الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها

                                                                                                                                                                                                        3604 حدثني محمد أخبرنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه قال سمعت عبد الله بن جعفر قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ح حدثني صدقة أخبرنا عبدة عن هشام عن أبيه قال سمعت عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة [ ص: 166 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 166 ] " 5736 " [ ص: 167 ] قوله : ( باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها ) كذا في النسخ " تزويج " ، وتفعيل قد يجيء بمعنى تفعل وهو المراد هنا ، أو فيه حذف تقديره تزويجه من نفسه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( خديجة ) هي أول من تزوجها - صلى الله عليه وسلم - ، وهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، تجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي ، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب ; ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة ، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده في قول الجمهور ، زوجه إياها أبوها خويلد ذكره البيهقي من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر ، وقيل : عمها عمرو بن أسد ذكره الكلبي ، وقيل : أخوها عمرو بن خويلد ذكره ابن إسحاق ، وكانت قبله عند أبي هالة بن النباش بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار ، واختلف في اسم أبي هالة فقيل : مالك . قاله الزبير ، وقيل : زرارة حكاه ابن منده ، وقيل : هند . جزم به العسكري ، وقيل : اسمه النباش . جزم به أبو عبيد ، وابنه هند روى عنه الحسن بن علي فقال : " حدثني خالي " لأنه أخو فاطمة لأمها ، ولهند هذا ولد اسمه هند ذكره الدولابي وغيره ، فعلى قول العسكري فهو ممن اشترك مع أبيه وجده في الاسم ، ومات أبو هالة في الجاهلية ، وكانت خديجة قبله عند عتيق بن عائذ المخزومي ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها مقارضا إلى الشام ، فرأى منه ميسرة غلامها ما رغبها في تزوجه .

                                                                                                                                                                                                        قال الزبير : وكانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة ، وماتت على الصحيح بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان ، وقيل : بثمان ، وقيل : بسبع ، فأقامت معه - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعشرين سنة على الصحيح ، وقال ابن عبد البر : أربعا وعشرين سنة وأربعة أشهر ، وسيأتي من حديث عائشة ما يؤيد الصحيح في أن موتها قبل الهجرة بثلاث سنين ، وذلك بعد المبعث على الصواب بعشر سنين ، وقد تقدم في أبواب بدء الوحي بيان تصديقها للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أول وهلة ، ومن ثباتها في الأمر ما يدل على قوة يقينها ووفور عقلها وصحة عزمها ، لا جرم كانت أفضل نسائه على الراجح ، وقد تقدم في ذكر مريم من أحاديث الأنبياء بيان شيء من هذا .

