الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد .

أعقب التحريض على الصدقات والإنفاق بالإشارة إلى دحض سبب الشح أنه الحرص على استبقاء المال لإنفاقه في لذائذ الحياة الدنيا ، فضرب لهم مثل الحياة الدنيا بحال محقرة على أنها زائلة تحقيرا لحاصلها وتزهيدا فيها لأن التعلق بها يعوق عن الفلاح قال تعالى ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ، وقال وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا .

كل ذلك في سياق الحث على الإنفاق الواجب وغيره ، وأشير إلى أنها ينبغي أن تتخذ الحياة وسيلة للنعيم الدائم في الآخرة ، ووقاية من العذاب الشديد ، وما [ ص: 401 ] عدا ذلك من أحوال الحياة فهو متاع قليل ، ولذلك أعقب مثل الحياة الدنيا بالإخبار عن الآخرة بقوله وفي الآخرة عذاب إلخ .

وافتتاح هذا بقوله تعالى " اعلموا " للوجه الذي بيناه آنفا في قوله اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها .

و ( أنما ) المفتوحة الهمزة أخت ( إنما ) المكسورة الهمزة في إفادة الحصر ، وحصر الحياة الدنيا في الأخبار الجارية عليها هو قصر أحوال الناس في الحياة على هذه الأمور الستة باعتبار غالب الناس ، فهو قصر ادعائي بالنظر إلى ما تنصرف إليه همم غالب الناس من شئون الحياة الدنيا ، والتي إن سلم بعضهم من بعضها لا يخلو من ملابسة بعض آخر إلا الذين عصمهم الله تعالى فجعل أعمالهم في الحياة كلها لوجه الله ، وإلا فإن الحياة قد يكون فيها أعمال التقى والمنافع والإحسان والتأييد للحق وتعليم الفضائل وتشريع القوانين .

وقد ذكر هنا من شئون الحياة ما هو الغالب على الناس وما لا يخلو من مفارقة تضييع الغايات الشريفة أو اقتحام مساو ذميمة ، وهي أصول أحوال المجتمع في الحياة ، وهي أيضا أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم ، فإن اللعب طور سن الطفولة والصبا ، واللهو طور الشباب ، والزينة طور الفتوة ، والتفاخر طور الكهولة ، والتكاثر طور الشيخوخة . وذكر هنا خمسة أشياء .

فاللعب : اسم لقول أو فعل يراد به المزاح والهزل لتمضية الوقت أو إزالة وحشة الوحدة ، أو السكون ، أو السكوت ، أو لجلب فرح ومسرة للنفس ، أو يجلب مثل ذلك للحبيب ، أو يجلب ضده للبغيض ، كإعمال الأعضاء وتحريكها دفعا لوحشة السكون ، والهذيان المقصود لدفع وحشة السكوت ، ومنه العبث ، وكالمزاح مع المرأة لاجتلاب إقبالها ومع الطفل تحببا أو إرضاء له .

واللعب : هو الغالب على أعمال الأطفال والصبيان فطور الطفولة طور اللعب ويتفاوت غيرهم في الإتيان منه فيقل ويكثر بحسب تفاوت الناس في الأطوار الأولى من الإنسان وفي رجاحة العقول وضعفها . والإفراط فيه من غير أصحاب طوره يؤذن بخسة العقل ، ولذلك قال قوم إبراهيم له أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين . [ ص: 402 ] واللعب يكثر في أحوال الناس في الدنيا فهو جزء عظيم من أحوالها وحسبك أنه يعمر معظم أحوال الصبا .

واللهو : اسم لفعل أو قول يقصد منه التذاذ النفس به وصرفها عن ألم حاصل من تعب الجسد أو الحزن أو الكمد ، يقال : لها عن الشيء ، أي : تشاغل عنه . قال امرؤ القيس :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل

وقال النابغة يذكر حجه :

حياك ربي فإنا لا يحل لنا     لهو النساء وإن الدين قد عزما

ويغلب اللهو على أحوال الشباب فطور الشباب طوره ، ويكثر اللهو في أحوال الدنيا من تطلب اللذات والطرب .

والزينة : تحسين الذات أو المكان بما يجعل وقعه عند ناظره مسرا له ، وفي طباع الناس الرغبة في أن تكون مناظرهم حسنة في عين ناظريهم وذلك في طباع النساء أشد ، وربما كان من أسباب شدته فيهن كثرة إغراء الرجال لهن بذلك .

ويكثر التزين في طور الفتوة لأن الرجل يشعر بابتداء زوال محاسن شبابه والمرأة التي كانت غانية تحب أن تكون حالية ، وليس ذلك لأجل تعرضها للرجال كما يتوهمه الرجال فيهن غرورا بأنفسهم بل ذلك لتكون حسنة في الناس من الرجال والنساء .

ويغلب التزين على أحوال الحياة فإن معظم المساكن والملابس يراد منه الزينة ، وهي ذاتية ومعنوية ، ومن المعنوية ما يسمى في أصول الفقه بالتحسيني .

والتفاخر : الكلام الذي يفخر به ، والفخر : حديث المرء عن محامده والصفات المحمودة منها فيه بالحق أو الباطل . وصيغ منه زنة الفاعل لأن شأن الفخر أن يقع بين جانبين كما أنبأ به تقييده بظرف " بينكم " .

والناس يتفاخرون بالصفات المحمودة في عصورهم وأجيالهم وعاداتهم ، فمن [ ص: 403 ] الصفات ما الفخر به غير باطل . وهي الصفات التي حقائقها محمودة في العقل أو الشرع . ومنها ما الفخر به باطل من الصفات والأعمال التي اصطلح قوم على التمدح بها وليست حقيقة بالمدح مثل التفاخر بالإغلاء في ثمن الخمور وفي الميسر والزنى والفخر بقتل النفوس والغارة على الأموال في غير حق .

وأغلب التفاخر في طور الكهولة واكتمال الأشد لأنه زمن الإقبال على الأفعال التي يقصد منها الفخر .

والتفاخر كثيرا في أحوال الناس في الدنيا ، ومنه التباهي والعجب ، وعنه ينشأ الحسد .

والتكاثر : تفاعل من الكثرة ، وصيغة التفاعل هنا للمبالغة في الفعل بحيث ينزل منزلة من يغالب غيره في كثرة شيء ، فإنه يكون أحرص على أن يكون الأكثر منه عنده فكان المرء ينظر في الكثرة من الأمر المحبوب إلى امرئ آخر له الكثرة منه ، ألا ترى إلى قول طرفة :

فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم     ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي     بنون كرام سادة لمسود

ثم شاع إطلاق صيغة التكاثر فصارت تستعمل في الحرص على تحصيل الكثير من غير مراعاة مغالبة الغير ممن حصل عليه ، قال تعالى ألهاكم التكاثر .

و ( في ) من قوله في الأموال والأولاد : إما مستعملة في التعليل ، وإما هي الظرفية المجازية ، فإن جعلت الأموال كالظرف يحصل تكاثر الناس عنده كمن ينزع في بئر .

والمعنى : أن الله أقام نظام أحوال الناس في الحياة الدنيا على حكمة أن تكون الحياة وسيلة لبلوغ النفوس إلى ما هيأها الله له من العروج إلى سمو الملكية كما دل عليه قوله إني جاعل في الأرض خليفة ، فكان نظام هذه الحياة على أن تجري أمور الناس فيها على حسب تعاليم الهدى للفوز بالحياة الأبدية من نعيم الحق بعد الممات والبعث ، فإذا الناس قد حرفوها عن مهيعها ، وقد تضمن ذلك قوله [ ص: 404 ] تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

التالي السابق


الخدمات العلمية