الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة .

استصعب في كلام المفسرين تحصيل المعنى المستفاد من هذه الآيات الأربع [ ص: 469 ] من أول هذه السورة تحصيلا ينتزع من لفظها ونظمها ، فذكر الفخر عن الواحدي في التفسير البسيط له أنه قال : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء . قال الفخر : ( ثم إنه لم يلخص كيفية الإشكال فيها ، وأنا أقول : وجه الإشكال أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا ، لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر والشرك اللذين كانوا عليهما ؛ فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم إن كلمة ( حتى ) لانتهاء الغاية ؛ فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول - صلى الله عليه وسلم ، ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحينئذ حصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر ) اهـ كلام الفخر .

يريد أن الظاهر أن قوله : رسول من الله بدل من البينة ، وأن متعلق منفكين حذف لدلالة الكلام عليه ; لأنهم لما أجريت عليهم صلة الذين كفروا دل ذلك على أن المراد لم يكونوا منفكين على كفرهم ، وإن حرف الغاية يقتضي أن إتيان البينة المفسرة بـ رسول من الله هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كفرهم ؛ أي : فعند إتيان البينة يكونون منفكين عن كفرهم فكيف مع أن الله يقول وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة فإن تفرقهم راجع إلى تفرقهم عن الإسلام وهو ازدياد في الكفر إذ به تكثر شبه الضلال التي تبعث على التفرق في دينهم مع اتفاقهم في أصل الكفر ، وهذا الأخير بناء على اعتبار قوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلخ كلاما متصلا بإعراضهم عن الإسلام ؛ وذلك الذي درج عليه المفسرون . ولنا في ذلك كلام سيأتي .

ومما لم يذكره الفخر من وجه الإشكال : أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن ما ، وأن نصب المضارع بعد حتى ينادي على أنه منصوب بـ ( أن ) مضمرة بعد ( حتى ) فيقتضي أن إتيان البينة مستقبل ؛ وذلك لا يستقيم ، فإن البينة فسرت بـ رسول من الله وإتيان الرسول وقع قبل [ ص: 470 ] نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه : هؤلاء على كفرهم ، وهؤلاء على شركهم .

وإذ قد تقرر وجه الإشكال وكان مظنونا أنه ملحوظ للمفسرين إجمالا أو تفصيلا فقد تعين أن هذا الكلام ليس واردا على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه ، فوجب صرفه عن ظاهره ، إما بصرف تركيب الخبر عن ظاهر الإخبار وهو إفادة المخاطب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب ، بأن يصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب ، وإما بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجاز أو كناية .

فمن المفسرين من سلك طريقة صرف الخبر عن ظاهره ، ومنهم من أبقوا الخبر على ظاهر استعماله وسلكوا طريقة صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها وهؤلاء منهم من تأول لفظ ( منفكين ) ومنهم من تأول معنى ( حتى ) ومنهم من تأول ( رسول ) ، وبعضهم جوز في البينة وجهين .

وقد تعددت أقوال المفسرين فبلغت بضعة عشر قولا ذكر الألوسي أكثرها وذكر القرطبي معظمها غير معزو ، وتداخل بعض ما ذكره الألوسي ، وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر .

ومراجع تأويل الآية تئول إلى خمسة .

الأول : تأويل الجملة بأسرها بأن يئول الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب ، وإلى هذا ذهب الفراء ونفطويه والزمخشري .

الثاني : تأويل معنى منفكين بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم ؛ وهو لابن عطية .

الثالث : تأويل متعلق " منفكين " بأنه عن الكفر وهو لعبد الجبار ، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيان . أو منفكين عن الشهادة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبد الرحمن الملقب بالأصم ، أو منفكين عن الحياة ، أي : هالكين ، وعزي إلى بعض اللغويين .

[ ص: 471 ] الرابع : تأويل ( حتى ) أنها بمعنى ( إن ) الاتصالية . والتقدير : وإن جاءتهم البينة .

الخامس : تأويل ( رسول ) بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفا من عند الله فهو في معنى قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء وعزاه الفخر إلى أبي مسلم وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم .

هذا والمراد بـ الذين كفروا من أهل الكتاب أنهم كفروا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - مثلما في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب .

وأنت لا يعوزك إرجاع أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد ، فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها فدونك فراجعها إن شئت ؛ فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين .

إن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإصرار على الكفر عنادا ، فلنسلك بالخبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبة الخبرية ، فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قبيل استعمال الخبر في الإنشاء والاستفهام في التوبيخ ونحو ذلك الذي قال فيه التفتزاني في المطول : إن بيان أنه من أي أنواع المجاز هو مما لم يحم أحد حوله ، والذي تصدى السيد الشريف لبيانه بما لا يبقي فيه شبهة .

فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها ، فهو من الحكاية لما كانوا يعدون به ، فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل : كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة ، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكاية من صلف المخبر عنه ، وهو استعمال عزيز بديع . وقريب منه قوله تعالى : يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون إذ عبر بصيغة يحذر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقا ولذلك قال الله تعالى : قل استهزئوا .

[ ص: 472 ] فالخبر موجه لكل سامع ، ومضمونه قول " كان صدر من أهل الكتاب واشتهر عنهم وعرفوا به وتقرر تعلل المشركين به لأهل الكتاب حين يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا : لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم " .

وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - للإسلام ، قال تعالى : الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار الآية .

وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة ، وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله : حتى تأتيهم البينة مصادفا المحز فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقريب من قوله تعالى في أهل الكتاب ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .

وحاصل المعنى : أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة ، أي العلامة التي وعدنا بها .

وقد جعل ذلك تمهيدا وتوطئة لقوله بعده رسول من الله يتلو صحفا مطهرة إلخ .

وإذ اتضح موقع هذه الآية وانقشع إشكالها فلننتقل إلى تفسير ألفاظ الآية .

فالانفكاك : الإقلاع ، وهو مطاوع فكه إذا فصله وفرقه ويستعار لمعنى أقلع عنه ، ومتعلق منفكين محذوف ؛ دل عليه وصف المتحدث عنهم بصلة الذين كفروا والتقدير : منفكين عن كفرهم وتاركين له ، سواء كان كفرهم إشراكا بالله مثل كفر المشركين أو كان كفرا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا القول صادر من اليهود الذين في المدينة والقرى التي حولها ويتلقفه المشركون بمكة الذين لم ينقطعوا عن الاتصال بأهل الكتاب منذ ظهرت دعوة الإسلام يستفتونهم في ابتكار مخلص يتسللون به [ ص: 473 ] عن ملام من يلومهم على الإعراض عن الإسلام ، وكذلك المشركون الذين حول المدينة من الأعراب مثل جهينة وغطفان ، ومن أفراد المنتصرين بمكة أو المدينة .

وقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، وقال عنهم : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وحكى عن النصارى بقوله تعالى حكاية عن عيسى ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين . وقال عن الفريقين : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، وحكى عن المشركين بقوله : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وقولهم فليأتنا بآية كما أرسل الأولون .

ولم يختلف أهل الكتابين في أنهم أخذ عليهم العهد بانتظار نبيء ينصر الدين الحق ؛ وجعلت علاماته دلائل تظهر من دعوته كقول التوراة في سفر التثنية : ( أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه ) . ثم قولها فيه : ( وأما النبيء الذي يطغى فيتكلم كلاما لم أوصه أن يتكلم به فيموت ذلك النبي ، وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فما تكلم به النبيء باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب ) ( الإصحاح الثامن عشر ) . وقول الإنجيل ( وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد ) أي شريعته ; لأن ذات النبيء لا تمكث إلى الأبد ( روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه ) يوحنا الإصحاح الرابع عشر الفقرة 6 ( وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم بكل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم ) ( يوحنا الإصحاح الرابع عشر فقرة 26 ) .

وقوله : ويقوم أنبياء كذبة كثيرون - أي بعد عيسى - ويضلون كثيرين ، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى - أي يبقى إلى انقراض الدنيا وهو مئول ببقاء دينه إذ لا يبقى أحد حيا إلى انقراض الدنيا - فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل [ ص: 474 ] المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى - أي نهاية الدنيا - ) ( متى الإصحاح الرابع والعشرون ) ، أي : فهو خاتم الرسل كما هو بين .

وكان أحبارهم قد أساءوا التأويل للبشارات الواردة في كتبهم بالرسول المقفي ، وأدخلوا علامات يعرفون بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - الموعود به هي من المخترعات الموهومة ، فبقي من خلفهم ينتظرون تلك المخترعات فإذا لم يجدوها كذبوا المبعوث إليهم .

والبينة : الحجة الواضحة والعلامة على الصدق ، وهو اسم منقول من الوصف جرى على التأنيث لأنه مئول بالشهادة أو الآية .

ولعل إيثار التعبير بها هنا لأنها أحسن ما تترجم به العبارة الواقعة في كتب أهل الكتاب مما يحوم حول معنى الشهادة الواضحة لكل متبصر كما وقع في إنجيل متى لفظ ( شهادة لجميع الأمم ) ، ( ولعل التزام هذه الكلمة هنا مرتين كان لهذه الخصوصية ) . وقد ذكرت مع ذكر الصحف الأولى في قوله : وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى .

والظاهر أن التعريف في البينة تعريف العهد الذهني ، وهو أن يراد معهود بنوعه لا بشخصه كقولهم : ادخل السوق ، لا يريدون سوقا معينة بل ما يوجد فيه ماهية سوق ، ومنه قول زهير :


وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم



ولذلك قال علماء البلاغة : إن المعرف بهذه اللام هو في المعنى نكرة ؛ فكأنه قيل حتى تأتيهم بينة .

ويجوز أن يكون التعريف لمعهود عند المخبر عنهم ؛ أي : البينة التي هي وصايا أنبيائهم فهي معهودة عند كل فريق منهم وإن اختلفوا في تخيلها وابتعدوا في توهمها بما تمليه عليه تخيلاتهم واختلاقهم .

وأوثرت كلمة البينة لأنها تعبر عن المعنى الوارد في كلامهم ، ولذلك نرى مادتها متكررة في آيات كثيرة من القرآن في هذا الغرض كما في قوله : أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى . وقوله : فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين [ ص: 475 ] وقوله : من بعد ما تبين لهم الحق وقال عن القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان .

و ( من ) في قوله : من أهل الكتاب بيانية بيان للذين كفروا .

وإنما قدم أهل الكتاب على المشركين هنا مع أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب ; لأن لأهل الكتاب السبق في هذا المقام فهم الذين بثوا بين المشركين شبهة انطباق البينة الموصوفة بينهم ، فأيدوا المشركين في إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بما هو أتقن من ترهات المشركين ، إذ كان المشركون أميين لا يعلمون شيئا من أحوال الرسل والشرائع ؛ فلما صدمتهم الدعوة المحمدية فزعوا إلى اليهود ليتلقوا منهم ما يردون به تلك الدعوة وخاصة بعدما هاجر النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة .

فالمقصود بالإبطال ابتداء هو دعوى أهل الكتاب وأما المشركون فتبع لهم .

واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله : حتى تأتيهم البينة ، فيكون الوقف هناك ويكون قوله : رسول من الله إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو قول الفراء ، أي : هي رسول من الله ، يعني : لأن ما في البينة من الإبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة ، وهي جملة معترضة بين جملة لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين إلى آخرها وبين جملة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب .

ويجوز أن يكون رسول بدلا من البينة فيقتضي أن يكون من تمام لفظ ( بينة ) فيكون من حكاية ما زعموه . أريد إبطال معاذيرهم وإقامة الحجة عليهم بأن البينة التي ينتظرونها قد حلت ولكنهم لا يتدبرون أو لا ينصفون أو لا يفقهون ؛ قال تعالى : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .

وتنكير ( رسول ) للنوعية المراد منها تيسير ما يستصعب كتنكير قوله تعالى : أياما معدودات وقول المص كتاب أنزل إليك .

وفي هذا التبيين إبطال لمعاذيرهم كأنه قيل : فقد جاءتكم البينة ، على حد قوله تعالى : أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير ، وهو يفيد [ ص: 476 ] أن البينة هي الرسول ، وذلك مثل قوله تعالى : قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله .

فأسلوب هذا الرد مثل أسلوب قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا .

وفي هذا تذكير بغلطهم فإن كتبهم ما وعدت إلا بمجيء رسول معه شريعة وكتاب مصدق لما بين يديه ، وذلك مما يندرج في قولة التوراة ( وأجعل كلامي في فمه ) .

وقول الإنجيل ( ويذكركم بكل ما قلته لكم ) كما تقدم آنفا ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب لأن التوراة والإنجيل لم يصفا النبيء الموعود به إلا بأنه مثل موسى أو مثل عيسى ، أي في أنه رسول يوحي الله إليه بشريعة ، وأنه يبلغ عن الله وينطق بوحيه ، وأن علامته هو الصدق كما تقدم آنفا . قال حجة الإسلام في كتاب المنقذ من الضلال : " إن مجموع الأخلاق الفاضلة كان بالغا في نبينا إلى حد الإعجاز ، وإن معجزاته كانت غاية في الظهور والكثرة " .

و من الله متعلق بـ ( رسول ) ولم يسلك طريق الإضافة ليتأتى تنوين ( رسول ) فيشعر بتعظيم هذا الرسول .

وجملة يتلو صحفا إلخ صفة ثانية أو حال ، وهي إدماج بالثناء على القرآن ، إذ الظاهر أن الرسول الموعود به في كتبهم لم يوصف بأنه يتلو صحفا مطهرة .

والتلاوة : إعادة الكلام دون زيادة عليه ولا نقص منه سواء كان كلاما مكتوبا أو محفوظا عن ظهر قلب ، ففعل يتلو مؤذن بأنه يقرأ عليهم كلاما لا تبدل ألفاظه وهو الوحي المنزل عليه .

[ ص: 477 ] والصحف : الأوراق والقراطيس التي تجعل لأن يكتب فيها ، وتكون من رق أو جلد ، أو من خرق . وتسمية ما يتلوه الرسول صحفا مجاز بعلاقة الأيلولة ; لأنه مأمور بكتابته فهو عند تلاوته سيكون صحفا ؛ فهذا المجاز كقوله : إني أراني أعصر خمرا . وهذا إشارة إلى أن الله أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكتابة القرآن في الصحف وما يشبه الصحف من أكتاف الشاء والخرق والحجارة ، وأن الوحي المنزل على الرسول سمي كتابا في قوله تعالى : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم لأجل هذا المعنى .

وتعدية فعل " يتلو " إلى " صحفا " مجاز مرسل مشهور ساوى الحقيقة قال تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب وهو باعتبار كون المتلو مكتوبا ، وإنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو عليهم القرآن عن ظهر قلب ولا يقرؤه من صحف فمعنى يتلو صحفا يتلو ما هو مكتوب في صحف ، والقرينة ظاهرة وهي اشتهار كونه - صلى الله عليه وسلم - أميا .

ووصفت الصحف بـ ( مطهرة ) وهو وصف مشتق من الطهارة المجازية ، أي : كون معانيه لا لبس فيها ولا تشتمل على ما فيه تضليل ، وهذا تعريض ببعض ما في أيدي أهل الكتاب من التحريف والأوهام .

ووصفت الصحف التي يتلوها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأن فيها كتبا ، والكتب : جمع كتاب ، وهو فعال اسم بمعنى المكتوب ؛ فمعنى كون الكتب كائنة في الصحف أن الصحف التي يكتب فيها القرآن تشتمل على القرآن وهو يشتمل على ما تضمنته كتب الرسل السابقين مما هو خالص من التحريف والباطل . وهذا كما قال تعالى :مصدقا لما بين يديه وقال : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فالقرآن زبدة ما في الكتب الأولى ومجمع ثمرتها ، فأطلق على ثمرة الكتب اسم كتب على وجه مجاز الجزئية .

والمراد بالكتب أجزاء القرآن أو سوره فهي بمثابة الكتب .

والقيمة : المستقيمة ، أي : شديدة القيام الذي هو هنا مجاز في الكمال والصواب ؛ وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيها بالقائم لاستعداده للعمل النافع ، وضده العوج قال تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ ص: 478 ] أي : لم يجعل فيه نقص الباطل والخطأ ، فالقيمة مبالغة في القائم مثل السيد للسائد والميت .

وتأنيث الوصف لاعتبار كونه وصفا لجمع .

التالي السابق


الخدمات العلمية