الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 437 ] ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( 35 ) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ( 36 ) أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ( 37 ) أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ( 38 ) أم له البنات ولكم البنون ( 39 ) أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ( 40 ) أم عندهم الغيب فهم يكتبون ( 41 ) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون ( 42 ) أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون ( 43 ) )

هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية ، فقال تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) أي : أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم ؟ أي : لا هذا ولا هذا ، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا .

قال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان قال : حدثوني عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ) كاد قلبي أن يطير .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق ، عن الزهري ، به . وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وقعة بدر في فداء الأسارى ، وكان إذ ذاك مشركا ، وكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك .

ثم قال تعالى : ( أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) أي : أهم خلقوا السماوات والأرض ؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله ، وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له . ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك ، ( أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ) أي : أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن ، ( أم هم المسيطرون ) أي : المحاسبون للخلائق ، ليس الأمر كذلك ، بل الله عز وجل ، هو المالك المتصرف الفعال لما يريد .

وقوله : ( أم لهم سلم يستمعون فيه ) أي : مرقاة إلى الملأ الأعلى ، ( فليأت مستمعهم بسلطان مبين ) أي : فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة .

على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال ، أي : وليس لهم سبيل إلى ذلك ، فليسوا على شيء ، ولا لهم دليل .

ثم قال منكرا عليهم فيما نسبوه إليه من البنات ، وجعلهم الملائكة إناثا ، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث ، بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم . هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله ، وعبدوهم مع الله ، فقال : ( أم له البنات ولكم البنون ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، ( أم تسألهم أجرا ) أي : أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله ؟ أي : لست تسألهم على ذلك شيئا ، ( فهم من مغرم مثقلون ) أي : فهم من أدنى شيء يتبرمون منه ، ويثقلهم ويشق عليهم ، ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون ) أي : ليس الأمر كذلك ، فإنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا الله ، ( أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون ) يقول تعالى : أم يريد هؤلاء بقولهم [ ص: 438 ] هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه ، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم ، فالذين كفروا هم المكيدون ، ( أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون ) . وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله . ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون ، فقال : ( سبحان الله عما يشركون )

التالي السابق


الخدمات العلمية