الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي الحديث أن رجلين من بني إسرائيل تواخيا في الله تعالى ، فكان أحدهما يسرف على نفسه : وكان الآخر عابدا ، وكان يعظه ويزجره فكان يقول : دعني وربي ، أبعثت علي رقيبا ؟! : حتى رآه ذات يوم على كبيرة ، فغضب ، فقال : لا يغفر الله لك !

قال : فيقول الله تعالى يوم القيامة : أيستطيع أحد أن يحظر : رحمتي على عبادي اذهب أنت فقد غفرت لك ، ثم يقول للعابد : وأنت فقد أوجبت لك النار .

قال فوالذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أهلكت دنياه وآخرته

وروي أيضا أن لصا كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة ، فمر عليه عيسى عليه السلام ، وخلفه عابد من عباد بني إسرائيل من الحواريين فقال اللص في نفسه هذا نبي الله يمر وإلى جنبه جواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثا قال فنزل ، فجعل يريد أن يدنو من الحواري ويزدري نفسه تعظيما للحواري ، ويقول في نفسه : مثلي لا يمشي إلى جنب هذا العابد ،

قال : وأحس الحواري به فقال في نفسه : هذا يمشي إلى جانبي ! فضم نفسه ومشى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام فمشى بجنبه فبقي اللص خلفه فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه : الصلاة والسلام

قل لهما : ليستأنفا العمل ، فقد أحبطت ما سلف من أعمالهما ، أما الحواري فقد أحبطت حسناته لعجبه بنفسه ، وأما الآخر فقد أحبطت سيئاته بما ازدرى على نفسه فأخبرهما بذلك ، وضم اللص إليه في سياحته ، وجعله من حواريه وروي عن مسروق أن نبيا من الأنبياء كان ساجدا فوطئ عنقه بعض العصاة حتى ألزق الحصى بجبهته قال : فرفع النبي عليه الصلاة والسلام رأسه مغضبا فقال : اذهب فلن يغفر الله لك ، فأوحى الله تعالى إليه : تتألى علي في عبادي ؟! إني قد غفرت له

ويقرب من هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت على المشركين ، ويلعنهم في صلاته ، فنزل عليه قوله تعالى ليس لك من الأمر شيء الآية ، فترك الدعاء عليهم ، وهدى الله تعالى عامة أولئك للإسلام وروي في الأثر أن رجلين كانا من العابدين متساويين في العبادة قال : فإذا أدخلا الجنة رفع أحدهما في الدرجات العلى على صاحبه ، فيقول : يا رب ما كان هذا في الدنيا بأكثر مني عبادة فرفعته علي في عليين ، فيقول الله سبحانه : إنه كان يسألني في الدنيا الدرجات العلى ، وأنت كنت تسألني النجاة من النار ، فأعطيت كل عبد سؤله وهذا يدل على أن العبادة على الرجاء أفضل ؛ لأن المحبة أغلب على الراجي منها على الخائف ، فكم من فرق في الملوك بين من يخدم اتقاء لعقابه ، وبين من يخدم ارتجاء لإنعامه وإكرامه ؛

ولذلك أمر الله تعالى بحسن الظن ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : سلوا الله الدرجات العلى فإنما تسألون كريما .

التالي السابق


(وفي الحديث أن رجلين من بني إسرائيل تواخيا في الله تعالى، فكان أحدهما يسرف على نفسه) أي: بالمعاصي، (وكان الآخر عابدا، وكان) هذا العابد (يعظه ويزجره) وينهاه (فكان يقول: دعني وربي، أبعثت علي رقيبا؟!) أي: تراقب أحوالي وأعمالي (حتى رآه ذات يوم على كبيرة، فغضب، فقال: لا يغفر الله لك! قال: فيقول الله تعالى يوم القيامة: أيستطيع أحد أن يحظر) أي: يمنع (رحمتي على عبادي) ولفظ القوت: أتستطيع أن تحظر رحمتي على عبادي؟! (اذهب فقد غفرت لك، ثم يقول للعابد: وأنت فقد أوجبت لك النار. قال) صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أهلكت دنياه وآخرته) هكذا هو في القوت. وقال العراقي: رواه أبو داوود من حديث أبي هريرة بإسناد جيد اهـ .

قلت: لفظ أبي داوود: كان رجلان في بني إسرائيل متواخيان، وكان أحدهما مذنبا، والآخر مجتهدا في العبادة، وكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب، فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا، فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض روحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا؟! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. وهكذا رواه أحمد أيضا .

(وروي أيضا) في معناه (أن لصا كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة، فمر عيسى عليه السلام، وخلفه عابد من عباد بني إسرائيل) من الحواريين، فقال اللص في نفسه: هذا نبي الله يمر وإلى جنبه حواريه، لو نزلت فكنت معهما ثالثا، قال: (فنزل، فجعل يريد أن يدنو من الحواري ويزدري نفسه تعظيما للحواري، ويقول في نفسه: مثلي لا يمشي إلى جنب هذا العابد، قال: وأحس الحواري فقال في نفسه: هذا يمشي إلى جانبي!) قال: (فضم نفسه ومشى) وتقدم (إلى عيسى عليه السلام فمشى بجنبه فبقي اللص خلفه) قال: (فأوحى الله إلى عيسى عليه السلام: قل لهما: ليستأنفا العمل، فقد أحبطت ما سلف من أعمالهما، أما الحواري فقد أحبطت عمله وحسناته لعجبه بنفسه، وأما الآخر فقد أحبطت سيئاته بما ازدرى على نفسه) قال: (فأخبرهما بذلك، وضم اللص إليه في سياحته، وجعله من حواريه) هكذا نقله صاحب القوت .

(وروي عن) أبي عائشة (مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي، ثقة، فقيه، عابد، مخضرم، مات سنة اثنين وستين (أن نبيا من الأنبياء) من بني إسرائيل (كان) يوما (ساجدا فوطئ عنقه بعض العتاة) جمع العاتي وهو المتمرد (حتى التزق الحصى بجبهته) من شدة وطأته (قال: فرفع النبي عليه السلام رأسه مغضبا [ ص: 188 ] فقال: اذهب فلن يغفر الله لك، فأوحى الله تعالى إليه: تتألى علي في عبادي؟! إني قد غفرت له) . نقله صاحب القوت، وأغفله العراقي لأنه ليس على شرطه، وقد رواه الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود: كان رجل يصلي فلما سجد أتاه رجل فوطئ على رقبته، فقال الذي تحته: والله لا يغفر الله لك أبدا، فقال الله عز وجل: تألى علي عبدي أني لا أغفر لعبدي فإني قد غفرت له. وروى مسلم وأبو عوانة وابن حبان والطبراني من حديث جندب أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، قال الله تعالى: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك.

(ويقرب من هذا ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت على المشركين، ويلعنهم في صلاته، فنزل عليه قوله تعالى) : ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم ، إلى قوله تعالى: ( ليس لك من الأمر شيء الآية، فترك الدعاء عليهم، وهدى الله تعالى عامة أولئك للإسلام) . هكذا هو في القوت، قال العراقي: رواه البخاري من حديث ابن عمر أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعدما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله عز وجل عليه: ليس لك من الأمر شيء إلى قوله: فإنهم ظالمون . ورواه الترمذي وسماهم أبا سفيان والحارث بن هشام وصفوان بن أمية، وزاد: فتاب عليهم، فأسلموا فحسن إسلامهم، وقال: حسن غريب. وفي رواية له: أربعة نفر، ولم يسمهم، وقال: وهداهم الله للإسلام، وقال: حسن غريب صحيح .

قلت: وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الصلاة مبسوطا .

(وروي في الأثر أن رجلين كانا من العابدين) من عباد بني إسرائيل (متساويين في العبادة قال: فإذا أدخلا الجنة رفع أحدهما في الدرجات العلى على صاحبه، فيقول: يا رب ما كان هذا في الدنيا بأكثر مني عبادة فرفعته علي في) أعلى (عليين، فيقول الله سبحانه: إنه كان يسألني في الدنيا الدرجات العلى، وأنت كنت تسألني النجاة من النار، فأعطيت كل عبد سؤله) . هكذا أورده صاحب القوت، وتبعه المصنف، نظرا إلى قوله، وروي في الأثر فأورده في خلال الأخبار المرفوعة على أنه ليس بمرفوع؛ ولذا لم يتعرض له العراقي، وقد رواه العقيلي، والخطيب، من حديث أبي هريرة بلفظ: إن رجلا دخل الجنة فرأى عبده فوق درجته، فقال: يا رب هذا عبدي فوق درجتي! فقال: نعم جزيته بعمله وجزيتك بعملك.

(وهذا يدل على أن العبادة على الرجاء أفضل؛ لأن المحبة أغلب على الرجاء منها على الخائف، فكم من فرق في الملوك بين من يخدم اتقاء لعقابه، وبين من يخدم ارتجاء لإنعامه وإكرامه؛ ولذلك أمر الله تعالى بحسن الظن) ولطف التملق له، وقوة الطمع فيه، فقد قيل في قوله تعالى: وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، أي أحسنوا الظن بالله. وفي الخبر: "حسن الظن بالله من حسن عبادة الله عز وجل"، رواه أبو داوود وابن حبان من حديث أبي هريرة. (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: سلوا الله الدرجات العلى فإنما تسألون كريما) قال العراقي: لم أجده بهذا اللفظ، وللترمذي من حديث ابن مسعود: سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل. انتهى .

قلت: هو بقية من الحديث الذي يتلوه، كما يدل له سياق صاحب القوت على ما تذكره، وحديث ابن مسعود هذا رواه أيضا الطبراني وابن عدي والبيهقي بزيادة: وأفضل العبادة انتظار الفرج، ورواه أيضا ابن جرير عن حكيم بن جبير عن رجل لم يسم .




الخدمات العلمية