الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : [ حقيقة التفكر ] : حقيقة التفكر هنا ترديد العلم في القلب بالخبر عنه .

                                                                                                                                                                                                              والكلام حقيقة هو ما يجري في النفس ، والحروف والأصوات عبارة عنه ، وأقل ما يحضر في القلب من العلم علمان اثنان : أحدهما نسق الآخر ، ومثاله أن يعلم أن الجنة مطلوبة ، وأن الموصل إليها آكد العمل الصالح ، فحينئذ يجتهد في العمل ; وآكد من هذا أن تعلم الإيمان بالله بمعرفته ومعرفة صفاته وأفعاله ، وملكوته في أرضه وسمائه ; ولا يحصل ذلك إلا بالنظر في مخلوقاته ، وهي لا تحصى كثرة ; وأمهاتها السموات ، فترى كيف بنيت وزينت من غير فطور ورفعت بغير عمد ، وخولف مقدار كواكبها ، ونصبت سائرة شارقة وغاربة نيرة ، وممحوة ; كل ذلك بحكمة ومنفعة .

                                                                                                                                                                                                              والأرض فانظر إليها كيف وضعت فراشا ، ووطئت مهادا ، وجعلت كفاتا ، وأنبتت معاشا ، وأرسيت بالجبال ، وزينت بالنبات ، وكرمت بالأقوات ، وأرصدت لتصرف الحيوانات ومعاشها ; وكل جزء من ذلك فيه عبرة تستغرق الفكرة : والحيوان أحد قسمي المخلوقات ، والثاني الجمادات ; فانظر في أصنافها ، واختلاف أنواعها وأجناسها ، وانقيادها وشرسها ، وتسخيرها في الانتفاع بها ، زينة وقوتا ، وتقلبا في الأرض . [ ص: 353 ]

                                                                                                                                                                                                              والبحار أعظم المخلوقات عبرة ، وأدلها على سعة القدرة في سعتها ، واختلاف خلقها ، وتسيير الفلك فيها ، وخروج الرزق منها ، والانتفاع في الانتقال إلى البلاد البعيدة بالأثقال الوئيدة بها .

                                                                                                                                                                                                              والهواء فإنه خلق محسوس به قوام الروح في الآدمي وحيوان البر ، كما أن الماء قوام لروح حيوان البحر ، فإذا فارق كل واحد منهما قوامه هلك ، وانظر إلى ركوده ثم اضطرابه ، وهو بالريح .

                                                                                                                                                                                                              والإنسان أقربها إليها نظرا ، وأكثرها إن بحث عبرا ، فلينظر إلى نفسه من حين كونها ماء دافقا إلى كونه خلقا سويا ، يعان بالأغذية ، ويربى بالرفق ، ويحفظ باللبن حتى يكتسب القوى ، ويبلغ الأشد ; فإذا به قد قال أنا وأنا ، ونسي حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، وسيعود مقبورا . وهذا زمان وسط بينهما ، فيا ويحه إن كان محسورا فينظر حينئذ أنه عبد مربوب ، مكلف مخوف بالعذاب إن قصر ، مرجى بالثواب إن ائتمر ، فيقبل على عبادة مولاه ، فإنه وإن كان لا يراه يراه ، ولا يخشى الناس فالله أحق أن يخشاه ، ولا يتكبر على أحد من عباد الله فإنه مؤلف من أقذار ، مشحون من أوضار ، صائر إلى جنة إن أطاع ، أو إلى نار . ولذلك كان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكمية التي جمعت هذه الأوصاف العلمية :

                                                                                                                                                                                                              كيف يزهى من رجيعه أبد الدهر ضجيعه     فهو منه وإليه
                                                                                                                                                                                                              وأخوه ورضيعه     وهو يدعوه إلى الحش
                                                                                                                                                                                                              بصغر فيطيعه



                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية