الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون

استئناف ابتدائي يذكر به شيء من ضلالهم ومحاولة تعجيزهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - بتعيين وقت الساعة .

ومناسبة هذا الاستئناف هي التعرض لتوقع اقتراب أجلهم في قوله وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم سواء أفسر الأجل بأجل إذهاب أهل الشرك من العرب في الدنيا ، وهو الاستئصال ، أم فسر بأجلهم وأجل بقية الناس وهو قيام الساعة ، فإن للكلام على الساعة مناسبة لكلا الأجلين .

وقد عرف من شنشنة المشركين إنكارهم البعث وتهكمهم بالرسول - عليه الصلاة والسلام - من أجل إخباره عن البعث وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة ، وقد جعلوا يسألون النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة ووقتها تعجيزا له ، لتوهمهم أنه لما أخبرهم بأمرها فهو يدعي العلم بوقتها ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون [ ص: 201 ] فالسائلون هم المشركون ، وروي ذلك عن قتادة ، والضمير يعود إلى الذين كذبوا بآياتنا ، وقد حكي عنهم مثل هذا السؤال في مواضع من القرآن كقوله - تعالى - في سورة النازعات يسألونك عن الساعة أيان مرساها وقوله عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون يعني البعث والساعة ، ومن المفسرين من قال : المعني بالسائلين اليهود أرادوا امتحان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن الساعة ، وهذا لا يكون سبب نزول الآية لأن هذه السورة مكية ، قيل كلها وقيل إن آيتين منها نزلتا بالمدينة ، ولم يعدوا هذه الآية فيما اختلف في مكان نزوله ، والسور التي حكي فيها مثل هذا السؤال مكية أيضا نازلة قبل هذه السورة .

والساعة معرفة باللام علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء هذا العالم الدنيوي والدخول في العالم الأخروي ، وتسمى : يوم البعث ، ويوم القيامة .

وأيان اسم يدل على السؤال عن الزمان وهو جامد غير متصرف مركب من " أي " الاستفهامية و " آن " وهو الوقت ، ثم خففت " أي " وقلبت همزة آن ياء ليتأتى الإدغام فصارت أيان بمعنى أي زمان ، ويتعين الزمان المسئول عنه بما بعد أيان ، ولذلك يتعين أن يكون اسم معنى لا اسم ذات ، إذ لا يخبر بالزمان عن الذات ، وأما استعمالها اسم شرط لعموم الأزمنة فذلك بالنقل من الاستفهام إلى الشرط كما نقلت متى من الاستفهام إلى الشرطية ، وهي توسيعات في اللغة تصير معاني متجددة . وقد ذكروا في اشتقاق أيان احتمالات يرجعون بها إلى معاني أفعال ، وكلها غير مرضية ، وما ارتأيناه هنا أحسن منها .

فقوله أيان خبر مقدم لصدارة الاستفهام ، و مرساها مبتدأ مؤخر ، وهو في الأصل مضاف إليه آن إذ الأصل : أي آن آن مرسى الساعة .

وجملة أيان مرساها في موضع نصب بقول محذوف دل عليه فعل يسألونك ، والتقدير : يقولون أيان مرساها ، وهو حكاية لقولهم بالمعنى ، ولذلك كانت الجملة في معنى البدل عن جملة يسألونك عن الساعة .

والمرسى مصدر ميمي من الإرساء وهو الإقرار يقال رسا الجبل ثبت وأرساه أثبته وأقره ، والإرساء الاستقرار بعد السير كما قال الأخطل :

[ ص: 202 ]

وقال رائدهم أرسوا نزاولها



ومرسى السفينة استقرارها بعد المخر قال - تعالى - بسم الله مجراها ومرساها ، وقد أطلق الإرساء هنا استعارة للوقوع تشبيها لوقوع الأمر الذي كان مترقبا أو مترددا فيه بوصول السائر في البر أو البحر إلى المكان الذي يريده .

وقد أمر الله رسوله بجوابهم جواب جد وإغضاء عن سوء قصدهم بالسؤال التهكم ، إظهارا لنفي الوصمة عن وصف النبوءة من جراء عدم العلم بوقت الساعة ، وتعليما للذين يترقبون أن يحصل من جواب الرسول عن سؤال المشركين علم للجميع بتعيين وقت الساعة فإذا أمر الساعة مما تتوجه النفوس إلى تطلبه فقد ورد في الصحيح أن رجلا من المسلمين سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال رسول الله : ماذا أعددت لها ؟ فقال : ما أعددت لها كبير عمل إلا أني أحب الله ورسوله فقال : أنت مع من أحببت .

وعلم الساعة هو علم تحديد وقتها كما ينبئ عنه السؤال ، وقوله لا يجليها لوقتها إلا هو ، فإضافة علم إلى ضمير الساعة على تقدير مضاف بينهما أي علم وقتها ، والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله . وظرفية " عند " مجازية استعملت في تحقيق تعلق علم الله بوقتها .

والحصر حقيقي : لأنه الأصل ، ولما دل عليه توكيده بعد في قوله قل إنما علمها عند الله ، والقصر الحقيقي يشتمل على معنى الإضافي وزيادة لأن علم الساعة بالتحديد مقصور على الله - تعالى - .

والتعريف بوصف الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم إيماء إلى الاستدلال على استئثار الله - تعالى - بعلم وقت الساعة دون الرسول المسئول ففيه إيماء إلى خطأهم وإلى شبهة خطأهم

و " التجلية " الكشف ، والمراد بها ما يشمل الكشف بالإخبار والتعيين ، والكشف بالإيقاع ، وكلاهما منفي الإسناد عن غير الله - تعالى - ، فهو الذي يعلم وقتها ، وهو الذي يظهرها إذا أراد ، فإذا أظهرها فقد أجلاها .

واللام في قوله لوقتها للتوقيت كالتي في قوله - تعالى - أقم الصلاة لدلوك الشمس ومعنى التوقيت ، قريب من معنى عند ، والتحقيق : أن معناه ناشئ عن معنى لام الاختصاص .

[ ص: 203 ] ومعنى اللام يناسب أحد معنيي الإجلاء ، وهو الإظهار ، لأنه الذي إذا حصل تم كشف أمرها وتحقق الناس أن القادر على إجلائها كان عالما بوقت حلولها .

وفصلت جملة لا يجليها لوقتها إلا هو لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة التأكيد والتقرير .

وقدم المجرور وهو " لوقتها " على فاعل " يجليها " الواقع استثناء مفرغا للاهتمام به تنبيها على أن تجلية أمرها تكون عند وقت حلولها لأنها تأتي بغتة .

وجملة ثقلت في السماوات والأرض معترضة لقصد الإفادة بهولها ، والإيماء إلى حكمة إخفائها .

وفعل ثقلت يجوز أن يكون لمجرد الإخبار بشدة أمرها كقوله ويذرون وراءهم يوما ثقيلا .

ويجوز أن يكون تعجيبا بصيغة فعل - بضم العين - فتقدر الضمة ضمة تحويل الفعل للتعجيب ، وإن كانت هي ضمة أصلية في الفعل ، فيكون من قبيل قوله كبرت كلمة تخرج من أفواههم .

والثقل مستعار للمشقة كما يستعار العظم والكبر ، لأن شدة وقع الشيء في النفوس ومشقته عليها تخيل لمن حلت به أنه حامل شيئا ثقيلا ، ومنه قوله - تعالى - إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا أي شديدا تلقيه وهو القرآن . ووصف الساعة بالثقل باعتبار ما هو مظروف في وقتها من الحوادث ، فوصفها بذلك مجاز عقلي ، والقرينة واضحة ، وهي كون الثقل بمعنى الشدة لا يكون وصفا للزمان ، ولكنه وصف للأحداث ، فإذا أسند إلى الزمان ، فإسناده إليه إنما هو باعتباره ظرفا للأحداث ، كقوله وقال هذا يوم عصيب .

وثقل الساعة أي شدتها هو عظم ما يحدث فيها من الحوادث المهولة في السماوات والأرض ، من تصادم الكواكب ، وانخرام سيرها ، ومن زلازل الأرض وفيضان البراكين ، والبحار ، وجفاف المياه ، ونحو ذلك مما ينشأ عن اختلال النظام الذي كان عليه سير العالم ، وذلك كله يحدث شدة عظيمة على كل ذي إدراك من الموجودات .

[ ص: 204 ] ومن بديع الإيجاز تعدية فعل " ثقلت " بحرف الظرفية الدال على مكان حلول الفعل ، وحذف ما حقه أن يتعدى إليه وهو حرف " إلى " الذي يدل على ما يقع عليه الفعل ، ليعم كل ما تحويه السماوات والأرض مما يقع عليه الثقل بمعنى الشدة .

وجملة لا تأتيكم إلا بغتة مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة ، لأن الإتيان بغتة يحقق مضمون الإخبار عن وقتها بأنه غير معلوم إلا لله وبأن الله غير مظهره لأحد ، فدل قوله لا تأتيكم إلا بغتة على أن انتفاء إظهار وقتها انتفاء متوغل في نوعه بحيث لا يحصل العلم لأحد بحلولها بالكنه ولا بالإجمال ، وأما ما ذكر لها من أمارات في حديث سؤال جبريل عن أماراتها فلا ينافي إتيانها بغتة ، لأن تلك الأمارات ممتدة الأزمان بحيث لا يحصل معها تهيؤ للعلم بحلولها .

و البغتة مصدر على زنة المرة من البغت وهو المفاجأة أي الحصول بدون تهيؤ له ، وقد مضى القول فيها عند قوله - تعالى - حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة في سورة الأنعام .

وجملة يسألونك كأنك حفي عنها مؤكدة لجملة يسألونك عن الساعة ومبينة لكيفية سؤالهم ، فلذينك فصلت .

وحذف متعلق السؤال لعلمه من الجملة الأولى .

و حفي فعيل فيجوز أن يكون بمعنى فاعل مشتقا من حفي به مثل غني فهو غني إذا أكثر السؤال عن حاله تلطفا ويكون المعنى كأنك أكثرت السؤال عن وقتها حتى علمته ، فيكون وصف حفي كناية عن العالم بالشيء لأن كثرة السؤال تقتضي حصول العلم بالمسئول عنه ، وبهذا المعنى فسر في الكشاف فهو من الكناية بالسؤال عن طلب العلم لأن السؤال سبب العلم كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو غيرهما :


سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم     فليس سواء عالم وجهـول



وقول عامر بن الطفيل :

طلقت إن لم تسألي أي فارس     حليلك إذ لاقى صداء وخثعما



[ ص: 205 ] وقول أنيف بن زبان النبهاني :

فلما التقينا بين السيف بيننا     لسائلة عنا حفي سؤالها



ويجوز أن يكون مشتقا من أحفاه إذا ألح عليه في فعل ، فيكون فعيلا بمعنى مفعل مثل حكيم ، أي كأنك ملح في السؤال عنها ، أي ملح على الله في سؤال تعيين وقت الساعة كقوله - تعالى - إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا .

وقوله " كأنك حفي " حال من ضمير المخاطب في قوله " يسألونك " معترضة بين " يسألونك " ومتعلقه .

ويتعلق قوله " عنها " على الوجهين بكل من " يسألونك " و " حفي " على نحو من التنازع في التعليق .

ويجوز أن يكون " حفي " مشتقا من حفي به كرضي بمعنى بالغ في الإكرام فيكون مستعملا في صريح معناه ، والتقدير كأنك حفي بهم أي مكرم لهم وملاطف فيكون تهكما بالمشركين ، أي يظهرون لك أنك كذلك ليستنزلوك للخوض معهم في تعيين وقت الساعة ، روي عن ابن عباس : كأنك صديق لهم ، وقال قتادة : قالت قريش لمحمد : إن بيننا قرابة فأسر إلينا متى الساعة فقال الله - تعالى - يسألونك كأنك حفي عنها وعلى هذا الوجه يتعلق عنها ب " يسألونك " وحذف متعلق " حفي " لظهوره .

وبهذا تعلم أن تأخير عنها للإيفاء بهذه الاعتبارات .

وفي الآية إشارة إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تتعلق همته بتعيين وقت الساعة ، إذ لا فائدة له في ذلك ، ولأنه لو اهتم بذلك لكان في اهتمامه تطلبا لإبطال الحكمة في إخفائها ، وفي هذا إشارة إلى أن انتفاء علمه بوقتها لا ينافي كرامته على الله - تعالى - بأن الله أعطاه كمالا نفسيا يصرفه عن تطلب ذلك ، ولو تطلبه لأعلمه الله به ، كما صرف موسى - عليه السلام - عن الاستمرار على كراهة الموت حين حل أجله كيلا ينزع روحه وهو كاره ، وهذه سرائر عالية بين الله وبين الصالحين من عباده .

وأكدت جملة الجواب الأولى بقوله قل إنما علمها عند الله تأكيدا لمعناها [ ص: 206 ] ليعلم أن ذلك الجواب لا يرجى غيره وأن الحصر المشتمل عليه قوله إنما علمها عند ربي حصر حقيقي ثم عطف على جملة الجواب استدراك عن الحصر في قوله قل إنما علمها عند الله تأكيدا لكونه حصرا حقيقيا ، وإبطالا لظن الذين يحسبون أن شأن الرسل أن يكونوا عالمين بكل مجهول ، ومن ذلك وقت الساعة بالنسبة إلى أوقاتهم يستطيعون إعلام الناس فيستدلون بعدم علم الساعة على عدم صدق مدعي الرسالة ، وهذا الاعتقاد ضلالة ملازمة للعقول الأفنة ، فإنها تتوهم الحقائق على غير ما هي عليه ، وتوقن بما يخيل إليها ، وتجعله أصولا تبني عليها معارفها ومعاملاتها ، وتجعلها حكما في الأمور إثباتا ونفيا ، وهذا فرط ضلالة ، وإنه لضغث على إبالة بتشديد الباء وتخفيفها ، وقد حكى التاريخ القديم شاهدا مما قلناه وهو ما جاء في سفر دانيال من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة أن بختنصر ملك بابل رأى رؤيا أزعجته وتطلب تعبيرها ، فجمع العرافين والمنجمين والسحرة وأمرهم أن يخبروه بصورة ما رآه في حلمه من دون أن يحكيه لهم ، فلما أجابوه بأن هذا ليس في طاقة أحد من البشر ولا يطلع على ما في ضمير الملك إلا الآلهة ، غضب ، واغتاظ ، وأمر بقتلهم ، وأنه أحضر دانيال النبيء وكان من جملة أسرى بني إسرائيل في بابل وهدده بالقتل إن لم ينبئه بصورة رؤياه ، ثم بتعبيرها ، وأن دانيال استنظره مدة ، وأنه التجأ إلى الله بالدعاء هو وأصحابه " عزريا " و " ميشاييل " و " حننيا " فدعوا الله لينقذ دانيال من القتل ، وأن الله أوحى إلى دانيال بصورة ما رآه الملك فأخبر دانيال الملك بذلك ، ثم عبر له ، فنال حظوة لديه . انظر الإصحاح الثاني من سفر دانيال .

التالي السابق


الخدمات العلمية