الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب أم لا بد من إعلامه ؟

وقال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الكلم الطيب والعمل الصالح : من اغتاب أخاه المسلم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته بقول اللهم اغفر لنا وله . ذكره البيهقي في الدعوات [ ص: 577 ] الكبير ، قال وفي إسناده ضعف . قال وهذه المسألة فيها قولان للعلماء ، وهما روايتان عن الإمام أحمد ، وهما هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب أم لا بد من إعلامه وتحلله . قال والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه بل يكفيه الاستغفار وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها .

قال وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره . والذين قالوا لا بد من إعلامه جعلوا الغيبة كالحقوق المالية . والفرق بينهما ظاهر ، فإن في الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه ، فإن شاء أخذها وإن شاء تصدق بها ، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع ، فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمي به ، ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبدا . وما كان هذا سبيله فإن الشارع الحكيم لا يبيحه ولا يجوزه فضلا عن أن يوجبه ويأمر به ، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها لا على تحصيلها وتكميلها . انتهى .

وأما ذكر الحافظ ابن الجوزي لحديث { إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته } في الموضوعات ، فقد تعقبه الجلال السيوطي في البديعات بما يشعر أنه ضعيف لا موضوع ، فإنه قال حديث أنس أخرجه البيهقي في الدعوات وقال في هذا الإسناد ضعف وله شاهد عن عبد الله بن المبارك من قوله أخرجه البيهقي في الشعب ، وأورد له شاهدا حديث حذيفة { كان في لساني ذرب على أهلي فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال أين أنت من الاستغفار ، ثم أوله على أن الأمر بالاستغفار ، رجاء أن يرضي الله عنه خصمه يوم القيامة ببركة استغفاره } . هذا كلامه بحروفه ، ولا يخفى أن في رائحة كلامه أن الحديث حسن لغيره .

وذكر ابن عبد البر في كتابه بهجة المجالس قال حذيفة رضي الله عنه : كفارة من اغتبته أن تستغفر له . وقال عبد الله بن المبارك لسفيان بن عيينة : التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ، فقال سفيان بل تستغفره مما قلت فيه ، فقال ابن المبارك : لا تؤذه مرتين قال في الآداب الكبرى : ومثل قول ابن المبارك اختار الشيخ تقي الدين وابن الصلاح الشافعي في فتاويه .

وقال [ ص: 578 ] شيخ الإسلام رضي الله عنه بعد أن ذكر الروايتين في المسألة المذكورة : فكل مظلمة في العرض من اغتياب صادق وبهت كاذب فهو في معنى القذف ، إذ القذف قد يكون صادقا فيكون غيبة ، وقد يكون كاذبا فيكون بهتا ، واختار أصحابنا أنه لا يعلمه بل يدعو له دعاء يكون إحسانا إليه في مقابلة مظلمته كما روي في الأثر ، وهذا أحسن من إعلامه ، فإن في إعلامه زيادة إيذاء له ، فإن تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ من تضرره بما لا يعلم . ثم قد يكون ذلك سبب العدوان على الظالم أولا إذ النفوس لا تقف غالبا عند العدل والإنصاف ، ففي إعلامه هذان الفاسدان .

وفيه مفسدة ثالثة ولو كانت بحق وهو زوال ما بينهما من كمال الألفة والمحبة أو تجدد القطيعة والبغضة والله تعالى أمر بالجماعة ونهى عن الفرقة ، وهذه المفسدة قد تعظم في بعض المواضع أكثر من بعض ، وليس في إعلامه فائدة إلا تمكينه من استيفاء حقه كما لو علم فإن له أن يعاقب إما بالمثل إن أمكن أو بالتعزير أو بالحد . وإذا كان في الإيفاء من الجنس مفسدة عدل إلى غير الجنس ، كما في القذف والفرية والجراح إذا خيف الحيف .

وهنا قد لا يكون حقه إلا في غير الجنس ، أما العقوبة أو الأخذ من الحسنات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { من كانت عنده مظلمة لأخيه في دم أو مال أو عرض فليأته فليستحله قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات ، فإن كان له حسنات أخذ من حسنات صاحبه فأعطيها وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته فألقيت على صاحبه ثم يلقى في النار } وإذا كان كذلك فيعطيه في الدنيا حسنة بدل الحسنة { إن الحسنات يذهبن السيئات } فالدعاء له والاستغفار إحسان إليه ، وكذلك الثناء عليه بدل الذم له ، وهذا عام فيمن طعن على شخص أو لعنه أو تكلم بما يؤذيه أمرا أو خبرا بطريق الاقتداء أو التحضيض أو غير ذلك ، فإن أعمال اللسان أعظم من أعمال اليد حيا أو ميتا ، حتى ولو كان ذلك بتأويل أو شبهة ثم بان له الخطأ ، فإن كفارة ذلك أن يقابل الإساءة إليه بالإحسان بالشهادة له بما فيه من الخير والشفاعة له بالدعاء ، فيكون الثناء والدعاء بدل الطعن واللعن .

ويدخل في هذا الطعن [ ص: 579 ] واللعن الجاري بتأويل سائغ أو غير سائغ ، كالتكفير والتفسيق ونحو ذلك مما يقع بين المتكلمين في أصول الدين وفروعه ، كما يقع بين أصناف الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وغيرهم من أنواع أهل العلم والنهى ، من كلام بعضهم في بعض تارة بتأويل مجرد وتارة بتأويل مشوب بهوى وتارة بهوى محض ، بل تخاصم هذا الضرب بالكلام والكتب كتخاصم غيرهم بالأيدي والسلاح ، وهو شبيه بقتال أهل العدل والبغي والطائفتين الباغيتين والعادلتين من وجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية