الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6856 حدثني إسماعيل حدثني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه قال سأستأذن لك عليه قال ابن عباس فاستأذن لعيينة فلما دخل قال يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم بأن يقع به فقال الحر يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " وإن هذا من الجاهلين فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الحادي عشر : قوله ( حدثنا إسماعيل ) هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي واسم " أبي أويس " عبد الله المدني الأصبحي ، و " ابن وهب " هو عبد الله المصري و " يونس " هو ابن يزيد الأيلي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( قدم عيينة ) بتحتانية ونون مصغرا ( ابن حصن ) بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين ثم نون ( ابن حذيفة بن بدر ) يعني الفزاري معدود في الصحابة ، وكان في الجاهلية موصوفا بالشجاعة والجهل والجفاء ، وله ذكر في " المغازي " ثم أسلم في الفتح وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا فأعطاه مع المؤلفة وإياه عنى العباس بن مرداس السلمي بقوله :

                                                                                                                                                                                                        أتجعل نهبي ونهب العب يد بين عيينة والأقرع



                                                                                                                                                                                                        وله ذكر مع الأقرع بن حابس سيأتي قريبا في " باب ما يكره من التعمق " وله قصة مع أبي بكر وعمر حين سأل أبا بكر أن يعطيه أرضا يقطعه إياها فمنعه عمر ، وقد ذكره البخاري في " التاريخ الصغير " وسماه النبي صلى الله عليه وسلم " الأحمق المطاع " وكان عيينة ممن وافق طليحة الأسدي لما ادعى النبوة ، فلما غلبهم المسلمون في قتال أهل الردة فر طليحة وأسر عيينة ، فأتي به أبا بكر فاستتابه فتاب ، وكان قدومه إلى المدينة على عمر بعد أن استقام أمره وشهد الفتوح ، وفيه من جفاء الأعراب شيء .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( على ابن أخيه الحر ) بلفظ ضد العبد ، و " قيس " والد الحر لم أر له ذكرا في الصحابة ، وكأنه مات في الجاهلية ، والحر ذكره في الصحابة أبو علي بن السكن وابن شاهين ، وفي العتبية عن مالك قدم عيينة بن حصن المدينة ، فنزل على ابن أخ له أعمى فبات يصلي فلما أصبح غدا إلى المسجد فقال عيينة كان ابن أخي عندي أربعين سنة لا يطيعني ، فما أسرع ما أطاع قريشا ، وفي هذا إشعار بأن أباه مات في الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ) بين بعد ذلك السبب بقوله ( وكان القراء ) أي العلماء العباد ( أصحاب مجلس عمر ) فدل على أن الحر كان متصفا بذلك ، وتقدم في آخر سورة الأعراف ضبط قوله " أو شبانا " وأنه بالوجهين ، وقوله " ومشاورته " بالشين المعجمة وبفتح الواو ويجوز كسرها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : هل لك وجه عند هذا الأمير ) هذا من جملة جفاء عيينة إذ كان من حقه أن ينعته بأمير المؤمنين ولكنه لا يعرف منازل الأكابر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فتستأذن لي عليه ) أي في خلوة ، وإلا فعمر كان لا يحتجب إلا وقت خلوته وراحته ، ومن ثم قال له سأستأذن لك عليه ، أي حتى تجتمع به وحدك .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 273 ] قوله : قال ابن عباس فاستأذن لعيينة ) أي الحر ، وهو موصول بالإسناد المذكور .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فلما دخل قال يا ابن الخطاب ) في رواية شعيب عن الزهري الماضية في آخر تفسير الأعراف ، فقال : هي ، بكسر ثم سكون وفي بعضها " هيه " بكسر الهاءين بينهما تحتانية ساكنة ، قال النووي بعد أن ضبطها هكذا : هي ، كلمة تقال في الاستزادة ويقال بالهمزة بدل الهاء الأولى ، وسبق إلى ذلك قاسم بن ثابت في " الدلائل " كما نقله صاحب المشارق فقال في قول ابن الزبير إيها قوله " إيه " بهمز مكسور مع التنوين كلمة استزادة من حديث لا يعرف ، وتقول : إيها عنا " بالنصب أي كف ، قال وقال يعقوب يعني ابن السكيت تقول لمن استزدته ، من عمل أو حديث " إيه " فإن وصلت نونت فقلت " إيه حدثنا " وحكاه كذا في النهاية وزاد فإذا قلت " إيها " بالنصب فهو أمر بالسكوت ، وقال الليث قد تكون كلمة استزادة وقد تكون كلمة زجر كما قال : إيه عنا أي كف ، وقال الكرماني : هيه هنا بكسر الهاء الأولى ، وفي بعض النسخ بهمزة بدلها وهو من أسماء الأفعال ، تقال لمن تستزيده ، كذا قال ولم يضبط الهاء الثانية ، ثم قال وفي بعض النسخ هي بحذف الهاء الثانية والمعنى واحد ، أو هو ضمير لمحذوف أي هي داهية أو القصة هذه انتهى . واقتصر شيخنا ابن الملقن في شرحه على قوله : هي يا ابن الخطاب " بمعنى التهديد له ووقع في تنقيح الزركشي فقال " هئ يا ابن الخطاب " بكسر الهاء وآخره همزة مفتوحة ، تقول للرجل إذا استزدته " هيه وإيه " انتهى . وقوله وآخره همزة مفتوحة لا وجه له ولعله من الناسخ أو سقط من كلامه شيء ، والذي يقتضيه السياق أنه أراد بهذه الكلمة الزجر وطلب الكف لا الازدياد ، وقد تقدم شيء من الكلام على هذه الكلمة في مناقب عمر وقوله " يا ابن الخطاب " هذا أيضا من جفائه حيث خاطبه بهذه المخاطبة وقوله " والله ما تعطينا الجزل " بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها لام أي الكثير ، وأصل الجزل ما عظم من الحطب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ولا تحكم ) في رواية غير الكشميهني " وما " بالميم بدل اللام .

                                                                                                                                                                                                        قوله : حتى هم بأن يقع به ) أي يضربه ، وفي رواية شعيب عن الزهري في التفسير " حتى هم به " وفي رواية فيه " حتى هم أن يوقع به " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فقال الحر يا أمير المؤمنين ) في رواية شعيب المذكورة " فقال له الحر " وفي رواية الإسماعيلي من طريق بشر بن شعيب عن أبيه عن الزهري " فقال الحر بن قيس . قلت : يا أمير المؤمنين " وهذا يقتضي أن يكون من رواية ابن عباس عن الحر ، وأنه ما حضر القصة بل حملها عن صاحبها وهو الحر ، وعلى هذا فينبغي أن يترجم للحر في رجال البخاري ولم أر من فعله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : إن الله قال لنبيه ) فذكر الآية ثم قال : وإن هذا من الجاهلين ، أي فأعرض عنه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فوالله ما جاوزها ) هو كلام ابن عباس فيما أظن وجزم شيخنا ابن الملقن بأنه كلام الحر وهو محتمل ويؤيده رواية الإسماعيلي المشار إليها ، ومعنى " ما جاوزها " ما عمل بغير ما دلت عليه بل عمل بمقتضاها ولذلك قال " وكان وقافا عند كتاب الله " أي يعمل بما فيه ولا يتجاوزه ، وفي هذا تقوية لما ذهب إليه الأكثر أن هذه الآية محكمة ، قال الطبري بعد أن أورد أقوال السلف في ذلك وأن منهم من ذهب إلى أنها منسوخة بآية القتال ، والأولى بالصواب أنها غير منسوخة لأن الله أتبع ذلك تعليمه نبيه محاجة المشركين ولا دلالة على النسخ ، فكأنها نزلت لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من لم يؤمر بقتاله من المشركين أو أريد به تعليم المسلمين ، وأمرهم بأخذ [ ص: 274 ] العفو من أخلاقهم فيكون تعليما من الله لخلقه صفة عشرة بعضهم بعضا فيما ليس بواجب ، فأما الواجب فلا بد من عمله فعلا أو تركا انتهى . ملخصا . وقال الراغب " خذ العفو " معناه خذ ما سهل تناوله ، وقيل تعاط العفو مع الناس ، والمعنى خذ ما عفي لك من أفعال الناس وأخلاقهم وسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا ، وهو كحديث يسروا ولا تعسروا ومنه قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                        خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سوأتي حين أغضب

                                                                                                                                                                                                        .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج ابن مردويه من حديث جابر وأحمد من حديث عقبة بن عامر لما نزلت هذه الآية سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة ؟ قالوا : وما ذاك ، فذكره قال الطيبي ما ملخصه أمر الله نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر أمته بنحو ما أمره الله به ، ومحصلهما الأمر بحسن المعاشرة مع الناس وبذل الجهد في الإحسان إليهم والمداراة معهم والإغضاء عنهم وبالله التوفيق . وقد تقدم الكلام على معنى العرف المأمور به في الآية مستوفى في التفسير .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية