الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وحد المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض ، فكل كلام سمعته ، فإن كان حقا فصدق به ، وإن كان باطلا أو كذبا ولم يكن متعلقا بأمور الدين فاسكت عنه .

والطعن في كلام الغير تارة يكون في لفظه ، بإظهار خلل فيه من جهة النحو أو من جهة اللغة أو من جهة العربية ، أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير ، وذلك يكون تارة من قصور المعرفة وتارة يكون بطغيان اللسان وكيفما كان فلا وجه لإظهار خلله .

وأما في المعنى فبأن يقول : ليس كما تقول ، وقد أخطأت فيه من وجه كذا وكذا .

وأما في قصده فمثل أن يقول : هذا الكلام حق ، ولكن ليس قصدك منه الحق وإنما ، أنت فيه صاحب غرض ، وما يجري مجراه وهذا الجنس إن جرى في مسألة علمية ربما خص باسم الجدل وهو أيضا مذموم ، بل الواجب السكوت أو السؤال في معرض الاستفادة ، لا على وجه العناد والنكارة ، أو التلطف في التعريف ، لا في معرض الطعن .

وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ، ونسبته إلى القصور والجهل فيه ، وآية ذلك أن يكون تنبيهه للحق من جهة أخرى مكروها عند المجادل يجب ، أن يكون هو المظهر له خطأ ؛ ليبين به فضل نفسه ، ونقص صاحبه ، ولا نجاة من هذا إلا بالسكوت عن كل ما لا يأثم به لو سكت عنه .

وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل والتهجم على الغير بإظهار نقصه ، وهما شهوتان باطنتان .

للنفس قويتان لها .

وأما ، إظهار الفضل فهو من قبل تزكية النفس ، وهي من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلو والكبرياء ، وهي من صفات الربوبية ، وأما تنقيض الآخر فهو من مقتضى طبع السبعية ، فإنه يقتضي أن يمزق غيره ويقصمه ويصدمه ويؤذيه ، وهاتان صفتان مذمومتان مهلكتان ، وإنما قوتهما المراء والجدال ، فالمواظب على المراء والجدال مقو لهذه الصفات المهلكة ، وهذا مجاوز حد الكراهة ، بل هو معصية ، مهما حصل فيه إيذاء الغير .

ولا ، تنفك المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب وحمل المعترض عليه على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حق أو باطل ، ويقدح في قائله بكل ما يتصور له ، فيثور الشجار بين المتماريين ، كما يثور الهراش بين الكلبين ، يقصد كل واحد منهما أن يعض صاحبه بما هو أعظم نكاية وأقوى في إفحامه وإلجامه .

، وأما علاجه فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله والسبعية الباعث له على تنقيص غيره ، كما سيأتي ذلك في كتاب ذم الكبر والعجب ، وكتاب ذم الغضب ، فإن علاج كل علة بإماطة سببها ، وسبب المراء والجدال ما ذكرناه ، ثم المواظبة عليه تجعله عادة وطبعا حتى يتمكن من النفس ويعسر الصبر عنه .

روي أن أبا حنيفة رحمة الله عليه قال لداود الطائي لم آثرت الانزواء ؟ قال لأجاهد : نفسي بترك الجدال فقال : احضر المجالس واستمع ما يقال ، ولا تتكلم . قال : ففعلت ذلك ، فما رأيت مجاهدة أشد علي منها وهو كما قال ; لأن من سمع الخطأ من غيره ، وهو قادر على كشفه يعسر عليه الصبر عند ذلك جدا ولذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : " من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة " لشدة ذلك على النفس ، وأكثر ما يغلب ذلك في المذاهب والعقائد .

فإن المراء طبع ، فإذا ظن أن له عليه ثوابا اشتد عليه حرصه وتعاون الطبع والشرع عليه ، وذلك خطأ محض ، بل ينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة ، وإذا رأى مبتدعا تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال ، فإن الجدال يخيل إليه أنها حيلة منه في التلبيس وأن ، ذلك صنعة يقدر المجادلون من أهل مذهبه على أمثالها لو أرادوا ، فتستمر البدعة في قلبه بالجدل ، وتتأكد ، فإذا عرف أن النصح لا ينفع اشتغل بنفسه وتركه ، وقال صلى الله عليه وسلم : رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه وقال هشام بن عروة كان عليه السلام يردد قوله هذا سبع مرات وكل من اعتاد المجادلة مدة وأثنى الناس عليه ووجد لنفسه بسببه عزا وقبولا قويت فيه هذه المهلكات ، ولا يستطيع عنها نزوعا إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر ، والرياء ، وحب الجاه ، والتعزز بالفضل ، وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها ، فكيف بمجموعها .

التالي السابق


( وحد المراء كل اعتراض في كلام الغير بإظهار خلل فيه) ، وركاكة ونقص، (إما في اللفظ) المسوق، (وإما في المعنى) المفهوم من ذلك اللفظ، (وإما في قصد المتكلم) فيقول: اللفظ والمعنى صحيحان، ولكن قصدك غير صحيح. (وترك المراء بترك [ ص: 472 ] الإنكار والاعتراض، فكل كلام سمعته، فإن كان حقا فصدق به، وإن كان باطلا أو كذبا ولم يكن متعلقا بأمور الدين فاسكت عنه) ولا تخض فيه، (والطعن في كلام الغير تارة يكون في لفظه، بإظهار خلل فيه من جهة النحو) بأن يكون التركيب مخالفا لأقوال النحاة، (أو من جهة اللغة) بأن يكون اللفظ المسوق غير مستعمل عند أهلها، (أو من جهة العربية، أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير، وذلك يكون تارة من قصور المعرفة) ، أي: تكون معرفة صاحب ذلك الكلام قاصرة، (وتارة يكون بطغيان اللسان) ، وتارة يكون بطغيان القلم، وكل ذلك من عوائد البشر، (وكيفما كان فلا وجه لإظهار خلله، وأما في المعنى فبأن يقول: ليس كما تقول، وقد أخطأت فيه من وجه كذا وكذا، وأما في قصده فمثل أن يقول: هذا الكلام حق، ولكن ليس في قصدك منه الحق، إنما أنت فيه صاحب غرض، وما يجري مجراه) مع المتناظرين، (وهذا الجنس إن جرى في مسألة علمية ربما خص باسم الجدل) ، وقد صنفت فيه كتب، (وهو أيضا مذموم، بل الواجب السكوت أو السؤال في معرض الاستفادة، لا على صفة العناد والنكارة، أو التلطف في التعريض، لا في معرض الطعن، وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير) وإسكاته، (وتعجيزه وتنقيصه بقدح في كلامه، ونسبته إلى القصور والجهل فيه، وآية ذلك أن يكون تنبيهه من جهة أخرى مكروها عند المجادل، بحيث أن يكون هو المظهر له خطأه؛ ليبين به فضل نفسه، ونقص صاحبه، ولا نجاة من هذا إلا بالسكوت عن كل ما لا يأثم به لو سكت عنه، وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل) لنفسه، (والتهجم على الغير بإظهار نقصه، وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها، أما إظهار الفضل فهو من قبيل تزكية النفس، وهي من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلو والكبرياء، وهي من صفات الربوبية، وأما تنقيص الآخر فهو من مقتضى) الصفة (السبعية، فإنه يقتضي أن يمزق غيره ويقصمه ويصدمه ويؤذيه، وهاتان صفتان مذمومتان مهلكتان، وإنما قوتهما المراء والجدال، فالمواظب على المراء والجدال مقو لهذه الصفات المهلكة، وهذا مجاوز حد الكراهة، بل هو معصية، مهما حصل فيه إيذاء للغير، فلا تنفك المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب) وإثارته، (وحمل المعترض عليه على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حق أو باطل، ويقدح في قائله بكل ما يتصور له، فيثور الشجار) أي: المخاصمة (بين المتماريين، كما يثور الهراش) أي: المهارشة (بين الكلبين، يقصد كل واحد منهما أن يعض صاحبه بما هو أعظم نكاية وأقوى في إفحامه، وأما علاجه فهو أن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله) ، وترفعه على الغير، (والسبعية الباعثة على تنقيص غيره، كما سيأتي ذلك في كتاب ذم الكبر والعجب، وكتاب الغضب، فإن علاج كل علة بإماطة سببها، وسبب المراء ما ذكرناه، ثم المواظبة عليه تجعله عادة) مألوفة (وطبعا) ملازما (حتى يتمكن من النفس ويعسر الصبر عنه. روي أن أبا حنيفة ) الإمام (رحمه الله تعالى قال لداود بن نصير الطائي ) رحمه الله تعالى، وكان يحضر [ ص: 473 ] حلقته ثم ترك: (لم آثرت الانزواء؟ قال: لأجادل نفسي) بترك (الجدال. قال: احضر المجالس واستمع ما يقال، ولا تتكلم. قال: ففعلت ذلك، فما رأيت مجاهدة أشد علي منه)أخرجه القشيري في الرسالة .

