الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب من بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا

                                                                                                                                                                                                        6786 حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنياه إن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له ورجل يبايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدقه فأخذها ولم يعط بها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( باب من بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا ) أي ولا يقصد طاعة الله في مبايعة من يستحق الإمامة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : عن أبي حمزة ) بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( عن أبي صالح ) في رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش " سمعت أبا صالح يقول سمعت أبا هريرة كما تقدم في " كتاب الشرب " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ) زاد جرير عن الأعمش " ولا ينظر إليهم " وسقط من روايته " يوم القيامة " وقد مر في الشهادات وفي رواية عبد الواحد " لا ينظر الله إليهم يوم القيامة " وسقط من روايته ولا يكلمهم وثبت الجميع لأبي معاوية عن الأعمش عند مسلم على وفق الآية التي في آل عمران ، وقال : في آخر الحديث . ثم قرأ هذه الآية إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا يعني إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل ) في رواية عبد الواحد " رجل كان له فضل ماء منعه من ابن السبيل " والمقصود واحد وإن تغاير المفهومان لتلازمهما لأنه إذا منعه من الماء فقد منع الماء منه ، وقد تقدم الكلام عليه في " كتاب الشرب " ووقع في رواية أبي معاوية " بالفلاة " وهي المراد بالطريق في هذه الرواية . وفي رواية عمرو بن دينار عن أبي صالح في الشرب أيضا . ورجل منع فضل ماء فيقول الله تعالى له " اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك " وقد تقدم الكلام عليه في الشرب أيضا ، وتقدم شيء من فوائده في " كتاب ترك الحيل " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ورجل بايع إماما ) في رواية عبد الواحد " إمامه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إن أعطاه ما يريد وفى له ) في رواية عبد الواحد " رضي " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : وإلا لم يف له ) في رواية عبد الواحد " سخط " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ورجل بايع رجلا ) في رواية المستملي والسرخسي " يبايع " بصيغة المضارعة ، وفي رواية عبد الواحد " أقام سلعة بعد العصر " وفي رواية جرير " ورجل ساوم رجلا سلعة بعد العصر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فحلف بالله ) في رواية عبد الواحد فقال : والله الذي لا إله غيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لقد أعطي بها كذا وكذا ) وقع مضبوطا بضم الهمزة وكسر الطاء على البناء للمجهول ، وكذا قوله في [ ص: 215 ] آخر الحديث " ولم يعط " بضم أوله وفتح الطاء ، وفي بعضها بفتح الهمزة والطاء على البناء للفاعل والضمير للحالف وهي أرجح ، ووقع في رواية عبد الواحد بلفظ " لقد أعطيت بها " وفي رواية أبي معاوية ; فحلف له بالله " لأخذها بكذا " أي لقد أخذها ، وفي رواية عمرو بن دينار عن أبي صالح " لقد أعطي بها أكثر مما أعطى " وضبط بفتح الهمزة والطاء ، وفي بعضها بضم أوله وكسر الطاء ، والأول أرجح .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فصدقه وأخذها ) أي المشتري ( ولم يعط بها ) أي القدر الذي حلف أنه أعطى عوضها ، وفي رواية أبي معاوية " فصدقه " وهو على غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                        تنبيهان :

                                                                                                                                                                                                        أحدهما خالف الأعمش في سياق هذا المتن عمرو بن دينار عن أبي صالح فمضى في الشرب ويأتي في التوحيد من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة نحو صدر حديث الباب وقال فيه ورجل على سلعة الحديث ورجل منع فضل ماء الحديث . ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم قال الكرماني ذكر عوض الرجل الثاني وهو المبايع للإمام آخر ، وهو الحالف ليقتطع مال المسلم وليس ذلك باختلاف ، لأن التخصيص بعدد لا ينفي ما زاد عليه انتهى . ويحتمل أن يكون كل من الراويين حفظ ما لم يحفظ الآخر ، لأن المجتمع من الحديثين أربع خصال ، وكل من الحديثين مصدر بثلاثة ، فكأنه كان في الأصل أربعة ، فاقتصر كل من الراويين على واحد ضمه مع الاثنين اللذين توافقا عليهما فصار في رواية كل منهما ثلاثة ، ويؤيده ما سيأتي في التنبيه الثاني .

                                                                                                                                                                                                        ثانيهما : أخرج مسلم هذا الحديث من رواية الأعمش أيضا لكن عن شيخ له آخر بسياق آخر ، فذكر من طريق أبي معاوية ووكيع جميعا عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة كصدر حديث الباب ، لكن قال : شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر والظاهر أن هذا حديث آخر أخرجه من هذا الوجه عن الأعمش فقال عن سليمان بن مسهر ، عن خرشة بن الحر ، عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة : المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه ، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر ، والمسبل إزاره " وليس هذا الاختلاف على الأعمش فيه بقادح ، لأنها ثلاثة أحاديث عنده بثلاثة طرق ، ويجتمع من مجموع هذه الأحاديث تسع خصال ويحتمل أن تبلغ عشرا ; لأن المنفق سلعته بالحلف الكاذب مغاير للذي حلف لقد أعطي بها كذا ; لأن هذا خاص بمن يكذب في أخبار الشراء ، والذي قبله أعم منه فتكون خصلة أخرى ، قال النووي قيل معنى " لا يكلمهم الله " تكليم من رضا عنه بإظهار الرضا بل بكلام يدل على السخط ، وقيل المراد أنه يعرض عنهم ، وقيل لا يكلمهم كلاما يسرهم ، وقيل : لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية ومعنى لا ينظر إليهم : يعرض عنهم ، ومعنى نظره لعباده : رحمته لهم ولطفه بهم ، ومعنى لا يزكيهم : لا يطهرهم من الذنوب وقيل لا يثني عليهم ، والمراد بابن السبيل : المسافر المحتاج إلى الماء ، لكن يستثنى منه الحربي والمرتد إذا أصرا على الكفر ، فلا يجب بذل الماء لهما ، وخص بعد العصر بالحلف لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار وغير ذلك ، وأما الذي بايع الإمام بالصفة المذكورة فاستحقاقه هذا الوعيد لكونه غش إمام المسلمين ; ومن لازم غش الإمام غش الرعية لما فيه من التسبب إلى إثاره الفتنة ، ولا سيما إن كان ممن يتبع على ذلك ، انتهى . ملخصا . وقال الخطابي : خص وقت العصر بتعظيم الإثم فيه ، وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت ، لأن الله عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه وهو وقت ختام الأعمال ، والأمور بخواتيمها فغلظت العقوبة فيه لئلا يقدم عليها تجرؤا ، فإن من تجرأ عليها فيه اعتادها [ ص: 216 ] في غيره ، وكان السلف يحلفون بعد العصر ; وجاء ذلك في الحديث أيضا ، وفي الحديث وعيد شديد في نكث البيعة ، والخروج على الإمام لما في ذلك من تفرق الكلمة ، ولما في الوفاء من تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء ، والأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فمن جعل مبايعته لمال يعطاه دون ملاحظة المقصود في الأصل فقد خسر خسرانا مبينا ودخل في الوعيد المذكور وحاق به إن لم يتجاوز الله عنه ، وفيه أن كل عمل لا يقصد به وجه الله وأريد به عرض الدنيا فهو فاسد وصاحبه آثم ، والله الموفق .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية