الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( 42 ) )

( مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ( 43 ) )

يقول تعالى ذكره : إنما يؤخر ربك يا محمد هؤلاء الظالمين الذين يكذبونك ويجحدون نبوتك ، ليوم تشخص فيه الأبصار . يقول : إنما يؤخر عقابهم وإنزال العذاب بهم ، إلى يوم تشخص فيه أبصار الخلق ، وذلك يوم القيامة .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ليوم تشخص فيه الأبصار ) شخصت فيه والله أبصارهم ، فلا ترتد إليهم .

وأما قوله ( مهطعين ) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : معناه : مسرعين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد المؤدب ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ( مهطعين ) قال : النسلان ، وهو الخبب ، أو ما دون الخبب ، شك أبو سعيد ، يخبون وهم ينظرون .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( مهطعين ) قال : مسرعين .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( مهطعين ) يقول : منطلقين عامدين إلى الداعي .

وقال آخرون : معنى ذلك : مديمي النظر .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( مهطعين ) يعني بالإهطاع : النظر من غير أن يطرف .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى ( مهطعين ) فقيل : الإهطاع : التحميج الدائم الذي لا يطرف .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن أبي الخير بن تميم بن حدلم ، عن أبيه ، في قوله ( مهطعين ) قال : [ ص: 30 ] الإهطاع : التحميج .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ( مهطعين ) قال : شدة النظر الذي لا يطرف .

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله ( مهطعين ) قال : شدة النظر في غير طرف .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( مهطعين ) الإهطاع : شدة النظر في غير طرف .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( مهطعين ) قال : مديمي النظر .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك : لا يرفع رأسه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( مهطعين ) قال : المهطع الذي لا يرفع رأسه . والإهطاع في كلام العرب بمعنى الإسراع أشهر منه : بمعنى إدامة النظر ، ومن الإهطاع بمعنى الإسراع ، قول الشاعر :


وبمهطع سرح كأن زمامه في رأس جذع من أول مشدب

[ ص: 31 ] وقول الآخر :


بمستهطع رسل كأن جديله     بقيدوم رعن من صوام ممنع

وقوله : ( مقنعي رءوسهم ) يعني رافعي رءوسهم . وإقناع الرأس : رفعه ، ومنه قول الشماخ :


يباكرن العضاة بمقنعات     نواجذهن كالحدإ الوقيع

يعني : أنهن يباكرن العضاة برؤسهن مرفوعات إليها لتتناول منها ، ومنه أيضا قول الراجز :


أنغض نحوي رأسه وأقنعا     كأنما أبصر شيئا أطمعا

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( مقنعي رءوسهم ) قال : [ ص: 32 ] الإقناع : رفع رءوسهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحسين بن محمد ، قال : ثنا ورقاء ، وقال الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله ( مقنعي رءوسهم ) قال : رافعيها .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر ، عن أبي سعد ، قال : قال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد .

حدثني المثنى ، قال : ثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عثمان بن الأسود ، أنه سمع مجاهدا يقول في قوله ( مهطعين مقنعي رءوسهم ) قال : رافعا رأسه هكذا ، ( لا يرتد إليهم طرفهم ) .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر عن الضحاك ، في قوله ( مقنعي رءوسهم ) قال : رافعي رءوسهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( مقنعي رءوسهم ) قال : الإقناع رفع رءوسهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( مقنعي رءوسهم ) قال : المقنع الذي يرفع رأسه شاخصا بصره لا يطرف .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله ( مقنعي رءوسهم ) قال : رافعيها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( مقنعي رءوسهم ) قال : المقنع الذي يرفع رأسه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ( مقنعي رءوسهم ) قال : رافعي رءوسهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد ، عن سالم ، عن سعيد ( مقنعي رءوسهم ) قال : رافعي رءوسهم .

وقوله : ( لا يرتد إليهم طرفهم ) يقول : لا ترجع إليهم لشدة النظر أبصارهم .

[ ص: 33 ] كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ) قال : شاخصة أبصارهم .

وقوله : ( وأفئدتهم هواء ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : متخرقة لا تعي من الخير شيئا .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، في قوله ( وأفئدتهم هواء ) قال : متخرقة لا تعي شيئا .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا مالك بن مغول ، عن أبي إسحاق ، عن مرة بمثل ذلك .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، مثله .

حدثنا محمد بن عمارة ، قال : ثنا سهل بن عامر ، قال : ثنا مالك وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ( وأفئدتهم هواء ) قال : متخرقة لا تعي شيئا من الخير .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : ثنا مالك ، يعني ابن مغول ، قال : سمعت أبا إسحاق ، عن مرة إلا أنه قال : لا تعي شيئا . ولم يقل من الخير .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، مثله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا مالك بن مغول ، وإسرائيل عن أبي إسحاق ، عن مرة ( وأفئدتهم هواء ) قال أحدهما : خربة ، وقال الآخر : متخرقة لا تعي شيئا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وأفئدتهم هواء ) قال : ليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة .

[ ص: 34 ] حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ليس من الخير شيء في أفئدتهم ، كقولك للبيت الذي ليس فيه شيء إنما هو هواء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله ( وأفئدتهم هواء ) قال : الأفئدة : القلوب هواء كما قال الله ، ليس فيها عقل ولا منفعة .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي بكرة ، عن أبي صالح ( وأفئدتهم هواء ) قال : ليس فيها شيء من الخير .

وقال آخرون : إنها لا تستقر في مكان تردد في أجوافهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق ، قالا حدثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ( وأفئدتهم هواء ) قال : تمور في أجوافهم ، ليس لها مكان تستقر فيه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد ، عن سالم ، عن سعيد بنحوه .

وقال آخرون : معنى ذلك : أنها خرجت من أماكنها فنشبت بالحلوق .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق ، قالا حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن إسرائيل ، عن سعيد ، عن مسروق عن أبي الضحى ( وأفئدتهم هواء ) قال : قد بلغت حناجرهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله ( وأفئدتهم هواء ) قال : هواء ليس فيها شيء ، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وأفئدتهم هواء ) انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ، ولا تعود إلى أمكنتها .

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل ذلك قول من قال : معناه : أنها خالية ليس فيها شيء من الخير ، ولا تعقل شيئا ، وذلك أن العرب تسمي [ ص: 35 ] كل أجوف خاو : هواء ، ومنه قول حسان بن ثابت :


ألا أبلغ أبا سفيان عني     فأنت مجوف نخب هواء

ومنه قول الآخر :


ولا تك من أخدان كل براعة     هواء كسقب البان جوف مكاسره

التالي السابق


الخدمات العلمية