الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس .

موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها ، فأما الأول فإن الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله :

تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق جمع ذلك كله في قوله تلك الرسل لفتا إلى العبر التي في خلال ذلك كله ، ولما أنهى ذلك كله عقبه بقوله وإنك لمن المرسلين تذكيرا بأن إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته ، إذ ما كان لمثله قبل بعلم ذلك لولا وحي الله إليه ، وفي هذا كله حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة :


بني عمه دنيا وعمرو بن عامر أولئك قوم بأسهم غير كاذب

والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله وإنك لمن المرسلين وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار ، حتى كأن جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مر من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال .

وأما الثاني فلأنه لما أفيض القول في القتال وفي الحث على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البينات ولكنهم أساءوا الفهم فجحدوا البينات فأفضى بهم سوء فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال ، فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع ضمير الشأن ، أي هي قصة الرسل وأممهم ، فضلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذب اليهود عيسى ومحمدا عليهما الصلاة والسلام ، وكذب النصارى محمدا صلى الله عليه وسلم .

وقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويها بمراتبهم كقوله ذلك الكتاب . [ ص: 6 ] واسم الإشارة مبتدأ و ( الرسل ) خبر ، وليس ( الرسل ) بدلا لأن الإخبار عن الجماعة بأنها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم ، وجملة ( فضلنا ) حال .

والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام ، وتعليم المسلمين أن هاته الفئة الطيبة مع عظيم شأنها قد فضل الله بعضها على بعض ، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلا الله تعالى ، غير أنها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المصلحة للبشر ومن نصر الحق ، وما لقوه من الأذى في سبيل ذلك ، وما أيدوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر ، وفي عموم ذلك الهدى ودوامه ، وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : لأن يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس ، فما بالك بمن هدى الله بهم أمما في أزمان متعاقبة ، ومن أجل ذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الرسل ، ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسول عليه السلام فيما لقي من قومه .

وقد خص الله من جملة الرسل بعضا بصفات يتعين بها المقصود منهم أو بذكر اسمه ، فذكر ثلاثة إذ قال : منهم من كلم الله وهذا موسى عليه السلام لاشتهاره بهذه الخصلة العظيمة في القرآن ، وذكر عيسى عليه السلام ، ووسط بينهما الإيماء إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بوصفه ، بقوله : ورفع بعضهم درجات .

وقوله ورفع بعضهم درجات يتعين أن يكون المراد من البعض هنا واحدا من الرسل معينا لا طائفة ، وتكون الدرجات مراتب من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد ؛ لأنه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مجملا ، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكرارا مع قوله فضلنا بعضهم على بعض ولأنه لو أريد بعض فضل على بعض لقال : ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى ورفع بعضكم فوق بعض درجات .

وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - والعرب تعبر بالبعض عن النفس كما في قول لبيد :


تراك أمكنة إذا لم أرضها     أو يعتلق بعض النفوس حمامها

[ ص: 7 ] أراد نفسه .

وعن المخاطب كقول أبي الطيب :


إذا كان بعض الناس سيفا لدولة     ففي الناس بوقات لها وطبول

والذي يعين المراد في هذا كله هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على واحد كقول طرفة :


إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني     عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى : ( وما أرسلناك عليهم وكيلا وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض ) عقب قوله وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا إلى أن قال : وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إلى قوله : ( ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض ) .

وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدم تعيين الفاضل من المفضول ; ذلك أن كل فريق اشتركوا في صفة خير لا يخلون من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم . وفي تمييز صفات التفاضل غموض ، وتطرق لتوقع الخطأ وعروض ، وليس ذلك بسهل على العقول المعرضة للغفلة والخطأ ، فإذا كان التفضيل قد أنبأ به رب الجميع ومن إليه التفضيل ، فليس من قدر الناس أن يتصدروا لوضع الرسل في مراتبهم ، وحسبهم الوقوف عند ما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله .

وهذا مورد الحديث الصحيح لا تفضلوا بين الأنبياء يعني به النهي عن التفضيل التفصيلي ، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال ، كما نقول : الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلا . وقد ثبت أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أفضل الرسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه . وهي متقارنة الدلالة تنصيصا وظهورا ، إلا أن كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملا بقاعدة : كثرة الظواهر تفيد القطع ، وأعظمها آية وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه الآية .

[ ص: 8 ] وأما قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى يعني بقوله ( أنا ) نفسه على أرجح الاحتمالين ، وقوله : لا تفضلوني على موسى فذلك صدر قبل أن ينبئه الله بأنه أفضل الخلق عنده .

وهذه الدرجات كثيرة عرفنا منها : عموم الرسالة لكافة الناس ، ودوامها طول الدهر ، وختمها للرسالات ، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعوذة ، وبدوام تلك المعجزة ، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهل نفسه لإدراك الإعجاز ، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال ، وبتيسير إدانة معانديه له ، وتمليكه أرضهم وديارهم وأموالهم في زمن قصير ، وبجعل نقل معجزته متواترا لا يجهلها إلا مكابر ، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به وقد عطف ما دل على نبيئنا - صلى الله عليه وسلم - على ما دل على موسى عليهما السلام لشدة الشبه بين شريعتيهما ، لأن شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع ، مما قبلها ، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام .

وتكليم الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطة جبريل ، بأن أسمعه كلاما أيقن أنه صادر بتكوين الله ، بأن خلق الله أصواتا من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة ، وسيجيء بيان ذلك عند قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما في سورة النساء .

وقوله : وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس البينات هي المعجزات الظاهرة البينة ، وروح القدس هو جبريل ، فإن الروح هنا بمعنى الملك الخاص كقوله تنزل الملائكة والروح فيها .

و القدس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميم بمعنى الخلوص والنزاهة ، فإضافة روح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ولذلك يقال الروح القدس ، وقيل : القدس اسم الله كالقدوس ، فإضافة ( روح ) إليه إضافة أصلية ، أي : روح من ملائكة الله .

[ ص: 9 ] وروح القدس هو جبريل قال تعالى : قل نزله روح القدس من ربك بالحق وفي الحديث إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وفي الحديث أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال لحسان اهجهم ومعك روح القدس .

وإنما وصف عيسى بهذين مع أن سائر الرسل أيدوا بالبينات وبروح القدس ، للرد على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته ، وللرد على النصارى الذين غلوا فزعموا ألوهيته ، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه ، مهما ذكر ، للتنبيه على أن ابن الإنسان لا يكون إلها ، وعلى أن مريم أمة الله تعالى لا صاحبة ؛ لأن العرب لا تذكر أسماء نسائها وإنما تكني ، فيقولون : ربة البيت ، والأهل ، ونحو ذلك . ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل ، أو أسماء الإماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية