الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .

                                                                                                                                                                                                                                      سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أنه لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد تميم ، أشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس ، وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم الأقرع بن حابس بن عقال ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما فأنزل الله : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ذكره البخاري في صحيحه وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحترموه ويوقروه ، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ، أي ينادونه باسمه : يا محمد ، يا أحمد ، كما ينادي بعضهم بعضا .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما أمروا أن يخاطبوه خطابا يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض ، كأن [ ص: 402 ] يقولوا : يا نبي الله أو يا رسول الله ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أن تحبط أعمالكم أي لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم ، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم ، وأنتم لا تشعرون أي : لا تعلمون بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه واحترامه جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى : لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه [ 48 \ 9 ] ، على القول بأن الضمير في وتعزروه وتوقروه للنبي - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ 24 \ 63 ] ، كما تقدم وقوله تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه [ 7 \ 157 ] ، وقوله هنا : ولا تجهروا له بالقول أي لا تنادوه باسمه : كـ : يا محمد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله تعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه ، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير ، كقوله : ياأيها النبي [ 9 \ 73 ] ، ياأيها الرسول [ 5 \ 41 ] ، ياأيها المزمل [ 73 \ 1 ] ، ياأيها المدثر [ 74 \ 1 ] ، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم كقوله : وقلنا ياآدم [ 2 \ 35 ] ، وقوله : وناديناه أن ياإبراهيم [ 37 \ 104 ] ، وقوله : قال يانوح إنه ليس من أهلك [ 11 \ 46 ] ، قيل يانوح اهبط بسلام منا [ 11 \ 48 ] ، وقوله : قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس [ 7 \ 144 ] ، وقوله : إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك [ 3 \ 55 ] ، وقوله : ياداود إنا جعلناك خليفة [ 38 \ 29 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر اسمه في القرآن في خطاب ، وإنما يذكر في غير ذلك كقوله : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل [ 3 \ 144 ] ، وقوله : وآمنوا بما نزل على محمد [ 47 \ 2 ] ، وقوله : محمد رسول الله والذين معه [ 48 \ 29 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد بين تعالى أن توقيره واحترامه - صلى الله عليه وسلم - بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، أي أخلصها لها وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم ، وذلك في قوله تعالى : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [ 49 \ 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 403 ] وقال بعض العلماء في قوله : ولا تجهروا له بالقول أي لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه : وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة ، وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها . انتهى محل الغرض منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر ، وقد قال القرطبي : إنه لا يحبط عمله بغير شعوره ، وظاهر الآية يرد عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه : وقوله عز وجل أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض " انتهى محل الغرض منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته كحرمته في أيام حياته ، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره - صلى الله عليه وسلم - وهم في صخب ولغط . وأصواتهم مرتفعة ارتفاعا مزعجا كله لا يجوز ، ولا يليق ، وإقرارهم عليه من المنكر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده - صلى الله عليه وسلم - وقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية