الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولعل حد البخل هو إمساك المال عن غرض ، ذلك الغرض هو أهم من حفظ المال فإن صيانة الدين أهم من حفظ المال فمانع الزكاة والنفقة بخيل .

وصيانة المروءة أهم من حفظ المال والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحب المال ، فهو بخيل .

ثم تبقى درجة أخرى وهو ، أن يكون الرجل ممن يؤدي الواجب ويحفظ المروءة ، ولكن معه مال كثير قد جمعه ليس ، يصرفه إلى الصدقات ، وإلى المحتاجين ، فقد تقابل غرض حفظ المال ليكون له عدة على نوائب الزمان ، وغرض الثواب ليكون رافعا لدرجاته في الآخرة وإمساك ، المال عن هذا الغرض بخل عند الأكياس ، وليس ببخل عند عوام الخلق وذلك لأن نظر العوام مقصور على حظوظ الدنيا ، فيرون إمساكه لدفع نوائب الزمان مهما وربما يظهر عند العوام أيضا سمة البخل عليه إن كان في جواره محتاج ، فمنعه ، وقال : قد أديت الزكاة الواجبة وليس علي غيرها .

ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقدار ماله ، وباختلاف شدة حاجة المحتاج وصلاح دينه ، واستحقاقه .

فمن أدى واجب الشرع ، وواجب المروءة اللائقة به ، فقد تبرأ من البخل .

نعم ، لا يتصف بصفة الجود والسخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات فإذا اتسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع ، ولا تتوجه إليه الملامة في العادة ، فهو جواد بقدر ما تتسع له نفسه من قليل ، أو كثير .

ودرجات ذلك لا تحصر ، وبعض الناس أجود من بعض فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة والمروءة هو الجود ، ولكن بشرط أن يكون عن طيب نفس ولا يكون طمع ، ورجاء خدمة ، أو مكافأة ، أو شكر ، أو ثناء ، فإن من طمع في الشكر والثناء فهو بياع ، وليس بجواد ، فإنه يشتري المدح بماله ، والمدح لذيذ وهو مقصود في نفسه والجود هو بذل الشيء من غير عوض .

هذا هو الحقيقة ولا يتصور ذلك إلا من الله تعالى أما الآدمي فاسم الجود عليه مجاز إذ لا يبذل الشيء إلا لغرض ولكنه إذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة ، أو اكتساب فضيلة الجود ، وتطهير النفس عن رذالة البخل فيسمى جوادا ، فإن كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلا ، أو من ملامة الخلق ، أو ما يتوقعه من نفع يناله من المنعم عليه ، فكل ذلك ليس من الجود ; لأنه مضطر إليه بهذه البواعث ، وهي أعواض معجلة له عليه ، فهو معتاض لا جواد كما روي عن بعض المتعبدات أنها وقفت على حبان بن هلال وهو جالس مع أصحابه ، فقالت : هل فيكم من أسأله عن مسألة ? فقالوا لها : سلي عما شئت ، وأشاروا إلى حبان بن هلال ، فقالت : ما السخاء عندكم ? قالوا : العطاء ، والبذل ، والإيثار . قالت : هذا السخاء في الدنيا ، فما السخاء في الدين ? قالوا أن : نعبد الله سبحانه سخية بها أنفسنا غير مكرهة قالت : فتريدون على ذلك أجرا ? قالوا : نعم . قالت : ولم ? قالوا : لأن الله تعالى وعدنا بالحسنة عشر أمثالها . قالت : سبحان الله ! فإذا أعطيتم واحدة ، وأخذتم عشرة فبأي شيء تسخيتم عليه ? قالوا لها : فما السخاء عندك يرحمك الله ? قالت : السخاء عندي أن تعبدوا الله متنعمين متلذذين بطاعته ، غير كارهين ، لا تريدون على ذلك أجرا حتى يكون مولاكم يفعل بكم ما يشاء ; ألا تستحيون من الله أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنكم تريدون شيئا بشيء ? إن هذا في الدنيا لقبيح وقالت بعض المتعبدات أتحسبون : أن السخاء في الدرهم والدينار فقط ? قيل ففيم ? قالت : السخاء عندي في المهج .

وقال المحاسبي السخاء في الدين أن تسخو بنفسك تتلفها لله عز وجل ، ويسخو قلبك ببذل مهجتك ، وإهراق دمك لله تعالى بسماحة من غير إكراه ولا ، تريد بذلك ثوابا عاجلا ، ولا آجلا ، وإن كنت غير مستغن عن الثواب ، ولكن يغلب على ظنك حسن كمال السخاء بترك الاختيار على الله حتى يكون مولاك هو الذي يفعل لك ما لا تحسن أن تختار لنفسك .

التالي السابق


(ولعل حد البخل هو إمساك المال عن غرض، ذلك الغرض هو أهم من حفظ المال) ، وإمساكه (فإن صيانة الدين أهم من حفظ المال) لشرف الدين، وخساسة المال (فمانع الزكاة) ، ومانع (النفقة) ممن تجب (بخيل، وصيانة المروءة أهم من حفظ المال) ، والمراد بالمروءة هنا الإنسانية، وهي الصفة التي بها يصير الإنسان إنسانا كاملا (والمضايقة في الدقائق) ، أي: في الأمور الدقيقة الحقيرة (مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحب المال، فهو بخيل، ثم تبقى درجة أخرى، وهي أن يكون الرجل مما يؤدي الواجب) المفروض عليه (ويحفظ المروءة، ولكن معه مال كثير قد جمعه، وليس يصرفه إلى الصدقات، وإلى المحتاجين، فقد تقابل غرض حفظ المال ليكون له عدة على نوائب الزمان، وغرض الثواب ليكون رافعا لدرجاته في الآخرة، [ ص: 206 ] فإمساك المال عن هذا الغرض بخل عند الأكياس، وليس ببخل عند عوام الخلق) .

ومن ذلك ما قرأت في كتاب صفوة التاريخ، قال الربيع: قال المنصور لعمومته: الناس يبخلوني وما أنا ببخيل، ولكن رأيت الناس عبيد الدينار والدرهم، فأردت أن أحظرها عليهم، فأستذلهم بذلك، وقد وصل عمومته في وقت واحد بعشرة ألف ألف درهم، وامتدحه ابن هرمة فاستجاد قصيدته، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم قال له: احتفظ بها، فإنك أول من أخذها مني، وآخر من يأخذها، فقال له ابن هرمة: أنا آتيك بها يا أمير المؤمنين، يوم القيامة بخاتم صاحب بيت المال، ووصل شبيب بن شبيبة بكلام تكلم به بين يديه فأعجبه بعشرين ألف درهم .

(وذلك لأن نظر العوام مقصور على حدود الدنيا، فيرون إمساكه لدفع نوائب الزمان مهما) ، ويقولون: الدراهم البيض تنفع للأيام السود، (وربما يظهر عند العوام أيضا سمة البخل عليه إن كان في جواره محتاج، فمنعه، وقال: قد أديت الزكاة الواجبة) علي (وليس علي غيرها) ، فلا أعطي ما ليس علي .

(ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقدار حاله، وباختلاف شدة حاجة المحتاج، وصلاحه، ودينه، واستحقاقه، فمن أدى واجب الشرع، وواجب المروءة اللائقة به، فقد تبرأ من البخل) ، وتنصل من تبعيته .

(نعم، لا يتصف بصفة الجود والسخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك) من فاضل ماله (لطلب الفضيلة) عند الله (ونيل الدرجات) العالية (فإذا اتسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع، ولا تتوجه إليه الملامة في العادة، فهو جواد بقدر ما تتسع له نفسه من قليل، أو كثير، ودرجات ذلك لا تنحصر، وبعض الناس أجود من بعض) ، وقد صح أن النبي - صلى عليه وسلم - كان أجود بالخير من الريح المرسلة، (واصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة والمروءة هو الجود، ولكن بشرط أن يكون عن طيبة نفس) ، وانشراح صدر، (ولا يكون عن طمع، ورجاء خدمة، أو مكافأة، أو شكر، أو ثناء، فإن من طمع في الشكر والثناء فهو بياع، وليس بجواد، فإنه يشتري المدح بماله، والمدح لذيذ) لذة معنوية (وهو مقصود في نفسه) ، ومنه قول بشار:


ليس يعطيك للرجاء وللخو ف ولكن يلذ طعم العطاء

(والجود هو بذل الشيء من غير غرض) دنيوي أو أخروي، (هذا هو الحقيقة) اللغوية، (ولا يتصور ذلك إلا من الله تعالى) ، فهو الجواد على الحقيقة، وأفراد الجود العفو عند القدرة، والوفاء عند الوعد، والزيادة على العطاء منتهى الرجاء، وعدم المبالاة بكم أعطى، ولا لمن أعطى، وعدم الاستقصاء في العتاب عند الجفاء، وإغناؤه عن الوسائل والشفعاء، وعدم إضاعة من به التجأ، فهذه الأفراد متى اجتمعت فيه، فذلك الجواد المطلق .

