الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والأخبار الواردة في أسباب الرجاء أكثر من أن تحصى

وأما الآثار فقد قال علي كرم الله وجهه : من أذنب ذنبا فستره الله عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يكشف ستره في الآخرة ، ومن أذنب ذنبا فعوقب عليه في الدنيا فالله تعالى أعدل من أن يثني عقوبته على عبده في الآخرة وقال الثوري ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبوي لأني أعلم أن الله تعالى أرحم بي منهما

وقال بعض السلف : المؤمن إذا عصى الله تعالى ستره عن أبصار الملائكة كيلا تراه فتشهد عليه

وكتب محمد بن مصعب إلى أسود بن سالم بخطه إن العبد إذا كان مسرفا على نفسه فرفع يديه يدعو : ويقول يا رب حجبت الملائكة صوته وكذا الثانية والثالثة حتى إذا قال الرابعة يا ربي قال الله تعالى : حتى متى تحجبون عني صوت عبدي ؟! قد علم عبدي أنه ليس له رب يغفر له الذنوب غيري ، أشهدكم إني قد غفرت له وقال إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه خلا لي الطواف ليلة وكانت ليلة مطيرة مظلمة فوقفت في الملتزم عند الباب ، فقلت : يا رب اعصمني حتى لا أعصيك أبدا ، فهتف بي هاتف من البيت : يا إبراهيم ، أنت تسألني العصمة ، وكل عبادي المؤمنين يطلبون مني ذلك ، فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل ولمن أغفر ؟! : وكان الحسن يقول : لو لم يذنب المؤمن لكان يطير في ملكوت السماوات ، ولكن الله تعالى قمعه بالذنوب وقال الجنيد رحمه الله تعالى إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين بالمحسنين

ولقي مالك بن دينار أبانا فقال له : إلى كم تحدث الناس بالرخص فقال : يا أبا يحيى إني لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح

وفي حديث ربعي بن حراش عن أخيه وكان من خيار التابعين وهو : ممن تكلم بعد الموت قال لما مات أخي سجي بثوبه ، وألقيناه على نعشه ، فكشف الثوب عن وجهه ، واستوى قاعدا ، وقال : إني لقيت ربي عز وجل فحياني بروح وريحان وربي غير غضبان ، وإني رأيت الأمر أيسر مما تظنون فلا تفتروا : وإن محمدا صلى الله عليه وسلم ينتظرني وأصحابه حتى أرجع إليهم ،

قال ثم طرح نفسه ، فكأنها كانت حصاة وقعت في ، طشت فحملناه ودفناه

.

التالي السابق


(والأخبار الواردة في أسباب الرجاء أكثر من أن تحصى) وبعضها لا يصلح ذكره لعموم الناس (أما الآثار فقد قال علي كرم الله وجهه: من أذنب ذنبا فستره الله عليه في الدنيا فالله أكرم أن يكشف ستره في الآخرة، ومن أذنب ذنبا فعوقب عليه في الدنيا فالله تعالى أعدل من أن يثني عقوبته على عبده في الآخرة) . وفي لفظ آخر: لا يذنب عبد في الدنيا فيستره عليه إلا غفره له في الآخرة، هكذا هو في القوت. وأورده الشريف الموسوي في نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين .

قلت: وقد روي ذلك مرفوعا من حديث علي رضي الله عنه بلفظ: من أذنب في الدنيا ذنبا فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه. هكذا رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن جرير والحاكم وصححاه وقد تقدم .

(وقال) سفيان (الثوري) رحمه الله تعالى (ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبوي لأني أعلم أن الله تعالى أرحم بي منهما) كذا في القوت. وأخرجه أبو نعيم في الحلية. (وقال بعض السلف: المؤمن إذا عصى الله تعالى ستره عن أبصار الملائكة كيلا تراه فتشهد عليه) . نقله صاحب القوت، ويشهد له ما جاء في الأثر: إذا تاب العبد من ذنوبه أنسى الله ملائكته وبقاع الأرض معاصيه، وبدلها حسنات، حتى يرد القيامة وليس شيء عليه. (وكتب محمد بن مصعب) بن صدقة القرقساني، صدوق، وروى له الترمذي وابن ماجه، مات سنة ثمان وثمانين (إلى الأسود بن سالم بخطه) هكذا في النسخ بأن الكاتب هو محمد بن مصعب [ ص: 186 ] والمكتوب إليه هو الأسود بن سالم، والذي في القوت: وحدثت عن محمد بن مصعب قال: كتب إلي أسود بن سالم بخطه: (إن العبد إذا كان مسرفا على نفسه فرفع يده يدعو يقول: يا رب) فإذا قال: يا رب (حجبت الملائكة صوته وكذا) إذا قال المرة (الثانية) يا رب حجبت الملائكة صوته (و) كذا إذا قال المرة (الثالثة) يا رب حجبت الملائكة صوته (حتى إذا قال) المرة (الرابعة يا رب قال) ولفظ القوت يقول (الله تعالى: حتى متى تحجبون صوت عبدي عني؟! قد علم عبدي أنه ليس له رب يغفر الذنوب غيري، أشهدكم أني قد غفرت له) أورده صاحب القوت. ويشهد له الخبر الذي تقدم قريبا: إذا أذنب العبد فاستغفر الله يقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي، أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنوب، ويأخذ بالذنب، أشهدكم أني قد غفرت له.

(وقال) أبو إسحاق (إبراهيم بن أدهم) رحمه الله تعالى: (خلا لي الطواف) ذات (ليلة مطيرة مظلمة فوقفت في الملتزم عند الباب، فقلت: يا رب اعصمني حتى لا أعصيك أبدا، فهتف بي هاتف من البيت: يا إبراهيم، أنت تسألني العصمة، وكل عبادي المؤمنين يطلبون ذلك، فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل ولمن أغفر؟!) أي: إن وصفه سبحانه المغفرة والرحمة، ولا بد أن يخلق مقتضى وصفه حتى يحق وصفه عليه، هذا كما يقول في علم المغفرة: إن له سبحانه من كل اسم وصفا، ومن كل وصف فعلا، وفي هذا سر المعرفة، ومنه معرفة الخصوص، ثم هذا الذي ساقه المصنف هو سياق صاحب القوت .

ولفظ القشيري في الرسالة: ويحكى عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه، أنه قال: كنت أنتظر مدة من الزمن أن يخلو المطاف لي، فكانت ليلة بها مطر شديد، فخلا المطاف، فدخلت الطواف، وكنت أقول: اللهم اعصمني اللهم اعصمني، فسمعت هاتفا يقول لي: يا ابن أدهم أنت تسألني العصمة، وكل الناس يسألوني العصمة، فإذا عصمتكم فلمن أرحم انتهى. وفي ذلك دلالة على أنه سبق في علمه أنه لابد من وقوع المعصية والرحمة، وقد تقع الرحمة ولا معصية، فمن رحمته عصمة الأنبياء، وحفظ الأولياء، وقد قال الله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا . وأراد بما ذكر أن ينبه ابن أدهم على أن لا يسأله ما ليس له به علم، كما في قصة نوح عليه السلام؛ إذ سؤال العبد العصمة عما لا علم به فقد يكون في معلومه أنه ممن يعصي فسؤاله المغفرة أولى به وأقرب للعبودية. ويجوز أن يسأل العبد ربه أن يحفظه ويصونه عن سائر المعاصي، وأما العصمة فمن خصائص الأنبياء. وقد اختلف في جواز سؤالها لغيرهم فقائل بالمنع، وقائل بالجواز، كما أوردناه في شرح الحزب الكبير لأبي الحسن الشاذلي فليراجع .

(وكان الحسن) البصري رحمه الله تعالى (يقول: لو لم يذنب المؤمن لكان يطير في ملكوت السماوات، ولكن الله تعالى قمعه بالذنوب) ، نقله صاحب القوت. (وقال) أبو القاسم (الجنيد) قدس سره (إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين بالمحسنين) نقله صاحب القوت. (و) يروى أنه (لقي) أبو يحيى (مالك بن دينار) البصري (أبانا) وهو ابن أبي عياش المتقدم ذكره قريبا، وكان أبان ممن يحدث العامة بأحاديث الرجاء والرخص (فقال له: كم تحدث الناس بالرخص) ولا تخوفهم! (فقال: يا أبا يحيى إني لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق به كساءك هذا من الفرح) نقله صاحب القوت .

(وفي حديث ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة وياء النسبة، (بن حراش) بكسر الحاء المهملة وآخره شين معجمة، وهو ابن جحش بن عمرو بن عبد الله بن بجاد بن عبد بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس العبسي أبو مريم الكوفي (عن أخيه) مسعود بن حراش، قال ابن المديني: بنو حراش ثلاثة: ربعي، وربيع، ومسعود، ولم يرو عن مسعود شيء إلا كلامه بعد الموت (وكان ربعي من خيار التابعين) قدم الشام، وسمع خطبة عمر بالجابية، وقال العجلي: تابعي ثقة، من خيار الناس، لم يكذب كذبة قط، كان له ابنان عاصيان على الحجاج، فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط، لو أرسلت إليه فسألته عنهما، فأرسل إليه فقال: أين ابناك؟ قال: هما في البيت، فقال: قد عفونا عنهما بصدقك. وروي أن ربيعا آلى أن لا يضحك حتى يعلم أين مصيره فما ضحك إلا بعد موته، وآلى أخوه ربعي بعده أن لا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أو في النار، قال غاسله: فلم يزل مبتسما على سريره، ونحن نغسله، حتى فرغنا، قال أبو نعيم وغير [ ص: 187 ] واحد: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مائة، وصلى عليه عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، روى له الجماعة (وهو) أي: أخوه وهو مسعود (ممن تكلم بعد الموت) على الصحيح كما تقدم عن ابن المديني، ولكن روى البيهقي بإسناده في الدلائل عن ربعي أن المتكلم بعد الموت أخوه الربيع (قال) ربعي: (لما مات أخي مسعود أو الربيع سجي بثوبه، وألقيناه على نعشه، فكشف الثوب عن وجهه، واستوى قاعدا، وقال: إني لقيت ربي عز وجل فحياني بروح وريحان ورب غير غضبان، وإني رأيت الأمر أيسر مما تظنون فلا تفتروا) أي: لا تكسلوا، وفي بعض النسخ: ولا تغتروا من الاغترار (إن محمدا صلى الله عليه وسلم ينتظرني وأصحابه حتى أرجع إليهم، قال) ربعي: (ثم طرح نفسه، فكأنها كانت حصاة وقعت في طست، فحملناه ودفناه) كذا هو في سياق القوت .




الخدمات العلمية