                                                                                                                                                                                                        وروى الفاكهي في " كتاب مكة " عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أبي طالب ، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له ، وبعث بعده جارية له يقال لها : نبعة فقال لها : انظري ما تقول له خديجة ؟ قالت نبعة : فرأيت عجبا ، ما هو إلا أن سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت : بأبي وأمي ، والله ما أفعل هذا لشيء ، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث ، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي . قالت : فقال لها : والله لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا ، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث لا تصريح فيها بما في الترجمة ، إلا أن ذلك يؤخذ بطريق اللزوم من قول عائشة : " ما غرت على امرأة " ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - " وكان لي منها ولد " وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                        الحديث الأول قوله : ( حدثني محمد ) هو ابن سلام كما جزم به ابن السكن ، وعبدة هو ابن سليمان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سمعت عبد الله بن جعفر ) هو ابن أبي طالب ، ووقع عند عبد الرزاق عن ابن جريج " عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن جعفر " وهو من المزيد في متصل الأسانيد لتصريح عبدة في هذه الرواية بسماع عروة عن عبد الله بن جعفر .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 168 ] : ( سمعت علي بن أبي طالب ) زاد مسلم من رواية أبي أسامة عن هشام " بالكوفة " واتفق أصحاب هشام على ذكر علي فيه " ، وقصر به محمد بن إسحاق فرواه عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم لكن بلفظ مغاير لهذا اللفظ ، فالظاهر أنهما حديثان ، وفي الإسناد رواية تابعي عن تابعي هشام عن أبيه وصحابي عن صحابي عبد الله بن جعفر عن عمه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة ) قال القرطبي : الضمير عائد على غير مذكور ، لكنه يفسره الحال والمشاهدة ، يعني به الدنيا . وقال الطيبي : الضمير الأول يعود على الأمة التي كانت فيها مريم والثاني على هذه الأمة . قال ولهذا كرر الكلام تنبيها على أن حكم كل واحدة منها غير حكم الأخرى . قلت : ووقع عند مسلم من رواية وكيع عن هشام في هذا الحديث " وأشار وكيع إلى السماء والأرض " فكأنه أراد أن يبين أن المراد نساء الدنيا ، وأن الضميرين يرجعان إلى الدنيا ، وبهذا جزم القرطبي أيضا . وقال الطيبي : أراد أنهما خير من تحت السماء وفوق الأرض من النساء ، قال : ولا يستقيم أن يكون تفسيرا لقوله : نسائها ؛ لأن هذا الضمير لا يصلح أن يعود إلى السماء ، كذا قال . ويحتمل أن يريد أن الضمير الأول يرجع إلى السماء والثاني إلى الأرض إن ثبت أن ذلك صدر في حياة خديجة وتكون النكتة في ذلك أن مريم ماتت فعرج بروحها إلى السماء ، فلما ذكرها أشار إلى السماء ، وكانت خديجة إذ ذاك في الحياة فكانت في الأرض فلما ذكرها أشار إلى الأرض ، وعلى تقدير أن يكون بعد موت خديجة فالمراد أنهما خير من صعد بروحهن إلى السماء وخير من دفن جسدهن في الأرض ، وتكون الإشارة عند ذكر كل واحدة منهما .

                                                                                                                                                                                                        والذي يظهر لي أن قوله : " خير نسائها " خبر مقدم والضمير لمريم فكأنه قال مريم خير نسائها أي نساء زمانها ، وكذا في خديجة . وقد جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها لما تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وذكر آسية من حديث أبي موسى رفعه كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية فقد أثبت في هذا الحديث الكمال لآسية كما أثبته لمريم ، فامتنع حمل الخيرية في حديث الباب على الإطلاق ، وجاء ما يفسر المراد صريحا ، فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين وهو حديث حسن الإسناد ، واستدل بهذا الحديث على أن خديجة أفضل من عائشة . قال ابن التين : ويحتمل أن لا تكون عائشة دخلت في ذلك لأنها كان لها عند موت خديجة ثلاث سنين ، فلعل المراد النساء البوالغ . كذا قال ، وهو ضعيف ، فإن المراد بلفظ النساء أعم من البوالغ ، ومن لم تبلغ أعم ممن كانت موجودة وممن ستوجد . وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل . قال القرطبي : لم يثبت في حق واحدة من الأربع أنها نبية إلا مريم .

                                                                                                                                                                                                        وقد أورد ابن عبد البر من وجه آخر عن ابن عباس رفعه سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية قال : وهذا حديث حسن يرفع الإشكال ، قال : ومن قال : إن مريم ليست بنبية أول هذا الحديث وغيره بأن " من " وإن لم تذكر في الخبر فهي مرادة . قلت : الحديث الثاني الدال على الترتيب ليس بثابت ، وأصله عند أبي داود والحاكم بغير صيغة ترتيب ، وقد يتمسك بحديث الباب من يقول : إن مريم ليست بنبية لتسويتها في حديث الباب بخديجة ، وليست خديجة بنبية بالاتفاق . والجواب أنه لا يلزم من التسوية في الخيرية التسوية في جميع الصفات ، وقد تقدم ما قيل في مريم في ترجمتها من أحاديث الأنبياء والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية