الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأصل الرابع : في بيان معنى الحسن والجمال اعلم أن المحبوس في مضيق الخيالات والمحسوسات ربما يظن أنه لا معنى للحسن والجمال إلا تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون ، وكون البياض مشربا بالحمرة ، وامتداد القامة إلى غير ذلك مما يوصف من جمال شخص الإنسان ، فإن الحسن الأغلب على الخلق حسن الإبصار ، وأكثر التفاتهم إلى صور الأشخاص ، فيظن أن ما ليس مبصرا ولا متخيلا ولا متشكلا ولا متلونا مقدرا ، فلا يتصور حسنه ، وإذا لم يتصور حسنه لم يكن في إدراكه لذة ، فلم يكن محبوبا ، وهذا خطأ ظاهر ، فإن الحسن ليس مقصورا على مدركات البصر ولا على تناسب الخلقة وامتزاج البياض بالحمرة ، فإنا نقول : هذا خط حسن ، وهذا صوت حسن ، وهذا فرس حسن ، بل نقول : هذا ثوب حسن ، وهذا إناء حسن ، فأي معنى لحسن الصوت والخط وسائر الأشياء إن لم يكن الحسن إلا في الصورة ، ومعلوم أن العين تستلذ بالنظر إلى الخط الحسن ، والأذن تستلذ استماع النغمات الحسنة الطيبة وما من شيء من المدركات إلا وهو منقسم إلى حسن وقبيح ، فما معنى الحسن الذي تشترك فيه هذه الأشياء ، فلا بد من البحث عنه وهذا البحث يطول ولا يليق بعلم المعاملة الإطناب فيه فنصرح بالحق ونقول كل شيء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له فإذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال وإن كان الحاضر بعضها ، فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر فالفرس الحسن هو الذي جمع كل ما يليق بالفرس من هيئة وشكل ولون وحسن عدو وتيسر كر وفر عليه والخط الحسن ما جمع كل ما يليق بالخط من تناسب الحروف وتوازيها واستقامة ترتيبها وحسن انتظامها ولكل شيء كمال يليق به ، وقد يليق بغير ضد ، فحسن كل شيء في كماله الذي يليق به فلا يحسن الإنسان بما يحسن به الفرس ، ولا يحسن الخط بما يحسن به الصوت ، ولا تحسن الأواني بما تحسن به الثياب ، وكذلك سائر الأشياء .

فإن قلت : فهذه الأشياء وإن لم تدرك جميعها بحسن البصر مثل الأصوات والطعوم ، فإنها لا تنفك عن إدراك الحواس لها فهي محسوسات وليس ينكر الحسن والجمال للمحسوسات، ولا ينكر حصول اللذة بإدراك حسنها ، وإنما ينكر ذلك في غير المدرك بالحواس ، فاعلم أن الحسن والجمال موجود في غير المحسوسات ؛ إذ يقال : هذا خلق حسن ، وهذا علم حسن ، وهذه سيرة حسنة ، وهذه أخلاق جميلة ، وإنما الأخلاق الجميلة يراد بها العلم والعقل والعفة والشجاعة والتقوى والكرم والمروءة وسائر خلال الخير ، وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس ، بل يدرك بنور البصيرة الباطنة وكل هذه الخلال الجميلة محبوبة ، والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته ، وآية ذلك وأن الأمر كذلك أن الطباع مجبولة على حب الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى حب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع أنهم لم يشاهدوا بل على حب أرباب المذاهب مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم حتى أن الرجل قد يجاوز به حبه لصاحب مذهبه حد العشق فيحمله ذلك على أن ينفق جميع ماله في نصرة مذهبه والذب عنه ، ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في إمامه ومتبوعه فكم من دم أريق في نصرة أرباب المذاهب وليت شعري من يحب الشافعي مثلا فلم يحبه ولم يشاهد قط صورته ولو شاهده ربما لم يستحسن صورته ، فاستحسانه الذي حمله على إفراط الحب هو لصورته الباطنة لا لصورته الظاهرة ، فإن صورته الظاهرة قد انقلبت ترابا مع التراب وإنما يحبه لصفاته الباطنة من الدين والتقوى وغزارة العلم والإحاطة بمدارك الدين وانتهاضه لإفادة علم الشرع ولنشره هذه الخيرات في العالم ، وهذه أمور جميلة لا يدرك جمالها إلا بنور البصيرة فأما الحواس فقاصرة عنها وكذلك من يحب أبا بكر الصديق رضي الله عنه ويفضله على غيره أو يحب عليا رضي الله عنه – ويفضله ويتعصب له فلا يحبهم إلا لاستحسان صورهم الباطنة من العلم والدين والتقوى والشجاعة والكرم وغيره فمعلوم أن من يحب الصديق رضي الله تعالى عنه مثلا ليس يحب عظمه ولحمه وجلده وأطرافه وشكله ؛ إذ كل ذلك زال وتبدل وانعدم ، ولكن بقي . ما كان الصديق به صديقا وهي الصفات المحمودة التي هي مصادر السير الجميلة فكان الحب باقيا ببقاء تلك الصفات مع زوال جميع الصور ، وتلك الصفات ترجع جملتها إلى العلم والقدرة إذا علم حقائق الأمور وقدر على حمل نفسه عليها بقهر شهواته ، فجميع خلال الخير تتشعب على هذين الوصفين ، وهما غير مدركين بالحس ، ومحلهما من جملة البدن جزء لا يتجزأ ، فهو المحبوب بالحقيقة وليس للجزء الذي لا يتجزأ صورة وشكل ولون يظهر للبصر حتى يكون محبوبا لأجله ، فإذا الجمال موجود في السير ولو صدرت السيرة الجميلة من غير علم وبصيرة لم يوجب ذلك حبا ، فالمحبوب مصدر السيرة الجميلة ، وهي الأخلاق الحميدة والفضائل الشريفة ، وترجع جملتها إلى كمال العلم والقدرة ، وهو محبوب بالطبع ، وغير مدرك بالحواس حتى أن الصبي المخلى وطبعه إذا أردنا أن نحبب إليه غائبا أو حاضرا حيا ، أو ميتا لم يكن لنا سبيل إلا بالإطناب في وصفه بالشجاعة والكرم والعلم وسائر الخصال الحميدة ، فمهما اعتقد ذلك لم يتمالك في نفسه ولم يقدر أن لا يحبه ، فهل غلب حب الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبغض أبي جهل وبغض إبليس لعنه الله إلا بالإطناب في وصف المحاسن والمقابح التي لا تدرك بالحواس بل لما وصف الناس حاتما بالسخاء ووصفوا خالدا بالشجاعة أحبتهم القلوب حبا ضروريا ، وليس ذلك عن نظر إلى صورة محسوسة ولا عن حظ يناله المحب منهم ، بل إذا حكي من سيرة بعض الملوك في بعض أقطار الأرض العدل والإحسان وإفاضة الخير غلب حبه على القلوب . مع اليأس من انتشار إحسانه إلى المحبين لبعد المزار ونأي الديار فإذا ليس حب الإنسان مقصورا على من أحسن إليه ، بل المحسن في نفسه محبوب ، وإن كان لا ينتهي قط إحسانه إلى المحب ؛ لأن كل جمال وحسن فهو محبوب ، والصورة ظاهرة وباطنة ، والحسن والجمال يشملهما وتدرك الصور الظاهرة بالبصر الظاهر ، والصور الباطنة بالبصيرة الباطنة ، فمن حرم البصيرة الباطنة لا يدركها ولا يلتذ بها ولا يحبها ، ولا يميل إليها ومن كانت البصيرة الباطنة أغلب عليه من الحواس الظاهرة كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة ، فشتان بين من يحب نقشا مصورا على الحائط لجمال صورته الظاهرة ، وبين من يحب نبيا من الأنبياء لجمال صورته الباطنة .

السبب الخامس : المناسبة الخفية بين المحب والمحبوب ؛ إذ رب شخصين تتأكد المحبة بينهما لا بسبب جمال ، أو حظ ، ولكن بمجرد تناسب الأرواح ، كما قال صلى الله عليه وسلم فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف وقد حققنا ذلك في كتاب آداب الصحبة .

عند ذكر الحب في الله فليطلب منه ؛ لأنه أيضا من عجائب أسباب الحب ، فإذا ترجع أقسام الحب إلى خمسة أسباب ، وهو حب الإنسان وجود نفسه وكماله وبقاءه ، وحبه من أحسن إليه فيما يرجع إلى دوام وجوده ويعين على بقائه ودفع المهلكات عنه ، وحبه من كان محسنا في نفسه إلى الناس وإن لم يكن محسنا إليه ، وحبه لكل ما هو جميل في ذاته سواء كان من الصور الظاهرة أو الباطنة ، وحبه لمن بينه وبينه مناسبة خفية في الباطن فلو اجتمعت هذه الأسباب في شخص واحد تضاعف الحب لا محالة ، كما لو كان للإنسان ولد جميل الصورة ، حسن الخلق ، كامل العلم حسن التدبير ، محسن إلى الخلق ومحسن إلى الوالد ، كان محبوبا لا محالة غاية الحب ، وتكون قوة الحب بعد اجتماع هذه الخصال بحسب قوة هذه الخلال في نفسها ، فإن كانت هذه الصفات في أقصى درجات الكمال كان الحب لا محالة في أعلى الدرجات ، فلنبين الآن أن هذه الأسباب كلها لا يتصور كمالها واجتماعها إلا في حق الله تعالى ، فلا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى .

التالي السابق


(الأصل الرابع: في بيان معنى الحسن والجمال اعلم) أرشدك الله تعالى (أن المحبوس في مضيق الخيالات والمحسوسات ربما يظن أنه لا معنى للحسن والجمال إلا تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون، وكون البياض مشربا بالحمرة، وامتداد القامة) وسواد الشعر، وسعة العين، وارتفاع الأرنبة (إلى غير ذلك مما يوصف من جمال شخص الإنسان، فإن الحس الأغلب على الخلق حسن الإبصار، وأكثر التفاتهم إلى صور الأشخاص، فيظن أن ما ليس مبصرا أو لا متخيلا ولا متشكلا ولا متلونا متعذر، فلا يتصور حسنه، وإذا لم يتصور حسنه لم يكن في إدراكه لذة، فلم يكن محبوبا، وهذا خطأ ظاهر، فإن الحسن ليس مقصورا على مدركات البصر ولا على تناسب الخلقة وامتزاج البياض بالحمرة، فإنا نقول: هذا خط حسن، وهذا صوت حسن، وهذا فرس حسن، بل نقول: هذا ثوب حسن، وهذا إناء حسن، فأي معنى لحسن الصوت والخط وسائر الأشياء إن لم يكن الحسن إلا في الصورة، ومعلوم أن العين تستلذ بالنظر إلى الخط الحسن، والأذن تستلذ استماع النغمات الحسنة الطيبة) الألحان (وما من شيء من المدركات إلا وهي منقسمة إلى حسن وقبيح، فما معنى الحسن الذي يشترك فيه هذه الأشياء، فلا بد من البحث عنه) والكلام فيه، (وهذا البحث يطول ولا يليق بعلم المعاملة الإطناب فيه فنصرح بالحق) الصريح (ونقول كل شيء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق له الممكن به) سواء كان لمعنى ثبت في ذاته، أو لمعنى ثبت في غيره، وسواء كان ذلك مما استحسنه العقل، أو الهوى، أو الحس، (فإذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال) وإليه المنتهى في الاستحسان، (فإن كان الحاضر بعضها، فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر) ويقع الاستحسان على ذلك القدر الحاضر (فالفرس الحسن هو الذي جمع كل ما يليق بالفرس من هيئة وشكل ولون) هذا مما يتعلق بظاهره، وفي الألوان اختلاف الناس، وإنما يقع الاعتبار فيها بما تميل إليه النفوس والرغبات، وهي تختلف ويلتحق بذلك الشيات (وحسن عدو) وارتكاض (وتيسر كر) أي: الحملة (وفر) ، أي: الرجعة (عليه) ، وهذا مما يتعلق بباطنه، فإنها أخلاق باطنية قد تكون خلقة، وقد تكون من طول الرياضة والتهذيب، وهو الأكثر (والخط الحسن كل ما جمع ما يليق بالخط من تناسب الحروف وتوازيها) ، أي تقابلها (واستقامة ترتيبها وحسن انتظامها) بالحدود المذكورة في فن الخط (ولكل شيء كمال يليق به، وقد يليق بغيره ضده، فحسن كل شيء في كماله الذي يليق به فلا يحسن الإنسان بما يحسن به الفرس، ولا يحسن الخط بما يحسن به الصوت، ولا تحسن الأواني بما تحسن به الثياب، وكذلك سائر الأشياء) ولكل ذلك نظائر وأشباه لا تخفى، (فإن قلت: فهذه الأشياء وإن لم يدرك جميعها بحسن البصر مثل الأصوات والطعوم، فإنها لا تنفك عن إدراك الحواس لها فهي محسوسات، ولا ينكر حصول اللذة بإدراك حسنها، وإنما ينكر ذلك في غير المدرك بالحواس، فاعلم أن الحسن [ ص: 557 ] والجمال موجود في غير المحسوسات; إذ يقال: هذا خلق حسن، وهذا علم حسن، وهذه سيرة حسنة، وهذه أخلاق جميلة، وإنما الأخلاق الجميلة يراد بها العلم والعقل والعفة والشجاعة والتقوى والكرم والمروءة وسائر الخير، وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس، بل يدرك بنور البصيرة الباطنة) التي هي أقوى من نور البصر الظاهر، (وكل هذه الخصال الجميلة محبوبة، والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته، وآية ذلك وأن الأمر كذلك أن الطباع مجبولة على حب الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى حب الصحابة رضي الله عنهم مع أنهم لم يشاهدوا) ذواتهم بالأبصار ولا لحقوا أعصارهم، (بل على حب أرباب المذاهب) المتبوعة (مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك) وأحمد (وغيرهم) رحمهم الله تعالى (حتى أن الرجل قد يجاوز حبه لصاحب مذهبه حد العشق فيحمله ذلك على أن ينفق جميع ماله في نصرة مذهبه والذب عنه، ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في إمامه ومتبوعه فكم من دم أريق في نصرة أرباب المذاهب) وأكثر ذلك في ديار خراسان فيما سبق من الزمان (وليت شعري من يحب الشافعي مثلا فلم يحبه ولم يشاهد قط صورته ولو شاهده ربما لم يستحسن صورته، فاستحسانه الذي حمله على إفراط الحب هو لصورته الباطنة لا لصورته الظاهرة، فإن صورته الظاهرة قد انقلبت ترابا مع) جملة (التراب وإنما يحبه لصفاته الباطنة من الدين والتقوى وغزارة العلم والإحاطة بمدارك الدين وانتهاضه لإفادة علم الشرع) بين الناس (ولنشره هذه الخيرات في العالم، وهذه أمور جميلة لا يدرك جمالها إلا بنور البصيرة) الباطنة (فأما الحواس فقاصرة عنها) ، أي: عن إدراكها (وكذلك من يحب أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- ويفضله على غيره) ويقدمه عليه (ويحب عليا -رضي الله عنه- ويفضله على غيره) ويقدمه عليه (ويتعصب له فلا يحبهم إلا لاستحسان صورهم الباطنة من العلم والدين والتقوى والشجاعة والكرم وغيره) من خصال الخير، (فمعلوم أن من يحب الصديق -رضي الله عنه- مثلا ليس يحب عظمه ولحمه وجلده وأطرافه وشكله; إذ كل ذلك زال وتبدل وانعدم، ولكن بقي ما كان الصديق به صديقا وهي الصفات المحمودة التي هي مصادر السير الجميلة) ومن جملة ذلك السر الذي كان وقر به صدره (فكان الحب باقيا ببقاء تلك الصفات مع زوال جميع الصور، وتلك الصفات ترجع جملتها إلى العلم والقدرة; إذ علم حقائق الأمور وقدر على حمل نفسه عليها بقهر شهواته، فجميع خلال الخير تتشعب على هذين الوصفين، وهما غير مدركين بالحس، ومحلهما من جملة البدن جزء لا يتجزأ، فهو المحبوب بالحقيقة وليس للجزء الذي لا يتجزأ صورة وشكل ولون يظهر بالبصر حتى يكون محبوبا لأجله، فإذا الجمال موجود في السير ولو صدرت السيرة الجميلة من غير علم وبصيرة لم يوجب ذلك حبا، فالمحبوب مصدر السيرة الجميلة، وهي الأخلاق الحميدة والفضائل الشريفة، وترجع جملتها إلى كمال العلم والقدرة، وهو محبوب [ ص: 558 ] بالطبع، وغير مدرك بالحواس حتى أن الصبي المخلى وطبعه) ، أي: مع طبعه (إذا أردنا أن نحبب إليه غائبا) عن بصره، (أو حاضرا حيا، أو ميتا لم يكن لنا سبيل إلا بالإطناب في وصفه بالشجاعة والكرم والعلم وسائر الخصال الحميدة، فمهما اعتقد ذلك لم يتمالك في نفسه ولم يقدر أن لا يحبه، فهل غلب حب الصحابة رضي الله عنهم وبغض أبي جهل وبغض إبليس لعنه الله إلا بالإطناب في وصف المحاسن والمقابح) المعنوية (التي تدرك لا بالحواس) الظاهرة، (بل لما وصف الناس حاتما) الطائي (بالسخاء ووصفوا خالدا) بن الوليد -رضي الله عنه- (بالشجاعة أحبتهم القلوب حبا ضروريا، وليس ذلك عن نظر إلى صورة محسوسة ولا عن حظ يناله المحب منهم، بل إذا حكي من سيرة بعض الملوك) الموجودين (في بعض أقطار الأرض العدل والإحسان وإفاضة الخير) على المحاويج من أهل مملكته (غلب حبه على القلوب مع اليأس من انتشار إحسانه إلى المحبين لبعد المزار ونأي الديار) الموجب لعدم الوصول إلى تلك الأقطار، (فإذا ليس حب الإنسان مقصورا على من أحسن إليه، بل المحسن في نفسه محبوب، وإن كان لا ينتهي قط إحسانه إلى المحب; لأن كل جمال وحسن فهو محبوب، والصورة ظاهرة وباطنة، والحسن والجمال يشملهما وتدرك الصور الظاهرة بالبصر الظاهر، والصور الباطنة بالبصيرة الباطنة، فمن حرم البصيرة الباطنة لا يدركها ولا يلتذ بها ولا يحبها، ولا يميل إليها) ; لأن كل ذلك تابع للإدراك (ومن كانت البصيرة الباطنة أغلب عليه من الحواس الظاهرة) بسبب انشراح صدره بإفاضة النور القدسي عليه (كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة، فشتان بين من يحب نقشا مصورا على الحائط لجمال صورته الظاهرة، وبين من يحب نبيا من الأنبياء) عليهم السلام (لجمال صورته الباطنة .

السبب الخامس: المناسبة الخفية بين المحب والمحبوب; إذ رب شخصين تتأكد المحبة بينهما لا بسبب جمال، أو حظ، ولكن لمجرد تناسب الأرواح، كما قال صلى الله عليه وسلم) : الأرواح جنود مجندة (فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) رواه البخاري من حديث عائشة، وأحمد ومسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة، والعقيلي والدارقطني، وأبو نعيم من حديث علي، والطبراني من حديث ابن مسعود، والحاكم من حديث سلمان، وقد تقدم الكلام عليه، (وقد حققنا ذلك في كتاب آداب الصحبة عند ذكر الحب في الله فليطلب منه; لأنه أيضا من عجائب أسباب الحب، فإذا ترجع أقسام الحب إلى خمسة أسباب، وهو حب الإنسان وجود نفسه وكماله وبقائه، وحبه من أحسن إليه فيما يرجع إلى دوام وجوده ويعين على بقائه ودفع المهلكات عنه، وحبه من كان محسنا في نفسه إلى الناس وإن لم يكن محسنا إليه، وحبه لكل ما هو جميل في ذاته سواء كان من الصور الظاهرة أو الباطنة، وحبه لمن بينه وبينه مناسبة خفية في الباطن) وجعل الكمال محمد بن إسحاق الصوفي -رحمه الله تعالى- هذه الأقسام كلها راجعة إلى سببين; أحدهما الإنعام، والثاني الجمال، وسيأتي نص كلامه في آخر هذا الفصل (فلو اجتمعت هذه الأسباب في شخص واحد تضاعف الحب لا محالة، كما لو كان للإنسان ولد جميل الصورة، حسن الخلق، كامل [ ص: 559 ] العلم حسن التدبير، محسن إلى الخلق ومحسن إلى الوالد، كان محبوبا لا محالة غاية الحب، وتكون قوة الحب بعد اجتماع هذه الخصال بحسب قوة هذه الخلال في نفسها، فإن كانت هذه الصفات في أقصى درجات الكمال كان الحب لا محالة في أعلى الدرجات، فلنبين الآن أن هذه الأسباب كلها لا يتصور كمالها واجتماعها إلا في حق الله تعالى، فلا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى) .




الخدمات العلمية