الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : حقيقة حسن الخلق قوى نفسانية تسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة ، والآداب المرضية ، فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه ، ويدخل في حسن الخلق التحرز عن الشح ، والبخل ، والكذب ، وغير ذلك من الأخلاق المذمومة ، ويسهل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول والفعل ، والبذل ، وطلاقة الوجه مع الأقارب ، والأجانب ، والتساهل في جميع الأمور ، والتسامح فيما يلزم من الحقوق ، وترك التقاطع ، والتهاجر ، واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى ، مع طلاقة الوجه .

                                                                                                                                                                                                                              وإدامة البشر في هذه الخصال تجمع محاسن الأخلاق ، ومكارم الأفعال ، ولقد كان جميع ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا وصفه الله تعالى بقوله عز وجل : وإنك لعلى خلق عظيم [ن : 4] .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : على في هذه الآية للاستعلاء ، فدل اللفظ على أنه كان مستعليا على هذه الأخلاق ، ومستوليا عليها ، قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى : وإنما كان خلقه عظيما؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام الحليمي عفا الله عنه : وإنما وصف خلقه بالعظم مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة ، ولم يكن صلى الله عليه وسلم مقصورا على ذلك ، بل كان رحيما بالمؤمنين ، رفيقا بهم ، شديدا على الكفار ، غليظا عليهم ، مهيبا في صدورهم ، [ ص: 14 ] منصورا عليهم بالرعب من مسيرة شهر ، وكان وصف خلقه بالعظم ليشمل الإنعام والانتقام .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : إنما وصف بالعظم لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، فإنه صلى الله عليه وسلم أدب بالقرآن ، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها فيما تقدم أول الباب .

                                                                                                                                                                                                                              وقد وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما يرجع إلى قوته العلمية أنه عظيم ، فقال تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [النساء : 113] .

                                                                                                                                                                                                                              ووصفه بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم ، فقال : وإنك لعلى خلق عظيم فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة الدرجة عالية .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : الخلق بضم أوله وثانيه ، ويجوز إسكانه : ملكة نفسية تسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة .

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام الراغب رحمه الله تعالى : الخلق والخلق -بالفتح والضم في الأصل- بمعنى واحد كالشرب والشرب ، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر ، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف هل حسن الخلق -بالضم- غريزة أو مكتسب ، وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : «إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم» رواه البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              وقال القرطبي رحمه الله تعالى : الخلق جبلة في نوع الإنسان ، وهم في ذلك متفارقون ، فمن غلب عليه شيء منها كان محمدا محمودا ، وإلا فهو المأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا ، وكذا إن كان ضعيفا ، فيرتاض صاحبه حتى يقوى .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأشج -أشج عبد القيس- : «إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى ورسوله : الحلم والأناة» قال : يا رسول الله قديما كان أو حديثا ؟ قال : «قديما» قال : الحمد لله الذي جبلني على جبلتين يحبهما الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              فترديد السؤال ، وتقريره عليه ، يشعر بأن من الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : «اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي» رواه الإمام أحمد وابن حبان رحمة الله عليهما .

                                                                                                                                                                                                                              وكان يقول في دعاء الافتتاح : «واهدني لأحسن الأخلاق؛ إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت» رواه مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : قال بعض العلماء : جعل الله تعالى القلوب محل السرور ، والإخلاص الذي هو [ ص: 15 ] سر الله تعالى يودعه قلب من شاء من عباده ، فأول قلب أودعه قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول الأنبياء خلقا ، وصورته آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء ، عليهم السلام ، فهو أولهم وآخرهم ، وقد جعل الله تبارك وتعالى أخلاق القلوب للنفوس أعلاما على أسرار القلوب ، فمن تحقق قلبه بسر الله تعالى اتسعت أخلاقه لجميع خلق الله تعالى؛ ولذلك جعل الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جثمانية اختص بها من بين سائر العالمين ، فتكون علامات اختصاص جثمانية آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة ، وعظم خلقه ، وتكون علامات عظم أخلاقه آيات على أسرار قلبه المقدس .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : قال الشيخ شهاب الدين السهروردي رحمه الله تعالى في العوارف : لا يبعد أن قول عائشة رضي الله تعالى عنها : «كان خلقه القرآن» فيه أمر غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية ، فاحتشمت من الحضرة الإلهية أن تقول : كان متخلقا بأخلاق الله تعالى ، فعبرت عن المعنى بقولها : «كان خلقه القرآن» استحياء من سبحات الجلالة ، وسترا للحال بلطف المقال ، وهذا من موفور عقلها ، وكمال أدبها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيره : أرادت بذلك اتصافه بما فيه من الاجتهاد في طاعة الله تعالى ، والخضوع له ، والانقياد لأمره ، والتشديد على أعدائه ، والتواضع لأوليائه ، ومواساة عباده ، وإرادة الخير لهم ، إلى غير ذلك من أخلاقه الفاضلة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخر : فكما أن معاني القرآن لا تتناهى فكذلك أوصافه الحميدة الدالة على حسن خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حال من أحواله يتجدد له الكثير من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، وما يفيضه الله عز وجل عليه من معارفه وعلومه ، مما لا يعلمه إلا الله تعالى ، فإذن التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإنسان ، ولا من ممكنات عادته .

                                                                                                                                                                                                                              السادس : قول عائشة رضي الله تعالى عنها : «ما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه» أي : خاصة ، فلا يرد أمره بقتل عبد الله بن خطل ، وعقبة بن أبي معيط ، وغيرهما ممن كان يؤذيه؛ لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : أرادت أنه لا ينتقم إذا أوذي من جفاء من رفع صوته عليه ، والذي جبذ بردائه ، حتى أثر في كتفه ، وحمل الداودي عدم الانتقام على ما يختص بالمال ، قال : وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه ، قال : واقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، بأن أمر بلدهم ، [ ص: 16 ] مع أنهم كانوا من ذلك تأولوا ، إنما نهاهم على عادة البشرية من كراهة النفس للدواء . قال الحافظ رحمه الله تعالى : كذا قال .

                                                                                                                                                                                                                              السابع : في بيان غريب ما سبق :

                                                                                                                                                                                                                              الفاحش : أي ليس ذا فحش في كلامه .

                                                                                                                                                                                                                              ولا سخابا : أي لا يرفع صوته بكثرة الصياح ، لحسن خلقه ، وكرم نفسه ، وشرف طبعه ، وروي بالصاد وهو بمعناه .

                                                                                                                                                                                                                              ليس بفظ : بالظاء المعجمة المشالة : أي ليس بسيئ الخلق ، والخشن من القول .

                                                                                                                                                                                                                              الغليظ : بالمعجمة المشالة ، أي : الجافي .

                                                                                                                                                                                                                              الدمث : السهل اللين ، وليس بالجافي ، ولا المهين بضم الميم : يريد أنه لا يحقر الناس ولا يهينهم ، ويروى : ولا المهين بفتح الميم ، فإن كانت الرواية هكذا فإنه أراد ليس بالفظ الغليظ الجافي ، ولا الحقير الضعيف .

                                                                                                                                                                                                                              لا تزرموه : بفوقية مضمومة ، فزاي فراء مكسورة ، فميم : أي لا تقطعوا بوله .

                                                                                                                                                                                                                              السجل : بسين مهملة مفتوحة ، فجيم ساكنة ، فلام : الدلو الملأى .

                                                                                                                                                                                                                              يؤنب : بالبناء للمفعول : يلوم .

                                                                                                                                                                                                                              قمام الأرض : هو جمع قمامة : ما تقمقمه من المرعى وأصله الكناسة .

                                                                                                                                                                                                                              لده : بلام فدال مهملة مفتوحتين ، فهاء : سقاه في أحد شقي الفم ، والله تعالى أعلم . [ ص: 17 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية