشجاعة متى تقوت تولد منها الجود في حال النعمة ، والصبر في حال المحنة ، والصبر يزيل الجزع ويورث الشهامة المختصة بالرجولية كما قال الشاعر:


خلقنا رجالا للتصبر والأسى * وتلك الغواني للبكا والمآتم



[ ص: 331 ] (وأما إفراطها وهو التهور فيصدر منه الصلف) محركة (والبذخ) بالتحريك أيضا كلاهما بمعنى التكبر (والاستشاطة) وهي السرعة إلى الغضب (والتكبر والعجب) بالضم: رؤية النفس بفضيلة ، وكلها أخلاق مذمومة .

(وأما تفريطها فتصدر منه المهانة والذلة والجزع) محركة، هو حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه (والخساسة وصغر النفس) أي: ذلها ، أي: صغر همتها (والانقباض عن تناول الحق الواجب) وهو الحياء المذموم ، وهذه كلها أخلاق مذمومة .

(وأما خلق العفة) المتعلقة بضبط القلب عن التطلع للشهوات البدنية (فيصدر عنها السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع والطلاقة والمساعدة والظرف وقلة الطمع) وغنى النفس ، وهذه محاسن الفضائل ، وكلها محمودة ، والعفة هي المسهلة إليها ، والضابط فيه أن العفة إذا تقوت تولد منها القناعة ، والقناعة تمنع من الطمع في مال الغير ، فتولد الأمان .

(وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيصدر منه الحرص والشره والوقاحة) وهي قلة الحياء وصلابة الوجه (والخبث والتبذير والتقطير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء) لأجل غناهم (واستحقار الفقراء) لأجل فقرهم (وغير ذلك) ، والضابط الكلي في ذلك أن تمام العفة يتعلق بحفظ الجوارح ، فمن عدم عفة القلب يكون منه التمني والظن اللذان هما رأس كل رذيلة ؛ لأن من تمنى ما في يد غيره حسده ، وأدى حسده إلى المعاداة ، وإذا عاداه نازعه بما قبله ، ومن أساء الظن عادى وبغى ؛ ولذلك نهى الله تعالى عنهما جميعا ، فقال: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم فأمر فيهما بقطع شجرتين يتفرع عنهما جل الرذائل والمآثم ، ولا يكون الإنسان تام العفة حتى يكون عفيف اليد واللسان والسمع والبصر ، فمن عدمها في اللسان يصدر السخرية والتجسس والغيبة والهمز والنميمة والتنابز بالألقاب ، ومن عدمها في السمع يصدر الإصغاء إلى المسموعات القبيحة وعماد عفة الجوارح كلها أن لا يطلقها صاحبها في شيء مما يختص كل واحد منها إلا فيما سوغ فيه العقل والشرع دون الشهوة والهوى ، ومن يذكر العدالة وهي من الأمهات، وقد تقدم أنه ليست ثمرة زيادة ونقصان ، ولكنها إذا تقوت تولد الرحمة ، والرحمة من الإشفاق ، ومن أن يفوت ذا حق حقه ، فهي تولد الحلم ، والحلم يقتضي العفو .

(فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة) النفسية (وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل ، والباقي) مما يذكر منها (فروعها) التي تتفرع عنها ، وتتفرع أيضا من الفروع فروع أخرى ، وكلها داخلة تحت المحمدة .

(ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا) سيدنا (رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) فقد كان -صلى الله عليه وسلم- أحكم الناس وأعقلهم وأشجعهم وأعفهم وأعدلهم ، كما ثبت ذلك كله في الأخبار الصحيحة الماضية في كتاب أخلاق النبوة (والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه ، فكل من قرب في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) ؛ لأن القريب من القريب قريب ، (وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكا مطاعا يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال) والأقوال والأحوال (ومن انفك عن جملة هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين العباد والبلاد ، فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد) عن الحضرة الإلهية ، (فينبغي أن يبعد) من وصفه هذا ، (كما أن الأول قرب من الملك المقرب) والقرب من الملك هو الاتصاف بأوصافه الخاصة به ، (فينبغي أن يقتدي به ويتقرب إليه ، ولم يبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ليتمم محاسن الأخلاق ، كما قال - صلى الله عليه وسلم-) فيما رواه مالك في الموطأ بلاغا: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وقد روي موصولا من حديث أبي هريرة بلفظ: " صالح الأخلاق " رواه البخاري في الأدب والحاكم والبيهقي ، وعند الطبراني في الأوسط من حديث جابر: " إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأعمال " ، وقد تقدم الكلام عليه في آداب الصحبة .

(وقد أشار القرآن إلى هذه

[ ص: 332 ] الأخلاق في) جملة (أوصاف المؤمنين فقال تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون فالإيمان بالله ورسوله من غير ارتياب) ولا تلعثم (هو قوة اليقين ، وهو ثمرة العقل ، ومنتهى الحكمة ، والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة ، والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال) فقد جمعت هذه الآية أمهات الأخلاق الأربعة ، (وقد وصف الله) عز وجل (الصحابة) رضوان الله عليهم (فقال) : والذين معه ( أشداء على الكفار رحماء بينهم إشارة إلى أن للشدة موضعا وللرحمة موضعا ، وليس الكمال في الشدة بكل حال ، ولا في الرحمة بكل حال) بل في استعمال كل وصف بما يليق به من الحال (فهذا بيان معنى الخلق وحسنه وقبحه ، وبيان أركانه وثمراته وفروعه) المتشعبة منه والله الموفق .




الخدمات العلمية