الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان غاية الرياضة في خلق التواضع .

اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق ، له طرفان وواسطة ، فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبرا وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسسا ومذلة والوسط يسمى تواضعا .

والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس ، فإن كلا طرفي الأمور ذميم ، وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها .

فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ، ومن يتأخر عنهم فهو متواضع أي : وضع شيئا من قدره الذي يستحقه .

والعالم إذا دخل عليه إسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ، ثم تقدم وسوى له نعله وعدا ، إلى باب الدار خلفه فقد تخاسس وتذلل وهذا ، أيضا غير محمود ، بل المحمود عند الله العدل ، وهو أن يعطي كل ذي حق حقه ، فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من درجته . فأما تواضعه للسوقي : فبالقيام ، والبشر في الكلام والرفق في السؤال ، وإجابة دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك ، وأن لا يرى نفسه خيرا منه ، بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره ، فلا يحتقره ، ولا يستصغره ، وهو لا يعرف خاتمة أمره .

فإذن : سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم ؛ حتى يخف عليه التواضع المحمود في محاسن العادات ؛ ليزول به الكبر عنه ، فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق التواضع ، وإن كان يثقل عليه وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع ، بل الخلق ما يصدر عنه الفعل بسهولة من غير ثقل ومن غير روية فإن خف ذلك ، وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره حتى أحب التملق والتخاسس فقد خرج إلى طرف النقصان ، فليرفع نفسه ؛ إذ ليس للمؤمن أن تذل نفسه إلى أن يعود إلى الوسط الذي هو الصراط المستقيم وذلك غامض في هذا الخلق وفي سائر الأخلاق .

والميل عن الوسط إلى طرف النقصان وهو التملق أهون من الميل إلى طرف الزيادة بالتكبر ، كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف البخل فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان وأحدهما أفحش وكذلك نهاية التكبر ونهاية التنقص والتذلل مذمومان وأحدهما أقبح من الآخر .

والمحمود المطلق هو العدل ووضع الأمور مواضعها كما يجب وعلى ما يجب كما يعرف ذلك بالشرع والعادة ولنقتصر على هذا القدر من : بيان أخلاق الكبر والتواضع .

التالي السابق


(بيان غاية الرياضة في خلق التواضع)

(اعلم) هداك الله تعالى (أن هذا الخلق كسائر الأخلاق، له طرفان وواسطة، فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبرا) وهو الإفراط (وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسسا ومذلة) وهو تفاعل من الخسة، وهذا هو التفريط (والوسط يسمى تواضعا، والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس، فإن كلا طرفي) قصد (الأمور ذميم، وأحب الأمور إلى الله أوساطها) .

وروى صاحب الحلية عن وهب بن منبه قال: "إن لكل شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان، فعليكم بالأوساط من الأشياء" .

(فمن يتقدم على أمثاله) وفي نسخة: أقرانه (فهو متكبر، ومن يتأخر عنهم فهو متواضع) بأن يجلس بجنبهم (أي: وضع شيئا من قدره الذي يستحقه، والعالم إذا دخل عليه إسكاف) أو من في معناه من السوقية (فتنحى له عن مجلسه أو أجلسه فيه، ثم تقدم وسوى له نعله، وغدا إلى باب الدار خلفه) يودعه (فقد تخاسس وتذلل، وهو أيضا غير محمود، بل المحمود عند الله العدل، وهو أن يعطي كل ذي حق حقه، فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأمثاله) وأقرانه (ولمن يقرب من درجته .

فأما تواضعه للسوقي: فبالقيام، والبشر في الكلام) والبشاشة في الوجه (والرفق في السؤال، وإجابة دعوته) إذا دعاه إلى منزله (والسعي في حاجته) حتى يتمها (وأمثال ذلك، وأن لا يرى نفسه خيرا منه، بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره، فلا يحتقره، ولا يستصغره، وهو لا يعرف خاتمة أمره) وخاتمته بماذا يختم لكل منهما .

(فإذا: سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم؛ حتى يخف عليه التواضع المحمود في محاسن العادات؛ ليزول به الكبر عنه، فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق التواضع، وإن كان يثقل عليه وهو) مع هذا (يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع، بل الخلق) كما تقدم في رياضة النفس (ما يصدر عنه الفعل بسهولة) ويسر (من [ ص: 407 ] غير ثقل ومن غير روية) أي: ترو في أمر بأن يقدم رجلا ويؤخر الأخرى .

(فإن خف ذلك، وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره حتى أحب التملق والتخاسس فقد خرج إلى طرف النقصان، فليرفع نفسه؛ إذ ليس للمؤمن أن يذل نفسه) كما ورد في الخبر، وتقدم في كتاب العلم (إلى أن يعود إلى) حد (الوسط الذي هو الصراط المستقيم) السالم عن الميل (وذلك غامض في هذا الخلق) بل (وفي سائر الأخلاق، والميل عن الوسط إلى طرف النقصان وهو التملق) والتذلل (أهون من الميل إلى طرف الزيادة بالتكبر، كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف البخل) لما فيه من البذل للغير وإن كان في غير موضعه، بخلاف طرف البخل .

(فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان) وقد جاء في كل منهما من الآيات والأخبار بما يشهد على الذم، وأحدهما أفحش من الآخر، وكذلك نهاية التكبر ونهاية التنقص والتذلل مذمومان، وأحدهما أقبح من الآخر، والمحمود المطلق هو العدل، ووضع الأمور مواضعها كما يجب، وعلى ما يجب، كما تعرف ذلك بالشرع والعادة، فما اقتضته القواعد الشرعية، واستحسنته العادة العرفية فليقدم عليه، وما لا فلا .

(ولنقتصر على هذا القدر من بيان خلق الكبر والتواضع) وبه يتم الشطر الأول من هذا الكتاب. والله الموفق .




الخدمات العلمية