الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ( 9 ) ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 10 ) )

يقول تعالى ذكره : يجادل هذا الذي يجادل في الله بغير علم ( ثاني عطفه ) .

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله وصف بأنه يثني عطفه ، وما المراد من وصفه إياه بذلك ، فقال بعضهم : وصفه بذلك لتكبره وتبختره ، وذكر عن العرب أنها تقول : جاءني فلان ثاني عطفه : إذا جاء متبخترا من الكبر .

ذكر من قال ذلك : حدثني علي قال : ثنا عبد الله قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله ( ثاني عطفه ) يقول : مستكبرا في نفسه .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : لاو رقبته .

ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( ثاني عطفه ) قال : رقبته .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة ( ثاني عطفه ) قال : لاو عنقه .

حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك أنه يعرض عما يدعى إليه فلا يسمع له .

ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : [ ص: 574 ] ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( ثاني عطفه ) يقول : يعرض عن ذكري .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ( ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله ) قال : لاويا رأسه ، معرضا موليا ، لا يريد أن يسمع ما قيل له ، وقرأ ( وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا ) .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قوله ( ثاني عطفه ) قال : يعرض عن الحق .

قال أبو جعفر : وهذه الأقوال الثلاثة متقاربات المعنى ، وذلك أن من كان ذا استكبار فمن شأنه الإعراض عما هو مستكبر عنه ولي عنقه عنه والإعراض .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هذا المخاصم في الله بغير علم أنه من كبره إذا دعي إلى الله ، أعرض عن داعيه ، لوى عنقه عنه ولم يسمع ما يقال له استكبارا .

وقوله ( ليضل عن سبيل الله ) يقول تعالى ذكره : يجادل هذا المشرك في الله بغير علم معرضا عن الحق استكبارا ، ليصد المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم له ويستزلهم عنه ، ( له في الدنيا خزي ) يقول جل ثناؤه : لهذا المجادل في الله بغير علم في الدنيا خزي ، وهو القتل والذل والمهانة بأيدي المؤمنين ، فقتله الله بأيديهم يوم بدر .

كما حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج قوله ( في الدنيا خزي ) قال : قتل يوم بدر .

وقوله ( ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ) يقول تعالى ذكره : ونحرقه يوم القيامة بالنار . وقوله ( ذلك بما قدمت يداك ) يقول جل ثناؤه : ويقال له إذا أذيق عذاب النار يوم القيامة : هذا العذاب الذي نذيقكه اليوم بما قدمت يداك في الدنيا من الذنوب والآثام ، واكتسبته فيها من الإجرام ( وأن الله ليس بظلام للعبيد ) يقول : وفعلنا ذلك لأن الله ليس بظلام للعبيد ، فيعاقب بعض [ ص: 575 ] عبيده على جرم ، وهو يغفر مثله من آخر غيره ، أو يحمل ذنب مذنب على غير مذنب ، فيعاقبه به ويعفو عن صاحب الذنب ، ولكنه لا يعاقب أحدا إلا على جرمه ، ولا يعذب أحدا على ذنب يغفر مثله لآخر إلا بسبب استحق به منه مغفرته .

التالي السابق


الخدمات العلمية