الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله - تعالى - : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      بين - جل وعلا - أنه ( كبر على المشركين ) أي شق عليهم وعظم ما يدعوهم إليه - صلى الله عليه وسلم - من عبادة الله - تعالى - وحده ، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ، ولعظم ذلك ومشقته عليهم كانوا يكرهون ما أنزل الله ، ويجتهدون في عدم سماعه لشدة كراهتهم له ، بل يكادون يبطشون بمن يتلو عليهم آيات ربهم لشدة بغضهم وكراهتهم لها .

                                                                                                                                                                                                                                      والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة في كتاب الله ، وفيها بيان أن ذلك هو عادة الكافرين مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد بين - تعالى - مشقة ذلك على قوم نوح وكبره عليهم في مواضع من كتابه ، كقوله - تعالى - : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت الآية [ 10 \ 71 ] . وقوله - تعالى - عن نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله - تعالى - : جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهتهم لما يدعوهم إليه نوح ، فهو واضح في أنهم كبر عليهم ما يدعوهم إليه من توحيد الله والإيمان به .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد بين الله - تعالى - مثل ذلك في الكفار الذين كذبوا نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] . فقوله - تعالى - : تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية - يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهيتهم لسماع تلك الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وكقوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه الآية [ 41 \ 26 ] . وقوله - تعالى - في " الزخرف " : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون [ 43 \ 78 ] . [ ص: 63 ] وقوله - تعالى - في " قد أفلح المؤمنون " : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] . وقوله - تعالى - في " القتال " : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم [ 45 \ 6 - 8 ] . وقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [ 31 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب الآية [ 41 \ 5 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن هؤلاء الذين يكرهون ما أنزل الله يجب على كل مسلم أن يحذر كل الحذر من أن يطيعهم في بعض أمرهم; لأن ذلك يستلزم نتائج سيئة متناهية في السوء ، كما أوضح - تعالى - ذلك في قوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 24 - 28 ] . فعلى كل مسلم أن يحذر ثم يحذر ثم يحذر كل الحذر من أن يقول للذين كفروا ، الذين يكرهون ما أنزل الله - : سنطيعكم في بعض الأمر ; لأن ذلك يسبب له ما ذكره الله في الآيات المذكورة ، ويكفيه زجرا وردعا عن ذلك قول ربه - تعالى - : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم إلى قوله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية