الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلا ينبغي أن يغتر العالم بهذه التلبيسات فيشتغل بمخالطة الخلق حتى يتربى في قلبه حب الجاه والثناء والتعظيم فإن ذلك بذر النفاق .

قال صلى الله عليه وسلم : حب الجاه والمال ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفسادا فيها من حب الجاه والمال في دين المرء المسلم ولا ينقلع حب الجاه من القلب إلا بالاعتزال عن الناس والهرب من مخالطتهم وترك كل ما يزيد جاهه في قلوبهم .

فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه وفي استنباط طريق الخلاص منها وهذه وظيفة العالم المتقي .

فأما أمثالنا فينبغي أن يكون تفكرنا فيما يقوي إيماننا بيوم الحساب إذ لو رآنا السلف الصالحون لقالوا قطعا إن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب فما أعمالنا أعمال من يؤمن بالجنة والنار ، فإن من خاف شيئا هرب منه ، ومن رجا شيئا طلبه وقد علمنا أن الهرب من النار بترك الشبهات والحرام وبترك المعاصي ونحن منهمكون فيها وأن طلب الجنة بتكثير نوافل الطاعات ونحن مقصرون في الفرائض منها .

فلم يحصل لنا من ثمرة العلم إلا أنه يقتدي بنا في الحرص على الدنيا والتكالب عليها ويقال : لو كان هذا مذموما لكان العلماء أحق وأولى باجتنابه منا .

فليتنا كنا كالعوام إذا متنا ماتت معنا ذنوبنا .

فما أعظم الفتنة التي تعرضنا لها لو تفكرنا فنسأل الله تعالى أن يصلحنا ويصلح بنا ويوفقنا للتوبة قبل أن يتوفانا إنه الكريم اللطيف بنا المنعم علينا .

فهذه مجاري أفكار العلماء والصالحين في علم المعاملة فإن فرغوا منها انقطع التفاتهم عن أنفسهم وارتقوا منها إلى التفكر في جلال الله وعظمته والتنعم بمشاهدته بعين القلب ، ولا يتم ذلك إلا بعد الانفكاك من جميع المهلكات والاتصاف بجميع المنجيات وإن ظهر شيء منه قبل ذلك كان مدخولا معلولا مكدرا مقطوعا ، وكان ضعيفا كالبرق الخاطف لا يثبت ولا يدوم ، ويكون كالعاشق الذي خلا بمعشوقه ، ولكن تحت ثيابه حيات وعقارب تلدغه مرة بعد أخرى فتنغص عليه لذة المشاهدة ولا طريق له في كمال التنعم إلا بإخراج العقارب والحيات من ثيابه .

وهذه الصفات المذمومة عقارب وحيات وهي مؤذيات ومشوشات وفي القبر يزيد ألم لدغها على لدغ العقارب والحيات .

فهذا القدر كاف في التنبيه على مجاري فكر العبد في صفات نفسه المحبوبة والمكروهة عند ربه تعالى .

القسم الثاني الفكر في جلال الله وعظمته وكبريائه .

وفيه مقامان : المقام الأعلى الفكر في : ذاته وصفاته ومعاني أسمائه وهذا مما منع منه حيث قيل : تفكروا في خلق الله تعالى ولا تتفكروا في ذات الله وذلك لأن العقول تتحير فيه فلا يطيق مد البصر إليه إلا الصديقون ثم لا يطيقون دوام النظر .

بل سائر الخلق أحوال أبصارهم بالإضافة إلى جلال الله تعالى كحال بصر الخفاش بالإضافة إلى نور الشمس ، فإنه لا يطيقه البتة بل يختفي نهارا وإنما يتردد ليلا ينظر في بقية نور الشمس إذا وقع على الأرض .

وأحوال الصديقين كحال الإنسان في النظر إلى الشمس ، فإنه يقدر على النظر إليها ولا يطيق دوامه ويخشى على بصره لو أدام النظر ، ونظره المختطف إليها يورث العمش ويفرق البصر .

وكذلك النظر إلى ذات الله تعالى يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل فالصواب إذن أن لا يتعرض لمجاري الفكر في ذات الله سبحانه وصفاته ، فإن أكثر العقول لا تحتمله بل القدر اليسير الذي صرح به بعض العلماء وهو أن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات ، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا هو متصل بالعالم ولا هو منفصل عنه قد حير عقول أقوام حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته .

بل ضعفت طائفة عن احتمال أقل من هذا ، إذ قيل لهم إنه يتعاظم ويتعالى عن أن يكون له رأس ورجل ويد وعين وعضو ، وأن يكون جسما مشخصا له مقدار وحجم .

فأنكروا هذا وظنوا أن ذلك قدح في عظمة الله وجلاله حتى قال بعض الحمقى من العوام : إن هذا وصف بطيخ هندي لا وصف الإله لظن المسكين أن الجلالة والعظمة في هذه الأعضاء .

وهذا لأن الإنسان لا يعرف إلا نفسه فلا يستعظم إلا نفسه ، فكل ما لا يساويه في صفاته فلا يفهم العظمة فيه نعم غايته أن يقدر نفسه جميل الصورة جالسا على سريره وبين يديه غلمان يمتثلون أمره ، فلا جرم غايته أن يقدر ذلك في حق الله تعالى وتقدس حتى يفهم العظمة .

بل لو كان للذباب عقل وقيل له ليس لخالقك جناحان ولا يد ولا رجل ولا له طيران ، لأنكر ذلك ، وقال : كيف يكون خالقي أنقص مني أفيكون مقصوص الجناح أو يكون زمنا لا يقدر على الطيران أو يكون لي آلة وقدرة لا يكون له مثلها وهو خالقي ومصوري ، وعقول أكثر الخلق قريب من هذا العقل وإن الإنسان لجهول ظلوم كفار ، ولذلك أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه : لا تخبر عبادي بصفاتي فينكروني ولكن أخبرهم عني بما يفهمون .

التالي السابق


(فلا ينبغي أن يغتر العالم بهذه التلبيسات فيشتغل بمخالطة الخلق حتى يتربى في قلبه حب المال والثناء والتعظيم فإن ذلك بذر النفاق قال صلى الله عليه وسلم: حب الجاه والمال ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) .

رواه أبو نعيم والديلمي من حديث أبي هريرة بلفظ: حب الغنى ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب السماع، وفي كتاب ذم الجاه وذم المال .

وروى الديلمي من حديث ابن عباس: حب الثناء من الناس يعمي ويصم، (وقال صلى الله عليه وسلم: ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفسادا فيها من حب الجاه والمال في دين المرء المسلم) ، رواه الطبراني في الصغير، والضياء من حديث أسامة بن زيد بلفظ: ما ذئبان ضاريان باتا في حظيرة فيها غنم يفترسان [ ص: 179 ] ويأكلان بأسرع فسادا من طلب المال والشرف في دين المسلم، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب ذم الجاه .

(ولا ينقلع حب الجاه من القلب إلا بالاعتزال عن الناس والهرب من مخالطتهم وترك كل ما يزيد جاهه في قلوبهم، فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه وفي استنباط طريق الخلاص منها) فإن هذا هو الأهم (فأما أمثالنا) من ضعفاء الإيمان فينبغي (أن نكون) دائما (تفكرنا فيما يقوي إيماننا بيوم الحساب) ، وهو يوم القيامة الذي تجازى فيه كل نفس بما عملت (إذ لو) فرض أن (رآنا السلف الصالحون) ، ورأوا أحوالنا وما نحن عليه من الغفلة والتكالب (لقالوا قطعا أن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب) كما روي ذلك عن بعض السلف (فما أعمالنا أعمال من يؤمن بالجنة والنار، فإن من خاف شيئا هرب منه، ومن رجا شيئا طلبه) .

روي ذلك من قول أبي سليمان الداراني، ومعناه في الحديث المرفوع عن أنس: من خاف شيئا حذره ومن رجا شيئا عمل له ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية، رواه الديلمي.

وروى الترمذي من حديث أبي هريرة: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل (وقد علمنا أن الهرب من النار بترك الشبهات والحرام وبترك المعاصي) الظاهرة والباطنة (ونحن منهمكون فيها) فكيف يتصور المهرب (وإن طلب الجنة بتكثير نوافل الطاعات) الزائدة عن الفرائض (ونحن مقصرون في الفرائض منها) .

وقد روي من حديث علي رضي الله عنه: من اشتاق إلى الجنة سابق إلى الخيرات، ومن أشفق من النار لها عن الشهوات ومن ترقب الموت صبر عن اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، رواه البيهقي وقد تقدم .

فهذه علامات الخائف والراجي والمترقب والزاهد (فلم يحصل لنا من ثمرة العلم إلا أنه يقتدي بنا في الحرص على الدنيا والتكالب عليها) في جمعها من حيث لا يحل وإنفاقها في غير مواضعها (ويقال: لو كان هذا مذموما لكان العلماء أحق وأولى باجتنابه منا فليتنا كنا كالعوام إذا متنا ماتت معنا ذنوبنا) ، وقد نقل صاحب القوت عن بعض السلف: طوبى لمن مات وماتت ذنوبه معه (فما أعظم الفتنة التي تعرضنا لها لو تفكرنا) حق التفكر (فنسأل الله تعالى أن يصلحنا) في أنفسنا (و) أن (يصلح بنا) غيرنا ممن اقتدى بنا (و) أن (يوفقنا) أجمعين (للتوبة) الناصحة والإنابة الواضحة (قبل أن يتوفانا إنه الكريم اللطيف بنا المنعم علينا) ، والمجيب لدعائنا (فهذه مجاري أفكار العلماء) الورعين و (الصالحين) من عباده (في علم المعاملة) من معرفة النفس ومعرفة العبادات (فإن فرغوا منها) ، وما أعز ذلك وما أبعده (انقطع التفاتهم عن أنفسهم وارتقوا منها إلى التفكر في جلال الله وعظمته والتنعم بمشاهدته بعين القلب، ولا يتم ذلك إلا بعد الانفكاك من جميع المهلكات) ، وهي التخلية (والاتصاف بجميع المنجيات) وهي التحلية (وإن ظهر شيء منه قبل ذلك كان دخولا معلولا مكدرا مقطوعا، وكان ضعيفا كالبرق الخاطف لا يثبت ولا يدوم، ويكون كالعاشق الذي خلا بمعشوقه، ولكن تحت ثيابه عقارب تلدغه مرة بعد أخرى فتنغص عليه لذة المشاهدة) ، وتكدرها عليه (ولا طريق له في إكمال التنعم إلا بإخراج العقارب والحيات من ثيابه، وهذه الصفات المذمومة) التي أمرنا بالتخلي عنها (عقارب وحيات وهي مؤذيات ومشوشات) فلا يمكن مع وجودها إكمال التنعم بالمشاهدات (وفي القبر يزيد ألم لدغها على لدغ العقارب) والحيات (فهذا القدر كاف في التنبيه على مجاري فكر العبد في صفات نفسه المحبوبة والمكروهة عند ربه تعالى) ، والله الموفق ولما فرغ من بيان الفكر في معرفة نفس [ ص: 180 ] العبد شرع في بيان الفكر في معرفة المعبود فقال: (القسم الثاني الفكر في جلال الله وعظمته وكبريائه وفيه مقامان: المقام الأول وهو الأعلى: التفكر في ذاته وصفاته ومعاني أسمائه) ، وهذه المعرفة تشتمل على علم ما يجب ويستحيل وما يجوز فعله وجملة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فللفكر في الوجود في كيفية التخلق بكل واحد منها على حسب الإمكان مجال رحب (وهذا مما منع منه حيث قيل: تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله) ، رواه ابن النجار، والرافعي من حديث أبي هريرة بلفظ: ولا تتفكروا في الله، وقد تقدم قريبا .

(وذلك لأن العقول تتحير فيه) ، وهذا يؤخذ منه قول من ذهب إلى أن اسم الله مشتق وأنه من أله يأله إذا تحير إشارة إلى حيرة عقول أولي الألباب في مبادئ سبحات جلاله وسطوات إشراق أنوار كبريائه، وإن كان هذا خلاف ما عليه المصنف، فإنه يقول بعلميته لا غير (فلا يطيق مد البصر إليه إلا الصديقون) ، وليس لهم من الذات إلا الدهشة فهم يترددون بين اليأس والطمع إن نظروا إلى هيبة جلاله أيسوا وإن نظروا إلى أنس جماله طمعوا، ولولا أنس الجمال لتقطعت أوصال العارفين دهشة، ولولا طمع الوصال لذابت قلوب المحبين حسرة، (ثم لا يطيقون دوام النظر بل سائر الخلق أحوال أبصارهم بالإضافة إلى جلال الله تعالى كحال بصر الخفاش بالإضافة إلى نور الشمس، فإنه لا يطيقه البتة بل يختفي نهاره) لئلا يقابله نور الشمس فيسقط مغشيا عليه، فإن صاحب كشف الأسرار في إشارة الخفاش وقد قيل: أراك إذا طلعت الشمس وقعت في العشا ولا تزال كذلك إلى العشا فتعمى بما يستضيء به الناس وهذا ضد القياس، وقال ابن الوردي في إشارته: أنا من أهل الخلوات والليل، أنا على ضعفي كجلمود صخر حطه السيل، أنا بالنهار أحتجب ورائي العزلة مما تحب وبالليل أكشف الغطا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وإذا طلعت الشمس حكمت على عيني بالطمس وأخذتني الغيرة أن أشاهد غيره فأطبق من عين الشمس عيني وأمني عن أينها أيني (وإنما يتردد ليلا لينظر في بقية نور الشمس إذا وقع على الأرض) ، وهو الوقت الذي لا يكون فيه ضوء ولا ظلمة وهو قريب غروب الشمس وهو وقت هيجان البعوض، والبعوض يخرج في ذلك الوقت بطلب قوته وهو دماء الحيوان، والخفاش يطلب الطعم فيقع طالب رزق على طالب رزق (وأحوال الصديقين كحال الإنسان في النظر إلى الشمس، فإنه يقدر على النظر إليها ولا يطيق دوامه ويخشى على بصره لو أدام النظر، ونظره المختطف إليها يورث العمش ويفرق البصر) كما هو مشاهد، ولقد حكى لي من أثق به أنه نظر مرة إلى قرص الشمس وحدق فيه بصره ليحيط بقدر المكسوف منه فما زال يشتكي ضعف بصره (وكذلك النظر إلى ذات الله تعالى يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل) ، وقال الشيخ الأكبر قدس سره في حقائق الأسماء بعد أن نقل وجوه الاشتقاق في اسم الجلالة إلى أن قال وقيل: هو مشتق من الآلهة وهي العبادة، وقيل من لاه يليه إذا ارتفع، وقيل: من أله يأله إذا تحير، ثم قال: وهذا الوجه هو مركز دائرة الوجوه كلها لما اختص هذا الاسم من الأحوال بالحيرة والعبادة والرفعة وهي التنزيه وهو رفعته عن التشبيه بخلقه، والتنزيه يؤدي إلى الحيرة لأن غاية التنزيه إثبات النسب وهي الصفات الكمالية التي يتوقف عليها وجود أعيان المظاهر، فإن قال القائل: إن النسب أمور وجودية زائدة على ذاته تعالى فقد صرح أنه لا كمال بالذات إلا بها وأن ذاته تعالى كان ناقصا قبل ظهورها كاملا بالزائد الوجودي، وإن قال: ما هي هو ولا وجود لها، وإنما هي نسب والنسب أمور عدمية فقد جعل للمعدوم أثرا في الوجود، وإن قال: ما هي هو ولا غيره كان قولا بلا روح وكلاما لا معنى له يدل على نقص عقل القائل، وإن سكت الناظر ولم يقل شيئا فقد عطل القوة النظرية، فإذا عجز العقل عن الوصول إلى العلم بشيء من هذه الأسرار لم يبق الطريق إلا الرجوع إلى الشرع، ولا تقبل أحكام الشرع إلا بالعقل لأنه الأصل وقد عجز، والناظر عن معرفة الفرع وثبوته أعجز، فإن تعامى عن النظر وقبل قول الشارع إيمانا لأمر ضروري لا يقدر على دفعه لا بد له أن يسمع الشارع أن ينسب إلى الحق أمورا تقدح فيها الأدلة النظرية وتحتاج إلى تأويل، فإن تأوله ليرده إلى النظر العقلي فهو عائد إلى عقله وجاعل وجود الحق سبحانه على وجوده، وثبت أن الله تعالى لا يدرك بالقياس فهذا غاية تنزيه المنزه، وقد أداه [ ص: 181 ] إلى الحيرة وصارت الحيرة مركزا ينتهي إليها النظر العقلي والشرعي، وكذلك العبادة وهي التي كلف بها والتكليف لا يكون إلا على من له الاقتدار على ما كلف به وأمر من الأفعال وإمساك النفس عن ارتكاب ما نهى عنه، والأفعال منفية عن المخلوق بقوله: والله خلقكم وما تعملون والشيء لا يكلف نفسه، ثم لا يخفى أن الحق تعالى كبرياؤه خاطب عباده فأمرهم ونهاهم ولا بد من محل يقبل الخطاب فأثبت الأفعال للمخلوق من هذا الوجه بما تقتضي قابليته فنفي من وجه وأثبت من وجه، والنفي والإثبات متقابلان فرماه أيضا في الحيرة، فدرجات علوم العلماء بالله تدور على مركز الحيرة ولهذا كان بعض العارفين يقول يا حيرة يا دهشة يا حرف لا يقرأ. انتهى (فالصواب إذا أن لا يتعرض لمجاري الفكر في ذات الله تعالى وصفاته، فإن أكثر العقول لا تحتمله بل القدر اليسير الذي صرح به بعض العلماء وهو أن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا هو متصل بالعالم ولا هو منفصل عنه قد حيرت عقول أقوام حتى أنكروه) ، واستشكلوه (إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته بل ضعفت طائفة عن احتمال أقل من هذا، إذ قيل لهم أنه يتعاظم ويتعالى عن أن يكون له رأس ورجل ويد وعين وعضو، وأن يكون جسما مشخصا له مقدار وحجم فأنكروا هذا وظنوا أن ذلك قدح في عظمة الله وجلاله) ، وهم طائفة من الحشوية الكرامية (حتى قال بعض الحمقى من العوام: إن هذا وصف بطيخ هندي لا وصف الإله لظن المسكين أن الجلالة والعظمة في هذه الأعضاء، وهذا لأن الإنسان لا يعرف إلا نفسه فلا يستعظم إلا نفسه، فكل ما لا يساويه في صفاته فلا يفهم العظمة فيه) ، وهذا فاسد (نعم غايته أن يقدر نفسه جميل الصورة جالسا على سريره وبين يديه غلمان يمتثلون أمره، فلا جرم غايته أن يقدر ذلك في حق الله تعالى وتقدس حتى يفهم العظمة) قياس الشاهد على الغائب، والرب تعالى لا يعرف بالقياس (بل لو كان للذباب عقل وقيل له ليس لخالقك جناحان ولا يد ولا رجل ولا له طيران، لأنكر ذلك، وقال: كيف يكون خالقي أنقص مني أفيكون مقصوص الجناح أو يكون زمنا لا يقدر على الطيران أو تكون لي آلة وقدرة لا يكون له مثلها وهو خالقي ومصوري، وعقول أكثر الخلق قريب من هذا العقل وإن الإنسان لجهول ظلوم كفار، ولذلك أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: لا تخبر عبادي بصفاتي فينكروني) أي: لأن عقولهم لا تحتمل ذلك (ولكن أخبرهم عني بما يفهمون) أي: بقدر ما يطيقون فهمه، وقد ورد مثل ذلك في الأخبار المحمدية: خاطبوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ قال الفخر الرازي في تأسيس التقديس: إن المتشابهات صارت شبهة عظيمة للخلق في الإلهيات والنبوات والشرائع، وليس في القرآن ما يدل على التنزيه بطريق التصريح إلا قوله تعالى ليس كمثله شيء ودلالته عليه ضعيفة، وقد ذكروا أنواعا من الفوائد في إنزال المتشابهات، أقواها أنه لما كان القرآن مشتملا على دعوة الخواص والعوام لا تقوى لإدراك الحقائق العقلية المحضة فهم إذا سمعوا بإثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا بمشار إليه ظنوا أنه عدم محض فوقعوا في التعطيل، فكان الأصلح للعوام أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتخيلونه، وتكون مخلوطة بما يدل على الحق الصريح. انتهى .




الخدمات العلمية