الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس : وهو أقل الدرجات أن لا يدعو على السارق الذي ظلمه بالأخذ فإن فعل بطل توكله ، ودل ذلك على كراهته وتأسفه على ما فات ، وبطل زهده ، ولو بالغ بطل أجره أيضا فيما أصيب به ففي الخبر من دعا على ظالمه فقد انتصر وحكي أن الربيع بن خثيم سرق فرس له ، وكان قيمته عشرين ألفا وكان قائما يصلي ، فلم يقطع صلاته ، ولم ينزعج لطلبه فجاءه قوم يعزونه ، فقال : أما إني قد كنت رأيته ، وهو يحله قيل : وما منعك أن تزجره قال : كنت فيما هو أحب إلي من ذلك يعني الصلاة فجعلوا يدعون عليه فقال : لا تفعلوا وقولوا خيرا ، فإني قد جعلتها صدقة عليه .

وقيل لبعضهم في شيء قد كان سرق له : ألا تدعو على ظالمك ؟ قال : ما أحب أن أكون عونا للشيطان عليه .

قيل : أرأيت لو رد عليك قال : لا آخذه ، ولا أنظر إليه ؛ لأني كنت قد أحللته له .

وقيل لآخر : ادع الله على ظالمك ، فقال : ما ظلمني : أحد ، ثم قال : إنما ظلم نفسه ، ألا يكفيه المسكين ظلم نفسه حتى أزيده شرا .

وأكثر بعضهم شتم الحجاج عند بعض السلف في ظلمه فقال : لا تغرق في شتمه ، فإن الله تعالى ينتصف للحجاج فمن انتهك عرضه ، كما ينتصف منه لمن أخذ ماله ودمه .

وفي الخبر إن العبد ليظلم المظلمة فلا يزال يشتم ظالمه ، ويسبه حتى يكون بمقدار ما ظلمه ، ثم يبقى للظالم عليه مطالبة بما زاد عليه يقتص له من المظلوم .

التالي السابق


(الخامس: وهو أقل الدرجات أن لا يدعو على السارق الذي ظلم بالأخذ) من متاعه؛ إذ قد جعله صدقة عليه، فيؤجر أجرا ثانيا؛ لإشفاقه على أخيه، وحسن نظره للعصاة من حيث لا يعلمون، تخلق بأخلاق مولاه، وينال بعفوه عن ظالمه درجة المحسنين، ويتحقق بمقام المتقين، ويكون ممن وقع أجره على الله .

(فإن فعل) فقد (بطل توكله، ودل ذلك على كراهته وتأسفه على ما فات، وبطل) أيضا (زهده، ولو بالغ فيه بطل أيضا أجره فيما أصيب به) .

والحاصل أنه بطل به ثلاث مقامات من اليقين: التوكل، والزهد، والصبر .

وفي القوت: وقد اختلف رأي أهل المعرفة فيمن ظلم بمظلمة، فقال بعضهم بتحليل الظالم والعفو عنه، وقالت طائفة من أهل التوكل: بل إرجاء ذلك إلى الله تعالى وتسليمه إليه وتفويضه حتى يحكم فيه ما يحب؛ لأنه منه وله أولى، وأنه أحب إليهم، وعندهم أعلى من ذلك ما حدثت عن أحمد بن أبي الحواري، قال: قلت لأبي سليمان: إني قد جعلت كل من لي قبله تبعة في حل، فقال: بئسما صنعت، إنما كان ينبغي أن تهيمه لله تعالى، فيؤاخذ من يشاء، ويعفو عمن يشاء، قال ابن أبي الحواري: فلم أجبه أنا على هذا، وثبت على الأمر الأول، قال: وقول أبي سليمان أعلى، وهو معنى من التوكل على الله في النفس، وهو أرفع أحوال المتوكلين؛ لأن التوكل هو الحكم، وهو من مقامات الأنبياء، كما قال تعالى: إن الحكم إلا لله عليه توكلت ولأن فيه التفويض والتسليم، وترك الاعتراض والتحكم بين يدي المولى، ووافقه ابن سيرين في هذا المعنى لحقيقة ورعه، وقول ابن أبي الحواري أدخل في السنة، وأشبه بطريقة المتقدمين من الأئمة، ولتجويز الأمة [ ص: 514 ] بالعفو عن الظالم، وتفضيل العافين عن الناس، فلو لم يكن هذا أفضل ما مدحوا به، ولا فضلوا بفعله، وهذا مذهب الأكثر، وهو أحب إلي، وكذلك كان رأي السلف الأول، قلت: وإليه مال المصنف .

(ففي الخبر) قال -صلى الله عليه وسلم- (من دعا على ظالمه فقد انتصر) رواه ابن أبي شيبة، والترمذي وضعفه، وابن أبي الدنيا في ذم الغضب من حديث عائشة بلفظ: على من ظلمه، (وحكي أن الربيع بن خيثم) الثوري الكوفي العابد، تابعي ثقة (سرق فرس له، وكان قيمته عشرين ألفا) درهما (وكان قائما يصلي، فلم يقطع صلاته، ولم ينزعج لطلبه فجاءه قوم) من الناس يتحزنون له، و (يعزونه، فقال: أما إني قد كنت رأيته، وهو يحله) من مربطه (قيل: وما منعك أن تزجره قال: كنت فيما هو أحب إلي من ذلك) يعني الصلاة قال: (فجعلوا يدعون عليه) الله يفعل به كذا وكذا، (فقال: لا تفعلوا وقولوا خيرا، فإني قد جعلتها صدقة عليه) فلولا أنه اعتقد تحليله والعفو عنه لكان من المعاونين على الإثم والعدوان، ولعصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، ثم قال: "تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه" فهذا لولا عفوه عن ظلامته كان قد خذله، وما نصره، ولم يخطئه أحد من السلف في هذا الفعل، بل فعل ذلك على التفضيل له .

(وقيل لبعضهم في شيء كان قد سرق له: ألا تدعو على ظالمك؟ قال: ما أحب أن أكون عونا للشيطان عليه قيل: أرأيت لو ردت عليك) سرقتك كنت تأخذها (قال: لا آخذها، ولا) كنت (أنظر إليه؛ لأني قد كنت أحللتها له) ، وفي نسخة: أحللته منها، نقله صاحب القوت .

(وقيل لآخر: ادع الله على ظالمك، فقال: ما ظلمني أحد، ثم قال: إنما ظلم نفسه، ألا يكفيه المسكين ظلم نفسه حتى أزيده شرا) كذا في القوت، قال: وذهب لبعض المسلمين مال فجاءوا يعزونه عليه، فقال: علام تعزوني على أمر الله، فوالله ما حزنت على ذهابه، قيل: ولم؟ قال: شغلني الشكر عليه من الحزن، (وأكثر بعضهم شتم الحجاج) بن يوسف الثقفي (عند بعض السلف في ظلمه) ، قيل: هو الحسن البصري (فقال له: لا تغرق في شتمه) ، أي: لا تبالغ ولا تكثر؛ (فإن الله تعالى ينتصف للحجاج ممن انتهك عرضه، كما ينتصف منه لمن أخذ ماله ودمه) ، وفي تدبر الخبر المأثور من قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة، وقد دعت على ظالمها: أحسب في سرقة 7 لا يستحق عنه، يقول: لا توسعي عليه، ففي التوسيع عليه نقصان من ظلامة المظلوم بقدر ذلك، إلا أن يصير للظالم زيادة بفضل ما انتهك منه .

(و) يطابقه ما جاء (في الخبر) الآخر (إن العبد ليظلم المظلمة فلا يزال يشتم ظالمه، ويسبه حتى يكون بمقدار ما ظلمه، ثم يبقى للظالم عليه مطالبة بما زاد عليه يقتص له من المظلوم) ، ولفظ القوت: إن العبد ليظلم بالمظلمة، أو يسرق له الشيء، فلا يزال يدعو عليه، ويسبه حتى يستوفي بقدر ظلامته، ويبقى للظالم فضل يؤخذ له من المظلوم ، وقد تقدم في كتاب آفات اللسان .




الخدمات العلمية