(فأما الآدمي فاسم الجود عليه مجاز) عن تلك الحقيقة؛ (إذ لا يبذل الشيء إلا لغرض) من أغراضه (ولكنه إذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة، أو اكتساب فضيلة الجود، وتطهير النفس عن رذالة البخل فيسمى جوادا، فإن كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلا، أو من ملامة الخلق، أو ما يتوقعه من نفع يناله من المنعم عليه، فكل ذلك ليس بالجود; لأنه مضطر إليه بهذه البواعث، وهي أعواض معجلة له عليه، فهو معتاض لا جواد) ، ومنه قول أبي نواس:


فتى يشتري حسن الثناء بماله ويعلم أن الدائرات تدور

وأحسن منه قول ابن الرومي:


وتاجر البر لا يزال له ربحان في كل متجر تجره
أجر وحمد وإنما طلب الأج ر ولكن كلاهما اعتوره

(كما روي عن بعض المتعبدات أنها وقفت على) أبي حبيب (حبان بن هلال) الباهلي، ويقال: الكناني البصري، قال ابن معين، والترمذي، والنسائي: ثقة ثبت حجة، مات بالبصرة في شهر رمضان سنة 312، روى له الجماعة (وهو جالس مع أصحابه، فقالت: هل فيكم من أسأله عن مسألة؟ فقالوا لها: سلي عما شئت، وأشاروا إلى حبان بن [ ص: 207 ] هلال، فقالت: ما السخاء عندكم؟ قالوا: العطاء، والبذل، والإيثار .

قالت: هذا السخاء في الدنيا، فما السخاء في الدين؟ قالوا: نعبد الله سخية بها أنفسنا طيبة غير مكرهة) ، وفي بعض النسخ: غير كارهة، وصوبه بعضهم (قالت: فتريدون على ذلك أجرا؟ قالوا: نعم .

قالت: ولم؟ قالوا: لأن الله وعدنا بالحسنة عشرا .

قالت: سبحان الله! فإذا أعطيتم واحدة، وأخذتم عشرا فبأي شيء تسخيتم عليه؟ قالوا لها: فما السخاء عندك يرحمك الله؟ قالت: السخاء عندي أن تعبدوا الله متنعمين متلذذين بطاعته، غير كارهين، لا تريدون على ذلك أجرا) ، ولا عوضا (حتى يكون مولاكم يفعل بكم ما يشاء; ألا تستحيون من الله أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنكم تريدون شيئا بشيء؟ إن هذا في الدنيا لقبيح) فدل كلامها على أن السخاء والجود على الحقيقة ما خلا عن الأغراض، والأعواض .

(وقالت بعض المتعبدات: تحسبون أن السخاء في الدرهم والدينار فقط؟ قيل) لها: (ففيم؟ قالت: السخاء عندي في المهج) ، أي: في بذلها في سبيل الله، وهذا سخاء الخواص، كما أن الأول سخاء العوام .

(وقال الحرث) بن أسد (المحاسبي رحمه الله) في كتابه الرعاية: (السخاء في الدين أن تسخو نفسك بتلفها لله - عز وجل -، ويسخو قلبك ببذل مهجتك، وإهراق دمك لله - عز وجل - بسماحة من غير إكراه، لا تريد بذلك ثوابا عاجلا، ولا آجلا، وإن كنت غير مستغن عن الثواب، ولكن يغلب على قلبك حسن كمال السخاء بترك الاختيار على الله تعالى حتى يكون مولاك هو الذي يفعل بك ما لا تحسن اختياره لنفسك) .

وهو أيضا يشير إلى سخاء الخواص .

ومنهم من قال: سخاء العوام سخاء النفس ببذل الموجود، وسخاء الخواص سخاء النفس عن كل موجود ومفقود; غنى بالواحد المعبود، وقال بعض: السخاء أتم وأكمل من الجود .

وضد الجود البخل، وضد السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب عادة بخلاف ذينك، فإنهما من ضرورات الغريزة، وكل سخي جواد، ولا عكس، والجود يتطرقه الرياء، ويمكن تطبعه بخلاف السخاء كما في العوارف، وقال الراغب: السخاء هيئة في الإنسان داعية إلى بذل المقتنيات، حصل معه البذل أم لا، ويقابله الشح، والجود بذل المقتنى، ويقابله البخل .

هذا هو الأصل، وقد يستعمل كل منهما محل الآخر .



ومن شرف السخاء والجود أن الله قرن اسمه بالإيمان، ووصف أهله بالفلاح، والفلاح أجمع لسعادة الدارين، وحق للجود أن يقترن بالإيمان، فلا شيء أخص منه به، ولا أشد مجانسة له، فمن صفة المؤمن انشراح الصدر، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ، وهما من صفات الجواد والبخيل; لأن الجواد يوصف بسعة الصدر، والبخيل بضيقه، ومن أحسن ما قيل فيه:


تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وقال المتنبي:


تعود بسط الكف حتى لو أنه أراد انقباضا لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله






الخدمات العلمية