وأخرج أبو نعيم في الحلية من طريق سفيان بن عيينة قال: كان داود يجالس أبا حنيفة ، فحدث يوما إنسانا، فقال له أبو حنيفة : يا أبا سليمان ، طال يدك، وطال لسانك. قال: وكان يختلف ولا يتكلم. ومن طريق أحمد بن أبي الحواري ، حدثني بعض أصحابنا أن داود الطائي كان يجالس أبا حنيفة ، فقال له: يا أبا سليمان ، أما الأداة فقد أحكمناها. فقال له داود : فأي شيء بقي؟ فقال: بقي العمل به. قال: فنازعتني نفسي إلى العزلة والوحدة، فقلت لها: حتى تجلسي معهم، فلا تجيبي في مسألة. قال: فكان يجالسهم سنة قبل أن يعتزل، قال: فكانت المسألة تجيء وأنا أشد شهوة للجواب عنها من العطشان إلى الماء، فلا أجيبهم فيها، فأعتزلهم بعد، ومن طريق محمد بن سليمان المصيصي لوين ، قال: أراد داود الطائي أن يجرب نفسه هل تقوى على العزلة، فقعد في مجلس أبي حنيفة سنة، فلم يتكلم، فاعتزل الناس (وهو كما قال; لأن من سمع الخطأ من غيره، وهو قادر على كشفه تعسر عليه الصبر عند ذلك جدا، قال صلى الله عليه وسلم: "من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة" ) ، تقدم في كتاب العلم، (لشدة ذلك على النفس، وأكثر ما يغلب ذلك في المذاهب والعقائد، فإن المراء طبع، فإذا ظن أن له ثوابا اشتد عليه حرصه وتعاون الطبع والشرع، وذلك خطأ محض، بل ينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة، وإذا رأى مبتدعا تلطف في نصحه في خلوة) عن الناس، (لا بطريق الجدال، فإن الجدال يخيل إليه أنها حيلة منه في التلبيس، وإن ذلك صنعة يقدر المجادلون من أهل مذهبه على أمثالها لو أرادوا، فتستمر البدعة في قلبه بالجدل، وتتأكد، فإذا عرف أن النصح لا ينفع اشتغل بنفسه وتركه، وقال صلى الله عليه وسلم: رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه ) ، قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا بإسناد ضعيف من حديث هشام بن عروة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ورواه الديلمي في مسند الفردوس من رواية هشام ، عن عائشة بلفظ: "رحم الله امرأ كف عن أعراض المسلمين" ، وهو منقطع وضعيف جدا. اهـ .

قلت: وزاد الديلمي في الحديث: "ولا تحل شفاعتي لطعان ولا للعان" . وقال ابن أبي الدنيا في الصمت: حدثنا علي بن أبي جعفر ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني رشدين عن العمري ، عن هشام بن عروة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره، وزاد فقال: (قال هشام بن عروة ) وهو راوي هذا الحديث، (كان) صلى الله عليه وسلم (يردد قوله هذا سبع مرات) تأكيدا للسامعين، (وكل من اعتاد المجادلة مدة وأثنى الناس عليه ووجد لنفسه بسببه عزا وقبولا قويت فيه هذه المهلكات، ولا يستطيع عنها نزوعا) ، أي: خلاصا وخروجا، (إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر، والرياء، وحب الجاه، والتعزز بالفضل، وآحاد هذه الصفات) إذا وجدت (يشق مجاهدتها، فكيف بمجموعها) ، فهو أشق وأشق، والله الموفق .




الخدمات العلمية